قراءة : د.أحمد خيري العمري
ديسمبر 2008
اسم الكتاب : إعمال العقل – من النظرة التجزيئية الى الرؤية التكاملية
المؤلف : لؤي صافي
الناشر : دار الفكر –دمشق
الطبعة الاولى سنة 1998 ،الطبعة الثانية 2005
عدد الصفحات :336
كتاب لؤي صافي هذا، الصادر قبل عشر سنوات مقابل صمت هو أسوء من أسوء نقد يمثل – برأيي – إضافة جديدة ومميزة لكل ما كتب عن العقل المسلم، لدينا في الغالب ثلاث مواقف من العقل في أدبياتنا؛ الأول تمجيدي إنشائي يبتدئ بإحصاء مشتقات الفعل عقل في القرآن الكريم وينتهي بذكر فضل علماء المسلمين على العالم، ولا يذكر من قريب أو بعيد لم توقف الاستمرار بهذا الفضل، والثاني موقف متوجس من العقل يضعه في موضع المشتبه به الدائم كنوع من إرث لذلك النزاع حول أولوية العقل والنقل، والثالث موقف يتجه إلى إقامة مجلس عزاء للعقل المسلم باعتباره قد مات وانتهى أمره، ويجب أن نستورد العقل الغربي الوضعي بدلاً منه..
لؤي صافي يتجه إلى تأسيس مختلف عن كل هذا، بعيداً عن الثناء والتوجس والندب، يضع بيده على عمق التناقض الموجود في الخطاب التقليدي والذي يجعل من الإمام الغزالي-مثلاً- في كتابه “المستصفى من علم الأصول” يؤكد على أهمية العقل لكنه مع ذلك يقول لاحقاً عندما يقسم العلوم ، في نفس الكتاب: (ومنها عقلي محض لا يحث الشرع عليه ولا يندب إليه كالحساب والهندسة والنجوم وأمثاله من العلوم فهي بين ظنون كاذبة لائقة، وإن بعض الظن إثم، وبين علوم صادقة لا منفعة لها ونعوذ بالله من علم لا ينفع )-ص85- وبين هذا وذاك يبرز نقض الضرورة السببية، ونفي وجود خواص للمادة–على يد الغزالي أيضاً (سواء اعتبرنا الغزالي رائداً في رفض الضرورة السببية أو ناقلاً لموقف المتكلمين في هذه المسألة، فقد ساهم هذا الموقف في تراجع العلوم الطبيعية عند المسلمين ص 220)…
ولكن لؤي صافي يمضي أعمق من الوقوف المجرد عند التشخيص، إلى وضع أسس جديدة لنظرية جديدة في (عقل) يستمد منطلقاته وضوابطه ومحدداته من القرآن الكريم. فالعقل (ليس سوى نسق من المبادئ المنطقية، مثل مبدأ الاتساق والسببية، والعمليات الإجرائية، مثل التحليل والتركيب والتجريد والتجسيد، وهو لذلك يستمد مضامين المعيارية ومحتواه المعرفي من خلال تمثله الثقافي والتربوي وخبرته المعرفية والميدانية ص 96 – 97).. ولذلك فالعقل الذي يستند على معايير قرآنية، و(يستند على التصور الكلي للقرآن ص 93) في آلياته ونسقه سيتكامل مع الوحي – أو النقل – بدلاً من أسطورة التناقض المزعوم، وحتى (سؤال أيهما يأتي أولاً، العقل أم النقل؟) سيكون سؤالاً افتراضياً لا محل له من الإعراب، لأن العقل هنا سيتشكل حسب محددات الوحي وضوابطه، ولن يكون عقلاً افتراضياً (قد تشكله مثلاً محددات الحداثة الغربية) لذا فإن إمكانية التعارض، أو أمر الأولوية برمته، غير وارد في هذه النظرية ، ولؤي هنا واضح، فهو يعتمد على ما يسميه “الرؤية القرآنية” في تشكيل العقل (التي تتحدد في القواعد العامة والمقاصد الكلية المستمدة من الكتاب، والمنتظمة وفق أنساق تحقق ترابطها الداخلي وترتبها ضمن هرم قيمي يميز أوليها من ثانويها ص 127..)
ورؤية لؤي صافي القرآنية هذه لا تهدف أبداً إلى عزل السنة أو إقصائها، كما يستهدف أدعياء التجديد الديني ممن يسمون أنفسهم، بل تهدف إلى تفعيلالسنة عبر وضعها في موضعها الذي يجب أن تكون فيه (تبعاً للقرآن).
