بعض الناس الحياة بالنسبة لهم “وجهة نظر”…يعتنقون وجهة النظر هذه أو تلك.ولا يرون مشكلة في التخلي عنها لاحقا لصالح وجهة نظر أخرى رأوا أنها أكثر وجاهة لاحقا..
بعض الناس يرون كل ما في هذه الحياة باعتبار أنه ليس أكثر من “وجهة نظر”، يمكن أن تكون عابرة حتى لو لم يغيروا شيئا فيها..
وجهة النظر ، تعني ببساطة أن ما تعتقده يعتمد على موقعك يحدد اتجاه النظر، يحدده موقعك…وهذا يعني أن الأمر سيتغير لو أنك غيرت موقعك..ويعني أيضا أن ما يعتنقه الآخرون من آراء لا علاقة له بالصواب أو الخطأ..فقط بموقعهم الذي حدد وجهة نظرهم تلك..
عندما تكون الحياة وجهة نظر..فأن لا شيء فيها يستحق حقا أن يكون قضية..أن يكون عقيدة..أن يكون أمرا تموت وتحيا من أجله..
أنها وجهة نظر فحسب..
**************
لكن أناسا آخرين، نسأل الله أن يجعلنا منهم ، الحياة بالنسبة لهم قضية..الحياة بالنسبة لهم موقف..لا يعتنقون “وجهات” النظر..بل يعتنقون ما يؤمنون أنه “الصواب”..وأن مصدر هذا الصواب ، ليس موقع هذا الشخص أو ذاك ممن يكونون عابرين في الزمان والمكان، بل مصدره من يكون متعاليا عن كل ذلك ، عن كل مسافة ..أو زمان ..أو مكان..
الحياة بالنسبة لهؤلاء فرصة لا تعوض لإثبات للآخرين ، ممن لا يؤمنون بما آمنوا به ، بالصواب ، أن يسحبوهم من حالة اللا لون ولا طعم ولا رائحة..إلى اللون الصواب..والطعم الصواب، والرائحة الصواب..
عمر بن الخطاب من هؤلاء طبعا.
الحياة بالنسبة له موقف.قضية…
كما لو أنه كان يبحث عن هذه القضية طيلة حياته..
وعندما وجدها ، وجد نفسه فيها..أمسك بتلابيبها..تعلق بها كما يتعلق مختنق بشهيقه الأخير…
..دلوني على محمد..!
***************
في الطريق إلى محمد ، لا بد أن عمرا كان يفكر بما سيحدث..لقد كان قد حسم أمره ، لكنه أراد أن يعلن هذا الحسم أمامه عليه الصلاة والسلام..
وجها لوجه ..
(تخيلوا كم سيكون رائعا لو تمكنّا من ذلك، من أن نعلن “الشهادة” أمامه عليه الصلاة والسلام..لن نستطيع أن نقولها إلا بمنتهى الصدق حينذاك..لا يمكن أن نقولها من باب التعود..من باب أننا وجدنا آباءنا عليها..لأنها ستكون مثل شهادة زور..ومهما حاولت ..لن يمكنك أن تشهد الزور أمام الرسول الكريم )..
لقد وجد عمر نفسه الحقيقية.لا بد أنه كان خجلا من شدته وقسوته مع الفئة التي سيعلن انضمامه لها ، ولا ريب أن هذه الشدة ” جعلته يتخذ قرارا أن” يعوّض” ..أن يقدم لما اعتنقه “تعويضا” عما فعل سابقا.. ولعل هذا الإحساس “المرير” سيبقى في عمر إلى أخر حياته،لكنه سيستثمره على نحو إيجابي.. سيكون جزءا أساسيا من محاسبته المريرة المتطرفة لنفسه ولأهل بيته، وهي المحاسبة التي ستكون جزءا أساسيا من “التفوق والتميز” العمري والذي ساهم أيضا في صنعه وإسهامه للحضارة..وهو ما سنتطرق له لاحقا بتفصيل أكبر….
كان ما قاله له خباب ، عن دعاء الرسول الكريم لله عز وجل بأن يعز الإسلام بأحد العمرين ، هو أو عمرو بن هشام ، الذي يعرف أكثر اليوم بأبي جهل..، كان بمثابة “طاقة” إضافية تضاف إلى عروقه..ولعله فكر في السبب الذي جعل دعاء الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام يكون موجها لواحد منهما تحديدا..هو وعمرو بن هشام..
