د .أحمد خيري العمري- القدس العربي
ديسمبر 2008
“عبء الرجل الابيض “- عبارة وردت للمرة الاولى في قصيدة كتبها الشاعر كبلنغ عام 1899م, وكانت القصيدة تحمل العنوان ذاته ,وتحمل عنوانا ثانويا يفسر هذا العبء: الولايات المتحدة وجزر الفلبين!
كانت المناسبة هي اول حرب استعمارية فعلية تخوضها الولايات المتحدة ،وكان
” العبء” الملقى على الرجل الابيض , حسب كبلنغ, هو الأخذ بيد باقي شعوب الأرض, غير البيضاء, الى رحاب المدنية والترقي , وحسب القصيدة ,فان العبء ليس المهمة فقط , بل الشعوب غير البيضاء بحد ذاتها هي عبء وقد وصفها كبلنغ: ” بانها نصف طفل , نصف شيطان “ في اشارة مزدوجة تجمع بين “عدم نضج ” هذه الشعوب وميلها الفطري للشر, عبارة ” عبء الرجل الابيض ” هذه استخدمت بشكل واسع من قبل مناصري الامبريالية في الفترة الاستعمارية , حيث اضفت العبارة النبل والسمو على المهمة الاستعمارية , اي أن تمدين شعوب الارض المتوحشة صار رسالة الرجل الابيض و مهمته و دافعه في حروبه , وليس بأي حال من الاحوال ، الثروات التي تقع في اراضيه وطرق التجارة التي تمر عبرها . مع الوقت ، و مع ظهور دراسات “الاستشراق” ، تحولت العبارة لتصير مفتاحا مهما لفهم العقلية “الاستشراقية ” التي تحكم العقلية الغربية ، و قد صار ذكر العبارة وحدها كفيلا بأستدعاء كل ذلك التاريخ الاستعماري الذي لم يتورع عن تغطية اهدافه بانبل الشعارات ..كما ان العبارة صارت عنواناً لفيلم شهير انتج في اواسط التسعينات..
عبر العقود, تغير شكل الاستعمار عدة مرات ، أتخذ اشكالا غير مباشرة وعاد ايضا في بعض الاحيان , وعند الحاجة ,الى شكله الاول المباشر الذي كتب كبلنغ قصيدته في اجوائه , لكن تلك العبارة “عبء الرجل الابيض” ظلت تظلل كل اشكال الاستعمار , لم يكن هناك “استعمار” الا ورفع شعارات نبيلة لتبريره , سواء كان ذلك ازالة الطغاة او نشر الحرية و الديمقراطية ……الخ.
ومع الوقت , وبسبب من إنجازات لا تنكر للرجل الابيض , واخفاقات لا تنكر ايضا لسواه , وبسبب من قوة الاعلام و قدرته المتناهية على غسل الادمغة , فقد تحول “عبء الرجل الابيض” هذا الى عقيدة “استشراقية” لا تخص الرجل الابيض فقط بل ايضا بعض من الشعوب غير البيضاء, التي لم تعد تؤمن بوجود اي طريق اخر للتقدم غير إتباع خطوات الرجل الابيض حذو القذة بالقذة.
لكن الرجل الابيض الذي تسيّد البيت الابيض في العقد الاخير , تمادى اكثر مما يجب في تصديق الامر, ومن غوانتانمو الى أبي غريب, مروراً بحربين غير واضحتي ألاهداف , انتهى الامر الى تسويد غير مسبوق لوجه امريكا , وانتهى الأمربمفارقة واضحة : ان العالم يعشق امريكا , كنمط حياة , كاسلوب في العيش روجت له وسائل الاعلام و لكن العالم في الوقت نفسه صار يكره سياستها وساستها … انه ذلك التناقض بين وجه امريكا الذي سوّدته حروبها في الخارج , وبين وجهها الذي ينضح بقوة “الحلم الامريكي” : حلم الثراء والفرص والحرية والسلع اللا محدودة ولا منتهية .و هو تناقض خطير و يمس المشروع الامبراطوري الذي يحرص احيانا على امتلاك القلوب و العقول..كوسيلة للدخول الى ما يريد..