يقول المؤلف: (على الرغم من إصرار منهجيات الفقه الأصولية على إعطاء الكتاب اليد العليا [جعل السنة تبعاً له]، إلا أن الممارسة العملية خلال القرون المتأخرة قد قلبت سلم الأولويات رأساً على عقب، فجعلت الرأي السائد المقبول عند الجمهور حَكَماً على اختيار نصوص السنة وتحديد دلالاتها والسنة المخيرة حَكَماً على عملية اختيار نصوص الكتاب وتحديد حكمها، حتى إننا نجد من الفقهاء من يقول صراحة: الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب، والسنة قاضية على الكتاب ص 127)
يوضح لؤي صافي (أن البدايات الأولى لهذا كانت في الجهد الذي بذله الإمام الشافعي في التصدي لأصحاب الرأي الذين رفضوا تخصيص آيات الكتاب وتقييدها بأحاديث الآحاد ص 132..).
ويعتبر الكاتب أن منهجية الشافعي استندت على أركان ثلاثة:
1- التأكيد على أن الحديث المرفوع إلى رسول الله r هو “الحكمة” التي ذكرها القرآن الكريم.
2- منع نسخ السنة بالقرآن.
3- التسوية بين حجية الكتاب وحجية السنة..(ص 132)، وهي الأركان التي مهدت لما يسميه المؤلف المنهجية النصوصية التي أعادت تعريف العلاقة بين الكتاب والسنة.. (ص 133)..
في قراءته لهذه الأركان، يقدم الكتاب تعريفاً جديداً للحكمة (هي مجموعة المبادئ المحددة للرؤية القرآنية التي تجلت في ممارسات رسول الله rومواقفه العملية، ص 133) (ونرى لذلك امتناع تحديد الحكمة بآحاد النصوص المروية عن الرسول الكريم، ص 133) أي إنه لا يلغي ربط الحكمة بالسنة النبوية، ولكنه يلغي ارتباطها بآحاد النصوص المتفرقة المجتزأة من سياقها الذي لم ينقل مع النص، ويقوي – من جهة أخرى – ارتباطها بالرؤية القرآنية.
أما بالنسبة لمنع نسخ السنة بالقرآن (…وإن منع نسخ النص النبوي بالقرآن إنكار لهيمنة الكتاب عليه وتجاهل لأولوية مرجعية الكتاب ص 136 ). كما أنه يقدم نقداً متميزاً لرؤية ابن حزم الظاهري التي تساوي بين الكتاب والسنة اعتماداً على آية {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} (النجم 3 – 4).فالقرآن الكريم وحده يحتمل الوصف بأنه وحي يوحى لأنه كلام الله تنزل به جبريل الأمين لفظاً ومعنى، وهو هنا لا يقدم على محاولة نسف السنة كما يفعل الهراطقة نفسهم (أما حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام فيحتمل أوصافاً ثلاثة:1-وحي معنوي ألقي في روعه فأداه كما وعاه.2-إلهام من الله إلى الحق والصواب.3-اجتهاد في النوازل والأحداث تأويلاً لكتاب الله، وتطبيقاً لأحكامه ص 137..)
أي إن لؤي صافي ليس بصدد التشكيك بحجية السنة وإمكان اعتماد الحديث لتقييد مطلق القرآن وتخصيص عامه.. (فأهمية السنة لتوضح معاني الكتاب وبيان تطبيقاته وتقييد مطلقه أمر نقره ولا نشكك فيه، بل نعتقد ضلال من أراد فصل الكتاب عن السنة ص 142) ولكن (جهدنا يتعلق بوضع العلاقة بين الكتاب والسنة موضعها الطبيعي، بحيث يكون الكتاب هو الأصل الثابت وتكون السنة تابعة في مقاصدها وأحكامها لمقاصد القرآن وأحكامه ص 142).ويقدم الكتاب، مثالاً على ما يمكن أن ينتج عن تخصيص آية قرآنية كريمة (آية القصاص) بحديث آحاد مما قد يتعارض مع المبادئ القرآنية.