لكنه كان قد حسم هذا الأمر أيضا..
لقد قرر أن تكون حياته ، تحقيقا لدعاء الرسول..
قرر أن تكرس حياته لعز الإسلام..
*********
قرعت الباب عليهم ، ..
فقالوا : من هذا ؟ قلت : ابن الخطاب قال : وقد علموا من شدتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما يعلمون بإسلامي ، فما اجترأ أحد يفتح الباب حتى قال : « افتحوا له ، إن يرد الله به خيرا يهده » ففتحوا لي الباب فأخذ رجلان بعضدي حتى أتيا بي النبي صلى الله عليه وسلم فقال : « خلوا عنه » ثم أخذ بمجامع قميصي ، ثم جذبني إليه ، ثم قال : « أسلم يا ابن الخطاب ،.. اللهم اهده » فقلت : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله . فكبر المسلمون تكبيرة سمعت بفجاج مكة ، وكانوا مستخفين ..[1]
تخيلوا أنه عليه الصلاة والسلام أخذ بمجامع قميصه..وجذبه إليه..ليقول له “أسلم” ..!..
كم يبين ذلك حرقته عليه الصلاة والسلام على إسلام عمر.
كم يبين ذلك استشعاره عليه الصلاة والسلام لا بحاجة عمر إلى الإسلام فحسب..بل حاجة الإسلام أيضا إلى أشخاص يملكون صفات مثل التي يملكها عمر..يعتنقون الشيء ليكون قضية حياتهم كلها ، لا كوجهة نظر..
..ثم أخذ بمجاميع قميصي ، ثم جذبني إليه ..أسلم..!
موقف هائل..يكاد يأخذ بمجاميع كل ما نلبس..! يكاد يجذبنا..يهزنا بعنف..أسلموا..
هل سنقول أننا مسلمون أصلا..وأننا ولدنا كذلك –والحمد لله!
نعم..هذه هي المشكلة..نحن مسلمون بالوراثة..لسنا مسلمين كما يريدنا عليه الصلاة والسلام..
كيف يريدنا ؟..يريدنا كما أراد من عمر أن يكون…كما صار عمر…
إسلامه كان عزا للإسلام.. !
من منا يمكن أن يكون إسلامه عزا للإسلام؟..
من منا يرفض أن يكون مجرد “عدد” إضافي..”كمالة عدد”..ويريد أن يستحق تلك الجذبة التي جذبها عليه الصلاة والسلام لعمر عندما قال له :أسلم ..!
****************
ونطق الشهادة..!..
أشهد أن لا إله إلا الله..
وأن محمدا عبده ورسوله..
وارتفع التكبير، رغم التخفي….الله أكبر..
وسيرتفع التكبير أكثر فأكثر،لا عبر الحناجر فحسب، بل أثرا وتأثرا وقناعة واقتناعا ..عبر إسلام هذا الرجل..
سيجعل عمر من كل سيرته ، وسيلة ليؤمن الناس حقا وفعلا..بأن الله أكبر..
*****************
منذ اللحظة الأولى لإسلامه..قرر عمر أن يحدث فرقا..أن يحدث عزا..أن يجهر بالإسلام ، بعدما كان سرا يخفيه أصحابه وأن تسربت منه إشارات…
قال :يا رسول الله إني لا أدع مجلسا جلسته في الكفر إلا أعلنت فيه الإسلام
فأتى المسجد وفيه بطون قريش متحلقة فجعل يعلن الإسلام ويشهد أن لا إله إلا اللهوأن محمدا رسول الله[2] ..
انطلق عمر ليجهر بالشهادة في شوارع مكة ومجالسها..
كان عمر بهذا هو مشعل أول ربيع عربي !.. ..لكنه كان ربيعا يتجاوز أمر العرب إلى الإنسانية جمعاء وإن اتخذ من مكة وشوارعها موقعا…
في ذلك الربيع ، قام عمر بالجهر بكلمة الحق، لكنها لم تكن رد فعل “ضد ظلم ” محدد..بل كلمة حق تتعالى عن ردود الأفعال..بل كانت أكثر من مجرد “كلمة حق”…بل كانت رؤية كاملة لعالم جديد..طريقة جديدة في النظر إلى العالم..إلى كل ما فيه..
الشهادة ، التي تدخل بها الإسلام ، هي إقرارك بأنك ترى العالم ،تشاهده ،-أليست شهادة؟!- كما يريد له خالقه أن يكون..
