القرضاوي و مشروع النهضة السني البديل 2008
الدعوة إلى مشروع «سني» بديل، كما صرّح الدكتور يوسف القرضاوي مؤخراً ( 25 سبتمبر 2008) في حوار له مع الإعلامي عمرو أديب على قناة اليوم [1]، دعوة ليست مبكرة على الإطلاق.. بل إني أخشى أنها متأخرة نوعاً ما وأخشى أكثر منها أنها ستكون صرخة في واد، وهذا كله يجب أن يلهينا عن بعض الملاحظات على دعوة القرضاوي.
لا بد من الإقرار أن تسمية المشروع البديل بالمشروع «السني»، ومن بدايته، تحتوي على مشكلة السقوط في فخ «رد الفعل» الطائفي الذي سيجر المزيد من الطائفية.. فالمشروع البديل يجب ألا يكون مجرد رد فعل مذهبي ضد مشروع إقليمي قائم ويعيش لحظات انتصاره حالياً. لأن بناء مشروع على رد الفعل هو بالذات ما يمكن أن يقضي على المشروع من أساسه، المشروع البديل يجب أن يملك ثوابت مستقلة عن لعبة الفعل ورد الفعل، ثوابت لا تتغير، على الأقل لحين أن يتحول المشروع إلى منجز على أرض الواقع..
هذه الثوابت يجب ألا تكون معبأة بردود الأفعال، لكنها في الوقت ذاته، يجب ألا تكون معزولة في أنبوب مفرغ من الهواء يجعلها بعيدة عن تحديات الواقع وإرهاصاته.. المشروع البديل، عندما يكون مشروعاً حقاً، فإنه يجب ألا يربط هدفه بفشل أو نجاح المشروع المضاد — الأمر ليس إفشال المشروع المجاور بقدر إثبات أصالة مشروعك، ماذا لو لم يكن هناك مشروع للآخر، ماذا لو أنه تعثر وفشل، هل سنكف عن بناء مشروعنا لمجرد أن المشروع الآخر قد فشل؟
إضافة إلى ذلك فإن المشروع «البديل» يجب ألا يكون بديلاً عن المشروع الإقليمي المذهبي فقط، بل يجب أن يكون بديلاً عن المشروع الغربي الذي له أخطاره، وإن اختلفت طبيعتها، وهو مشروع يمتلك أجنحة متعددة منها ما هو صريح العداء للدين وحتى الإلحاد، ومنها ما يحاول أن يستخدم صبغة إسلامية..
وسيكون من السذاجة التصور أن صراع المشروعين «الإقليمي والغريبي» حاليا هو صراع سياسي فقط، السياسة هي القمة الظاهرة من جبل مغمور بالمياه، وهي الأكثر بروزا والأضواء تسلط عليها أكثر، لكن الصراع أيضا في جوهره ثقافي بالمعنى الواسع لكلمة ثقافة.. بل إنه ثقافي قبل أن يكون أي نوع آخر من الصراع..
المشروع البديل يجب أن يستقل بتوازن وثبات عن المشروعين معاً، فتناسي سلبيات المشروع الغريبي وتحدياته في خضم تحدي المشروع المذهبي الآخر، سيجعل من المشروع البديل تابعاً للمشروع الغريبي، والعكس صحيح أيضاً، التركيز على المشروع الغريبي —دون المشروع الآخر، سيجعل من المشروع البديل يسقط في فخ التبعية للمشروع الإقليمي المذهبي. لهذا كله، فالاستقلال بثوابت واضحة، عن المشروعين معاً، هو الحل الوحيد لعدم السقوط في الانجرار إلى التبعية لأي منهما..
كما أن التعويل على أن المشروع الغريبي، (سينقذنا)-!- من المشروع الإقليمي المذهبي، ينطوي على مبالغة في التبسيط وحسن الظن، فالصراع بين المشروعين ليس بالضرورة صراع حياة أو موت، وقد ينتهي بتقاسم السيطرة والنفوذ، كما تنتهي صراعات كثيرة، وربما بدأ ذلك يرشح من الآن.. تبقى عدة ملاحظات لا مفر من إيرادها على دعوة القرضاوي:
أولاً — إشارته إلى دول سنية كبرى (مصر، تركيا، إندونيسيا، والباكستان)، التي يجب أن تتبنى هذه الدعوة. تبدو بعض هذه الدول اليوم مثقلة بهموم اقتصادية — واجتماعية، والبعض الآخر يبدو أنه قد مضى في خطوات أخرى (ناجحة) ولكنها تسير في اتجاه آخر وفضاء مغاير عما يدعو إليه القرضاوي.. ربما كانت هذه الدول نماذج ممكنة للنهضة في الخمسينيات من القرن الماضي، لكن الوضع تغير الآن، رغم أن هذه الدول تمتلك طاقات فكرية لا يمكن تجاوزها على الإطلاق في إنجاز أي مشروع بديل..
ثانياً — التغيرات التي طرأت في العالم، لم تعد تفرض حجم الدولة كمعيار أساسي لدعم النهضة، بل على العكس صار يمكن لدولة صغيرة الحجم أو متوسطته، مع موارد اقتصادية قوية، وإرادة مستقلة، وطموح كبير، أن تحقق إنجازات مهمة على صعيد المشروع البديل.
ثالثاً — في هذا الإطار، لا يمكن على الإطلاق تجاوز التجربة الخليجية، وهي لا تختزل أبداً برأس المال الخليجي، كما كان يمكن أن يحدث في السبعينيات من القرن الماضي. لكن الأمر تغير هنا أيضاً، الإنسان الخليجي نفسه تغير عبر عقود التنمية التي مرت بها دول الخليج، ولم يعد مجرد «صاحب رأس مال» — لقد أصبح قيمة فكرية مضافة لا يمكن تجاوزها في أي مشروع نهضة.