الأهم من كل ما سبق، أن لؤي صافي يتجاوز توجيه الانتقادات إلى المنهجية النصوصية التقليدية، إلى تقديم بديل حيوي وفاعل قادر على إنتاج منهجية علمية ترمي إلى (الانتقال من النظر الجزئي إلى النصوص المنفردة، إلى النظر الكلي من خلال اعتبار كافة النصوص المتعلقة بالموضوع المدروس. ص 195)، وهذه المنهجية هي ما سماها المؤلف (منهجية القواعد القياسية) تنطلق من مقدمة تعتمد على أن (النتيجة المتحصلة من مقدمات جزئية محتملة (= من نصوص منفردة) هي نتيجة ظنية محتملة لا محالة، والنصوص المفردة، سواء أكانت آيات من كتاب الله تعالى أم أحاديث من سنة رسول الله تفيد الظن، وبالتالي فإن الاستدلال الذي ينبني على نظر في نص منفرد أو استدلال ضعيف ص 192).
منهجية القواعد القياسية هذه، التي تعتمد على رؤية النصوص القرآنية مجموعة وإيجاد قواعد مستخرجة منها، ومن ثم عرض هذه القواعد على نصوص الحديث النبوية (.. فإذا توافقت دلالات الحديث ومعانيه مع دلالات الكتاب وأمكن حمله على البيان أو التقييد أو التخصيص، قبل الحديث بنصه. أما إذا تعارض نص الحديث ونص الكتاب وتناقضت دلالاتهما، وجب تأويل الحديث أو تخصيصه وتقييد دلالته بنص الكتاب، وأمكن في كلا الحالين القطع بأن المعنى المستنبط من نصوص الكتاب والسنة متوافقة مع مقاصد الوحي وتوجيهات الشارع ص 204) أي إن “منهجية القواعد القياسية” لا تعمد إلى رفض حديثٍ ما، كما يستسهل أدعياء التجديد لغرض نسف السنة كلها، ولكنهاتضعها ضمن ضوابط تزيد من فاعليتها.
الكتاب لا يكتفي بالتنظير لذلك، بل يقدم أمثلة عملية في موضوع في غاية الأهمية والحساسية، وهو موضوع القتال، يجمع كل آيات القتال، وكل أحاديث القتال (التي ستبدو متعارضة للوهلة الأولى)، ثم يطبق منهجية القواعد الأساسية، ليصل إلى مجموعة من القواعد والأحكام القرآنية التي يمكن من خلالها إعادة قراءة التعارض الظاهر مع بعض الأحاديث، والوصول إلى حكم متوازن ومتكامل لا يتعارض مع مجموع النصوص، بعيداً عن الانتقائية التي يمارسها كل من شاء أن يستدل بدليل منفرد (سواء كان هؤلاء دعاة العنف الذين لا يرون غير آية القتال، أو دعاة اللاعنف الذين لا يرون غير آية اللاإكراه)..
والحق أن (منهجية القواعد القياسية) هي بذرة جديدة لعلم أصول فقه معاصروهي تحتاج حتماً إلى المزيد من التمحيص والمقاربات والأمثلة والمقارنات لكي تنمو وتتأصل وتبرهن على مصداقيتها وتكاملها مع الرؤية القرآنية التي تشكل البنية الأساسية للعقل المسلم.
في الوقت نفسه، فإن وجود هذه الضوابط في (منهجية القواعد القياسية) هي بمثابة الفيصل الحاد بين هذه الرؤية التجديدية، ورؤية أدعياء التجديد الدينيالذي يمررون رؤيتهم الليبرالية تارة تحت ستار (المقاصد) المطاطة..، وتارة تحت شعار (تاريخية النص)، وتارة أخرى تحت (قراءة ألسنية) تعيد نسف كل شيء من أجل تركيبه من جديد على حسب النموذج الغربي.
.. لو أن كتاب “ إعمال العقل” كان يندرج ضمن هذه المحاولات لتنادى هؤلاء من كل مكان لإسناده والترويج له، ولجاءه الدعم من تلك المؤسسات الغربية التي لم تعد تخفي دعمها لهذه التيارات ولم تعد تكترث أصلاً لإخفاء الأمر أو تحديد الأشخاص الذين تدعمهم “بالاسم”..
لكن هذا التجديد الحقيقي، المنضبط، الملتزم برؤية قرآنية، لا يجد من يروج له، ولا يبكي عليه.. ولذا تجده بعد عشر سنوات من صدوره، شبه مهمل، شبه منسي..
لكن هذا كله يجب ألا يستمر… وعسى أن يكون هذه المقال قرعاً على جدار الصمت.. الصمت الأسوأ من أسوأ نقد..