أنت تقول عبر الشهادتين : أنك تشهد أن لا إله إلا الله..ليس هناك من أي قوة يمكن أن تسيطر أو تهيمن على مقاليد عقلك وقلبك ورؤيتك إلا من خلقك..
لا يحكمك غيره..لا تأتمر إلا بما يأمرك به..ولا تقبل بسواه “حَكما” فيما يقابلك ويعرض عليك..
وأنت تشهد أيضا، كتتمة لازمة لا بد منها، أن هذه الرؤية لن تكون إلا من خلال ما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام..
هذه الشهادة هي رؤية للعالم كما يجب أن يكون.
رؤية لدورك في هذا العالم..رؤية للعلاقات بين كل الأشياء..
ليست مجرد جملة من مقطعين..بل رؤية متكاملة..
تلك الشهادة التي كان عمر أول من جهر بها في ربيع مكة..، كانت بمثابة الحجر الأساس للحضارة التي سيكون لعمر حصة “الأسد” في بنائها وتشييدها..
لكل حضارة حجر أساس..يكون مثل “الشفرة السرية ، الكود”..الخاص بها ..قد يكون مثلا شعار “المانيا فوق الجميع”..أو “الحرية الشخصية” ..أو ” الربح أولا”..كل هذه أحجار أساسية لحضارات مختلفة ، تبني كل منها على حجرها الخاص الأساس قيمها ومبادئها..
الحضارة التي ساهم بصنعها عمر ، حضارة الإسلام ، كان لها حجرها الأساس الذي تستند عليه كل قيمها وأركانها ومبادئها ومنطلقاتها وأهدافها..
وهذا الحجر الأساس،حجر الحضارة الأول.. هو بطاقة دخول الإسلام..
الشهادتان..
كانتا حتى تلك اللحظة سرية ، تقالان خفية في أزقة مكة وبيوتاتها..
ثم جاء عمر..!
****************
منذ اللحظة الأولى التي دخل فيها عمر الإسلام هذا الدخول المبين ..استشعر المسلمون الفرق الذي يمكن أن يحدثه دخول شخص يملك صفاته في الإسلام..
عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ – رضى الله عنه – قَالَ مَا زِلْنَا أَعِزَّةً مُنْذُ أَسْلَمَ عُمَرُ [3].
وكان يقول أيضا :
إن إسلام عمر كان فتحا وإن هجرته كانت نصرا وإن إمارته كانت رحمة . ما كنا نقدر على أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر فلما أسلم عمر قاتل قريشا حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه [4]
***************
قد يطرح سؤال هنا ..
هل يمكن أن يكون عمر أقوى من الرسول عليه الصلاة والسلام..ألم يكن من الممكن عليه الصلاة والسلام أن يصلي عند الكعبة مع المسلمين متحديا مشركي مكة ؟..هل كان يجب أن ينتظر المسلمون عمرا كي يحدث ذلك؟
العبرة هنا أنه كان على أحد غير الرسول عليه الصلاة والسلام أن يفعل ذلك.
لو أنه فعلها عليه الصلاة والسلام ، لما كان حصل الدرس للجميع..
درس أنهم قادرون على الفعل.أن الاسلام يستخرج منهم أفضل ما فيهم.بل يستخرج منهم ما لم يتخيلوا وجوده فيهم…
لو أن الرسول قام بذلك..لما كان هناك “عمر”..
وحضارة الإسلام، لا يمكن أن يبنيها فرد..حتى لو كان هو عليه الصلاة والسلام..
يمكن لبعض الأفراد فيها أن يكونوا عمالقة ..وأن يسهموا أكثر من غيرهم في رفع بنائها..وأن يكون ذلك بمثابة تحفيز لهم على أن يتعملقوا ..كل في مجاله ، بما يسهم في “الحضارة”..
وهكذا كان لا بد للرسول الكريم عليه الصلاة والسلام ، أن لا يفعل كل شيء بنفسه..
لكي يتيح المجال لولادة العمالقة..
وكان عمر مثالا حيا ،عمليا على ذلك..
***************************
كان الاستشعار الفوري للمسلمين للعزة بدخول عمر الإسلام مثال على ما يمكن أن يمنحه الثبات على الحق، والجهر به بقوة ، والتمسك به بقوة ، لأي فكرة أو عقيدة..
