د.أحمد خيري العمري
ديسمبر 2008
رد فعل الإنسان، عموماً، تجاه ما هو سلبي لا يتساوى مع رد فعله تجاه ما هو إيجابي، فقانون الفعل ورد الفعل يتضخم عندما يكون الفعل سلبياً، مقارنة بالقانون نفسه عندما يكون الفعل إيجابياً.
ردّ الفعل المتحيز هذا، المعروف في علم النفس باسم “التحيز السلبي” “Negativity Bias”، قد يتمظهر أحياناً في الاهتمام البالغ الذي يوجهه الناس، لأخبار الكوارث والفواجع، مقارنة باهتمامهم بالأخبار الإيجابية، واستثمار وسائل الإعلام لذلك، وما نلاحظه شخصياً في مثال معروف يسوقه دارسو علم النفس ممن نحتوا مفهوم “التحيز السلبي” وهو أن رد فعلنا (التقليدي) تجاه خسارة مبلغ من المال، لا يمكن أن يقارن برد فعلنا تجاه (ربحنا) المبلغ ذاته، أو أن مرورنا بتجربتين واحدة سلبية والأخرى إيجابية في فترة واحدة لن يكون متعادل الأثر، بل إن الأثر السلبي على الأغلب هو الذي سيكون أقوى. أو معلومة سلبية عن شخص لا نعرفه ستترك أثراً أقوى من معلومة إيجابية عن الشخص نفسه. وبعض الدراسات، تشير إلى أن العامل الإيجابي يجب أن يكون مضاعفاً خمس مرات ليحظى برد فعل مساوٍ لرد فعل العامل السلبي.
هذا التحيز الإنساني للتفاعل مع ما هو سلبي ظاهرة إنسانية معروفة، ولها إشارات قرآنية كثيرة، وسواء كانت أصيلة داخل النفس البشرية، أو أنها ناتجة عن ظروف معينة تشكل هذا التحيز، فإن الظاهرة موجودة – وهي عالمية- وعريقة..
على المستوى الفردي، أعتقد شخصياً أن (الوعي بالأمر) – بحد ذاته – يكون أحياناً كفيلاً بفتح الباب للخروج من هذا (التحيز)، كما مع أي مشكلة نفسية يكون تشخيصها جزءاً أساسياً من علاجها.. وهذا يخص الأفراد طبعاً، ويكون الأمر مرتهناً “بوعي” خاص يشكلهم ويتمكنون عبره من التخلص من هذا التحيز.
لكن الأمر أعقد بكثير عندما يتجاوز الأفراد إلى الأمم.. وعندما يكون من يتأثر به، ليس عقل شخص واحد وانفعاله وسلوكه، بل “عقل جمعي” يتمثل في رؤية جمعية وسلوك جماعي لمجتمع وأمة كاملة..
هل يمكن هذا؟.. إنه يمكن لأن مثاله (الحي؟!) موجود ومتجسد فينا.. في تاريخنا وفي وجودنا كله الذي كان فيه “عقلنا الجمعي” منحازاً في تفاعله، للعامل السلبي.. وكان هذا الانحياز ينتج دوماً سلبية في الرؤية وسلبية في السلوك وسلبية في واقع لا يمكن لاثنين أن يختلفا في تدنيه وسلبيته..
ما الذي يعنيه هذا؟.. وكيف يتعامل “العقل الجمعي” لمجتمع كامل بتحيز تجاه العوامل السلبية؟.. وما هذه العوامل السلبية أصلاً؟.. لا أقصد هنا، طبعاً، ذلك النوع من العوامل السلبية التي يشترك فيها البشر كلهم: مثل الكوارث والفواجع والخسائر عموماً، بل أقصد العوامل السلبية التي تشارك مع سواها في تكوين ثقافتنا ورؤيتنا للعالم، التي تشكلت – تراكمياً – عبر القرون، والتي ساهم “التراث” في تكوين أركان مفتاحية فيه..
ولا أقصد بالتراث هنا النص الديني الصالح لإصلاح كل زمان ومكان، بل أقصد فهماً معيناً لهذا النص وقراءة تاريخية له ارتبطت بظروف زمانها ومكانها، ولكن تعامل الناس معها منحها القداسة أيضاً، بدلاً من أن يقصرهذه القداسة على النص نفسه..