رابعاً — إشارة القرضاوي إلى أن المشروع السني، هو مشروع حسن البنّا (الإخوان المسلمين) لا يمكن اعتبارها حكماً قاطعاً ونهائياً إلا على رؤية القرضاوي — ذلك أن الخلط بين مشروع النهضة وأي مشروع سياسي سيؤدي إلى إجهاض مبكر للمشروع برمته. النهضة أكبر من أن تكون حزبا سياسيا مهما كانت منطلقاته نهضوية، بالضبط مثلما أنها أكبر من أن تكون مجرد تنمية مهما كانت نجاحاتها الاقتصادية مبهرة. النهضة أعقد من ذلك، وهي مشروع ثقافي يغير وعي الجماهير وفكرها الجمعي بالأساس، وربط ذلك كله بحزب سياسي مباشر — قد يعرقل الأمر. لا يعني ذلك عدم الحاجة إلى وجود إرادة سياسية فاعلة تسمح لهذا المشروع بالوجود أصلاً، بل إن هذه الإرادة السياسية هي شرط أساسي لجعل هذا المشروع ينبض بالحياة. لكن هذه «الإرادة» ليست برنامجاً سياسياً أو منهجاً حزبياً، إنها فقط إرادة تسمح لهذا المشروع بأن يعمل، في هامش معقول، يتوسع بالتدريج وبالتراكم ليصير فضاءً متاحاً..
أبسط مثال على الفرق المقصود بين النهضة كمشروع ثقافي، وبين اختزالها كمشروع سياسي هو القرضاوي نفسه: فالقرضاوي، ورغم أنه خرج من رحم الإسلام السياسي، فإن تأثيراته وامتدادته الثقافية صارت تتجاوز ذلك بكثير، ومرجعيته اليوم لا تقل، إن لم تكن تفوق، مرجعية «الإخوان المسلمين»، وكثير من المؤمنين بمرجعيته، لا يؤمنون بمرجعية «الإخوان» أصلاً، ذلك أن عمله الدعوي المباشر، واشتغاله بهموم الناس، ومشاكلهم اليومية المباشرة، والتحديات التي تواجههم وتواجهها الأمة، قد جعل منه منبراً «ثقافياً» للكثيرين.. بينما انشغل الإسلام السياسي بصراعات حزبية صغيرة، أفسدت، أو كادت تفسد المشروع بأكمله، من أجل مقعد إضافي في هذا البرلمان أو ذاك.. وانشغل التيار الإسلامي «الآخر» في مواجهات خالية من أي فكرة لمشروع نهضة.
خامساً — كذلك سيكون من التبسيط الادعاء بأن هناك مشروعا جاهزا على الإطلاق — هناك طبعاً مشاريع كثيرة، لكن ليس هناك «المشروع» بعد. فمشروع النهضة الحقيقي يجب ألا يركز على عوامل النهوض والإيجابية في ثقافتنا وتراثنا فحسب، ولكن يجب أن يستأصل عوامل السقوط والسلبية كذلك، وهي كثيرة أيضاً.. هذا البناء والهدم الفكريان أساسيان للنهضة، والهدم طبعاً عملية صعبة وستواجه بمقاومة شديدة فقط لأن هذه العوامل السلبية محصنة خلف قداسة التوارث والقِدم، حتى لو لم تكن مرتبطة بنصوص دينية. صعوبة الهدم وشراسة المقاومة، يجب ألا تلغي هذا الهدم، لأنه أساسي من أجل البناء..
سادساً — وسيكون من قبيل التبسيط أيضاً التصور أن مفكراً فرداً ما، مهما كان عبقرياً، سينجز هذا المشروع بمفرده. الأمر طبعاً ليس «مهمة رجل واحد»، ومشروع النهضة سيسهم فيه أشخاص مختلفون، ربما عاش كل منهم في قارة مختلفة، بل وفي حقب مختلفة، وربما كانوا ينتمون لتيارات مختلفة أصلاً، لكنها كلها، ستصب، بعد مراحل معينة، لتكون «المشروع»..
ثلاث شروط إذن أساسية، لمشروع النهضة البديل:
أولاً — مشروع فكري — ثقافي يحدد الثوابت والمنطلقات والأهداف، ويقوم بمراجعة أصيلة للتراكم التراثي، ليحدد ما يجب أن يترك وما يجب أن يبقى..
ثانياً — إرادة سياسية فاعلة تسمح لهذا المشروع بالنماء مع هامش معقول من الحرية.
وثالثاً — رأسمال يدعم هذا المشروع، ليكون خادماً له، لا لكي يحدث العكس، أي لكي لا تكون النهضة استثماراً للمزيد من الربح السريع..
بلا توافر هذه الشروط الثلاثة، وتلاحمها، سيكون كل ما نفعله، في أحسن الأحوال، مجرد إضافات على الشرط الأول، على المادة الأولية، الفكر الذي لا بد منه ليكون خميرة النهضة.. — وعدا الشرطين الثانيين، سيكون كل ما نفعله محض مشاريع صغيرة، كتاب هنا، محاضرة هناك، موقع على الشبكة هنا، أو نادٍ للقراءة هناك، كلها مشاريع صغيرة ننفس فيها عن إحباطاتنا، ونقدم فيها ترضيات لضمائرنا، ونحن ربما نعلم يقيناً أن محصلة تأثيراتها قد تقترب من الصفر.. وإنها بمجموعها مرادف موضوعي للامشروع على الإطلاق.. إلى أن تتحقق الشروط اللازمة.. ويتحول المشروع، إلى نهضة!
[1] https://www.al-qaradawi.net/node/1568