ربما كان لفوز اوباما اسباب متعددة , ربما كان لشخصيته الكارزمية العصامية اثرا لا يقاوم , وربما كانت منافسته الديمقراطية أقل مصداقية واكثر فسادا وعجرفة مما يجب , ربما كان لتأييدها لحرب العراق اثرا سلبيا على انتخابها مقارنة بأوباما الذي كان ضدها منذ البدء ( لم يكن ضد حرب أفغانستان ، بالمناسبة، بل قال أنه كان يود لو أنه يتطوع بنفسه و يذهب للحرب هناك !) ، ربما كان منافسه الجمهوري ماكين خاليا من الجاذبية الاعلامية ويغمض عينيه اكثر مما يجب في خطاباته, ربما كانت مساعدته (سارة بالين) التي اختارها كمرشحة لمنصب نائب الرئيس تبدوكما لو كانت جورج بوش بأحمر شفاه وتهرف بما لا تعرف بأكثر حتى مما فعل بوش نفسه ، وربما كانت سنوات بوش الثمان العجاف أثرا في البحث عن بديل مختلف , وربما كان للازمة الاقتصادية اثرها الحاسم و النهائي على كل ذلك . ربما ادى كل ذلك تراكميا الى وصول باراك أوباما الى الرئاسة.
مهما كان السبب ، فأمريكا امام لجظة تاريخية مختلفة . كعرب و مسلمين ، لايمكن لنا التعويل على الاطلاق على تغيير حقيقي في سياسة امريكا الخارجية بل لا يمكن أصلا التشكيك في انحيازها المطلق لاسرائيل وفي تأثير اللوبي اليهودي عليها , لكن هذا لا يعني ان أمريكا لا تواجه لحظة حاسمة في انتصار أوباما …. الرجل ليس اسوداَ فحسب , فالسود في امريكا منذ نشوئها تقريبا , لكنه ايضا ينتمي الى جيل ثانٍٍٍِ من المهاجرين فحسب , و ليس جيلا رابعا أو خامسا .. كان ابوه مهاجرا من كينيا وسرعان ما عاد الى كينيا ليترك أوباما مع امه , وهو , وإن كان والداه ملحدين بوضوح , الا ان أصول والد أوباما مسلمة ولا تزال جدته ترتدي غطاء الرأس في قريتها في كينيا ….
أوباما بعد كل كل هذا وذاك , لم يولد وفي فمه ملعقة من ذهب , كما ولد جورج بوش مثلا , بل انتمى الى الطبقة الوسطى التي ينتمي لها معظم الحالمين بالفرص الممكنة في ارض الاحلام امريكا … وقد قال ان والدته التي توفيت بالسرطان , كانت تقلق بسبب فواتير علاجها أكثر من قلقها من مرضها , وهذا يجعله في عمق الهم الاجتماعي اليومي للحلم الامريكي الذي يحتوي ايضا على كوابيس مخيفة قد تتجاهلها هوليوود..
يخطيء اذن من يختزل أوباما الى مجرد رئيس اسود, إنه اسود ومن اصل مسلم و اسمه الثاني ، مثل اسم أبيه ، حسين ! ومن جيل ثان من المهاجرين فحسب , ومن الطبقة الوسطى وقد كان عصاميا وكافح بجد من اجل دراسته والوظائف التي تولاها …
فوزه الساحق ، من هذا المنظار ،يعطي دفعة قوية و ساحقة للحلم الامريكي , حلم الثراء والفرص الذي يسلب ألباب الملايين , حلم” إن كل شيء ممكن في امريكا” , فاذا كان باراك “حسين” اوباما قد وصل الى اعلى منصب فما الذي يمنع تشونغ او عمر أو خوزيه من أن يصلوا لما يريدون ايضا , أن يحققوا الحلم الامريكي بثرائه ورفاهيته.., الحلم الامريكي الذي عكرته سنوات المحافظين الجدد وحولته الى ما يشبه الكابوس الامريكي …
أمريكا لن تتغير لمجرد أن لون بشرة رئيسها قد تغيرت , لكنها تثبت مجددا أنها قادرة على تجديد جلدها ، قادرة على تصدير حلمها , وتغليف قيمها بغلاف برّاق جديد ….ربما القيم الامريكية لا تعجبنا , ربما تختلف و تصطدم مع قيمنا , هذا أمر اخر , المؤكد هنا أن أمريكا قد تخلصت الى حد كبير من عنصريتها تجاه “السود” فيها , لكن السؤال الاهم هما هو هل تخلصت من عنصريتها تجاهنا ؟ بل تجاه كل قيم مختلفة ؟ هل تخلصت من عقيدة “عبء الرجل الابيض” تجاه شعوب العالم اجمع ؟ ألم يكن على أوباما ان يثبت مرارا وتكرارا مسيحيته و وان يثبت انه غير مسلم , وانه تخلص تماما من كل رواسب انتمائه لذلك العالم الاخر…؟
هل كان الجندي الامريكي الاسود اكثر شفقة على المدنيين العراقيين من زميله الابيض اثناء محاولته تمدين العراقيين بالقوة ولو عبر قتلهم؟… ألم يمثلان معا “امريكا” متعددة الالوان, وهي تفرض بالقوة رؤيتها “البيضاء” للعالم , ألم يمثلان معا النسخة الجديدة من الرجل “الابيض” الذي يمتلك عدة ألوان لبشرته ، لكنه يمتلك ثقافة واحدة بنيت على الاقصاء و الاستعلاء..ثقافة “أنا ربكم الأعلى”..ثقافة “الرقم واحد و لا شئ سواه”..ثقافة “ان النمط الامريكي للعيش هو النمط الوحيد الذي يستحق ان يعيش “.