ولا أنكر أيضاً أن لدينا، في التراث نفسه، قيماً شديدة الإيجابية، وصالحة لتستثمر استثماراً مستديماً.. لكن المشكلة في الأمر أن ظاهرة التحيز للعامل السلبي التي مر ذكرها، ستوجه التفاعل الإنساني مع هذا التراث بعيداً عن قيمه الإيجابية، وباتجاه ما فيه من قيم سلبية.
لدينا مثلاً، ضمن ما هو إيجابي في موروثنا، قيماً شديدة الفعالية تدور حول محور مسؤولية الإنسان وموقعه بوصفه خليفة في الأرض، وهي قيم مستندة إلى نصوص ثابتة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها..
ولكن في الوقت ذاته هناك ضمن التراكم التراثي نفسه قيم شديدة السلبية، وتعتمد إما على فهم “اجتزائي” لنصوص ثابتة، دون ربطها ببقية النصوص، أو على نصوص ضعيفة وأحياناً موضوعة أصلاً..
فمقابل القيم الإيجابية التي تجعل من الأرض موضعاً لخلافة الإنسان ومزرعة لآخرته، وسيكون “إعمارها” هو امتحانه الأساسي، فإن هناك قيماً أخرى “تتفه” الوجود الإنساني كله في الأرض، وتجعل من الدنيا شيئاً دنيئاً، وتصفها بإصرار بأنها “مزبلة” لا يجب الالتفات إليها، ولو حتى من أجل إصلاحها، بل إنها تتجاوز هذا كله لتنغمس أحياناً في ثقافة تمجيد الفقر، والترويج له.. عبر مفهوم خاطئ للزهد في الدنيا بمعنى تركها تماماً..
هذه القيم السلبية لها ظروف نشأتها وظروف التصاقها بالنص الديني، وكان بعضها مبرراً ومفسراً كوسيلة للحد من المبالغة في الترف البذخ والغرق في المظاهر الدنيوية.. ولكنها بالتدريج صارت قيماً مطلقة كما لو أنها مستمدة من النص الديني نفسه..
وهكذا فإن المتلقي اليوم، يسمع ويتلقى كلاماً إيجابياً من الدعاة عن مسؤولية الفرد المسلم وإيجابيته وكونه الخليفة في الأرض.. إلخ. فتكون كل هذه العوامل الإيجابية بمثابة محفزات على الانطلاق إلى الفعالية.
ولكن! هذا المتلقي نفسه سيحصل على كمية لا بأس بها – وربما تزيد كماً – من الكوابح والمثبطات المتنكرة ظلماً خلف الفهم التجزيئي للنصوص الدينية، أو خلف نصوص مفترضة تدعي انتساباً للنبي.. سيكون هناك تلك الرؤية التي ترى “الدنيا” كلها مزبلة، وسيكون موقع الإنسان في هذه الدنيا هو موقع “عابر السبيل” الذي ينبغي أن يسرع الخطا دون أن يتوقف حتى لا يترك أثراً، بدلاً من موقع الخليفة الذي سيكون كل عمله هو أن يترك الأثر، والذي سيحاسب على كل بصمة يتركها.. سلباً وإيجاباً، وسيكون هناك الفهم السلبي لعقيدة القضاء والقدر الذي سلب من الإنسان مسؤوليته عن أفعاله وفاعليته وجعل منه مجرد “محل” لأفعال الله، وسيكون الفهم السلبي للصبر الذي صار وسيلة لإبقاء الأمر الواقع بدلاً من الصبر على التغيير وتحمل مسؤوليته، أي إنه صبر المفعول بهم لا صبر الفاعلين، صبر أولي العزم من الرسل، وسيكون هناك ذلك الانتظار السلبي لفرج لن يأتي أبداً لمن كان هذا هو وضعه ورؤيته..