أنه يخرجها فورا من كونها مجرد فكرة ، لتصير بشرا يتمثلونها…
والعزة في لسان العرب هي عكس “الذل”..
وقد كان عمر ، بقوته، بجهره بالحق، بجرأته الشديدة ، عكسا للذل في كل شيء..
…فكيف يمكن لهم إلا أن يشعروا بالعزة ، منذ” أسلم عمر”..
وكيف لا يكون إسلامه فتحا؟..وهجرته نصرا ؟..وإمارته رحمة..؟
*************
لا يمكنني هنا أن أترك دعاء الرسول عليه الصلاة والسلام لربه أن يعز الاسلام بأحب العمرين إليه..وشعور المسلمين بالعزة منذ إسلام عمر بمعنى يراودني عن علاقة العزة بالحضارة..
الحضارة ، بطريقة ما ، هي مظهر من مظاهر العزة..
العزة هي الغلبة، وهي عكس الذل..
والحضارة ، في مظاهرها وتجلياتها العديدة ، تكون “غلبة”..
وتكون عكس الذل..
الغلبة لا تعني فقط التفوق العسكري..( وإن كانت تشمل ذلك حتما)..
ولكنها تعني التفوق في كل مجال من مجالات الحياة..
في العلم.في العدل.في العدالة الاجتماعية.في الأدب.في السلوك…
في الاقتراب من القيم المؤسسة لهذه الحضارة ، من حجرها الأساس وعدم الانحراف عنها..
في أن تكون “نموذجا” جاذبا يجعل الناس يعتنقون “حجرها الأساس” وقيمها حتى دون أن يشعروا بذلك..
كل هذه عزة..
وكل هذه يجب أن توجد في “الحضارة”..
وربما هذا يجعلنا نفهم دعاء الرسول بان يعز الإسلام بعمر..
وان نفهم ما قاله المسلمون عن استشعارهم العزة بمجرد دخوله الإسلام..
وأن نستحضر ما سيحققه عمر لاحقا من منجزات رفعت حضارة الإسلام وأعزتها ؟
ألم يكن البيهقي محقا عندما جعل من دعاء الرسول دلالة من دلائل نبوته عليه الصلاة والسلام؟
..لو أن عمر أسلم فحسب..لكان ذلك محتملا..
لكنه كان علامة فارقة…
كان إسلامه عزا للإسلام..
*************************
وحتى لا نعطي صورة خيالية عن رجل لا يحتاج أصلا إلى الخيال لتزيين صورته، لأنها رائعة ومبهرة أصلا ..علينا أن نتذكر هنا أن مواجهته لكفار قريش في يوم الجهر بالإسلام لم تكن محض شجاعة وثبات على المبدأ دون تخطيط يستثمر في الموجود..
كان عمر بن الخطاب يعرف أن قريشا يمكنها أن تقتله..وأنه على بأسه ، يمكن أن يقتل إذا تجمعوا عليه ، كما كادوا أن يفعلوا فعلا…
لذا فقد عمد إلى أن يجد له خط حماية ، من القتل على الأقل ، وليس من الأذى..
فقد عمد إلى احد حلفاء بني عدي ، وهو العاص بن وائل ، ليجيره من القتل ..
وهكذا كان عمر يستفز مشركي مكة ويزلزلهم بجهره بالإسلام وهو يعرف أن تعرضه للقتل كان سيعرض قواعد المجتمع المكي للزلزلة !..
ستكون هذه الصفة ثابتة دوما عنده وهو يشيد الحضارة..خطوة خطوة..سيذهب دوما لتجارب الآخرين..سيأخذ منها قبس عندما يجد أن الاقتباس ينفعه ، وسيتركه عندما يجد أن الضرر أكبر..
ما دام لم يتنازل عن شيء مقابل إجارة العاص له..فلن يتردد..
أليس هو القائل ..لست بالخب..ولا الخب يخدعني؟!
***************
ربيع عمر الذي تدفق في شوارع مكة ، انتظر عقودا قبل أن يحين موسم حصاده..
ولم يكن موسما واحدا..
بل مواسم متعاقبة ، متطاولة..موسم يسلم موسما آخرا..
ولم تقتصر مواسم الحصاد على مكة فقط..
بل امتدت لتشمل قارات العالم القديم..
بل لتشمل العالم كله..
كان ذلك هو ربيع عمر الآخر..
أما موسم الحصاد فله وقفة أخرى..