التغيير الذي يمثله أوباما لن يخصنا بشكل مباشر , فما حصل قد حصل , ولا شيء الآن يمكنه ان يصلح ما أفسده بوش . .
لكن أوباما يحمل عبئا ثقيلا على عاتقه, انه عبء تبييض وجه امريكا الذي بذل الجمهوريون كل ما في وسعهم في تسويده ( أو ربما في إظهاره بشكله الحقيقي؟).
لن تتنازل امريكا عن حلمها الامبراطوري في الهيمنة على العالم , ولن يتمكن أوباما – حتى لو اراد– من جعلها تتنازل عن ذلك , على العكس , سيكون هذا الرئيس ذو البشرة السوداء دفعة جديدة في هذا الحلم , سيقوي من الحلم الامريكي عند الملايين , سيجعلهم يرون امريكا باعتبارها تلك العقيدة عابرة القارات : ارض الاحلام والفرص والثراء. و سيزيد ذلك من قوة المشروع الامبراطوري الاميركي ، فالاحتلال يمتلك أشكالا متعددة ، و إذا كان المحافظون الجدد قد اختاروا الدبابة و البارجة الحربية لتحقيق هذا الاحتلال ، فهذا لا يعني أبدا ان “غزو الرؤوس عبر الحلم الامريكي” أقل قوة في تنفيذ هذا المشروع..
من الصعب جدا أن يكون أوباما اسوء من بوش , ليس في ذلك فضيلة مباشرة لأوباما ، بل لأن بوش كان الاسوء لدرجة لا يمكن تخيل من هو أسوء منه. لكن علينا ان لا ننسى ذلك إطلاقا في غمرة شماتتنا بخسارة الجمهوريين أن تاريخ امريكا الاسود لم يبدء مع جورج بوش…..ربما كان بوش و المحافظون الجدد يمثلون الفصل الاكثر وضوحا في السوء و السواد..و ربما كان على اميركا ان تقدم نسخة معدلة تحسن من صورتها ..و هو تحسين تحتاجه الامبراطوية لكي تكمل مشروعها الامبراطوري ..
ستثبت الايام , إن كان التغيير الذي يمثله أوباما , هو مجرد تغيير في لون البشرة , مجرد قناع لطيف أسمر اللون , أم أنه تغيير اعمق من ذلك….
هل سيتمكن الفرد الكاريزمي العصامي , من تغيير المؤسسات ؟, ام ان المؤسسات ستستخدمه لتزيد من قوتها..ستجعله موظفا عندها ليعيد البريق للحلم الامريكي..و يزيده سطوة و هيمنة و يجعل غسيل الادمغة – لشعوب كاملة-أكثر نجاعةَ..
” الرجل الابيض” اليوم صار يحتاج الى رجل أسود البشرة ليبيض وجهه..لكي تكون مهمته الامبراطورية أكثر يسرا ..و تقتحم القلوب و العقول بسهولة اكبر..
يحمل “الرجل الاسود” اليوم هذا العبء على كتفيه..و يا للمفارقة !