كل هذه العوامل السلبية لا تزال موجودة في أذهاننا.. تتسرب من موعظة هنا، من مثل شعبي هناك، من قول مأثور متداول يستمد القداسة من مجرد كونه قديم ومتداول، من حكاية من حكايات الزهاد.. إنها موجودة وفاعلة في سلبيتها، جنباً إلى جنب مع تلك التي تقول للإنسان: إنه الخليفة – الفاعل، وإن الأرض موضع استخلافه، وإنها مزرعته التي سيكد ويكدح ويحرث فيها..
ما الذي سيحدث للمتلقي الذي يتلقى عن اليمين مفاهيمَ إيجابية وعن الشمال سلبية؟.. الذي سيحدث هو أسوء من “هذه بتلك” وإلغاء إحداهما الأخرى.. الذي سيحدث أن الانحياز البشري لكل ما هو سلبي، سيأخذ بزمام المبادرة، وسيلغي فاعلية كل ما هو إيجابي في تلك المفاهيم..
مفهوم الاستخلاف على الرغم من إيجابيته وأهميته وأصالته فإنه يتضمن “مخاطرة”، يتضمن تجشم عناءٍ وتحملاً لمسؤولية بكل ما يترتب على ذلك وما ينتج عنه..
أما عندما تقتنع بأنك “عابر سبيل” فإنك تكون في مأمن من كل ذلك، إنك لن تتوقع من نفسك شيء، ولن يتوقع أحد آخر منك شيء، سيعمل انحيازك الدماغي على جعل كل تلك السلبية هي الأساس وهي العامل الفاعل حتى لو كنت تعلم نظرياً أنك الخليفة الذي عينه الله في الأرض، وكونك ستنحاز إلى (المعلومة السلبية) ليس فقط خياراً لا واعياً يتخذه بالنيابة عنك دماغك – وعقلك الجمعي – لكنه أيضاً: الأسهل، إنه استمرار الوضع الراهن، حتى لو كان هذا الوضع البقاء في بناء متداعٍ وآيل للسقوط..
لم يكن مستغرباً بعد كل ذلك أن تذهب صيحات كل دعاة ومفكري النهضة مجرد صيحات في الوديان ولا رجع لها سوى الصدى. لقد كانت جل جهودهم تدور حول تأصيل العامل الإيجابي وتكريسه وإحيائه في الأمة، ولسبب أو لآخر، تجنبوا الصدام (التفصيلي) مع الجذور السلبية في التراث، وفضلوا التعميم والتركيز على الإيجابية، فكانوا كمن يزرع بذوراً دون استئصال الأعشاب الضارة التي ستأخذ الماء والهواء وكل الغذاء من البذور.. وقد كان ما كان.. مما نراه مجسداً في واقعنا الذي يمكن أن يكون نصباً تذكارياً لكل ما هو سلبي..
أي أمل بنهضة حقيقية لا يمكن أن يقترب من الواقع ما لم يتم استئصال كل تلك العوامل السلبية من جذورها، مهما كانت عريقة، مهما كانت محصنة خلف أسماء كبيرة، وخلف مفاهيم شعبية راسخة، يجب فعل كل ما يجب فعله من أجل إحداث (قطيعة) مع الجزء السلبي من تراثنا مهما كان ذلك مؤلماً.. ومهما كان ذلك خطراً..
لقد فضلنا – لقرون طويلة – أن نضحي بالأمة، وبجنين النهضة، من أجل عدم إقلاق (راحة) بعض المفاهيم الموروثة التي لا تمت بصلة حقيقية للدين.. ولم يؤدِّ ذلك إلى إبقاء الوضع الراهن وتدهوره فحسب، بل فتح الباب أمام أدعياء التجديد الديني ليحاولوا نسف الإرث كله بكل ما فيه من إيجابي وسلبي تحت ستار التطور..
اليوم، صار علينا، أن نختار بين الإبقاء على (الأمة)، وعلى “جنين” نهضتها المنتظرة وبين التضحية بكل ما يمكن أن يعرض هذا الجنين للإجهاض.. ولأن هذه (المجهضات) تمتلك جذوراً قوية ومتشعبة وراسخة، فالتضحية بها قد تكون حرباً ضروساً طاحنة..
لكن لا بد مما ليس منه بد!