بقلم أحمد خيري العمري القدس العربي
ديسمبر 2008
يُحكى في الأسطورة الإغريقية، أن الإغريق وبعد حصار طويل دام عشر سنوات لمدينة طروادة، أشرفوا على اليأس من جدوى الحصار وقرروا الانسحاب، إلا أن أوليس، أحد قادتهم، قرر اللجوء إلى الحيلة، فقام ببناء حصان خشبي ضخم.. وتظاهر بالانسحاب هو وجيشه.. تاركا خلفه الحصان الخشبي، عندها فرح الطرواديون بانسحاب الإغريق، وتصوروا أن ضخامة الحصان الخشبي قد منعت الإغريق من سحبه، واعتبروه غنيمة صمودهم، وأدخلوه المدينة وسط طقوس انتصار غامرة.
و في الليل، وبعد انتهاء الاحتفالات، خرج الجنود الإغريق من مكمنهم داخل الحصان الخشبي المجوف، وفتحوا الأسوار، حيث كان زملاؤهم بانتظار ذلك، واقتحموا المدينة وأعملوا السيف في أهلها.
لا شيء ـ تاريخيا- يدل على وقوع هذه الحادثة، لكن نسخاً معاصرة، بتنويعات مختلفة، لا تزال تحدث اليوم..لا أقصد ذلك الفيروس الفتّاك المنتشر عبر الشبكة والذي يقضي على الحواسيب، والذي يحمل ذات الاسم ..بل أقصد شيئاً آخر تماماً.
ذكرني بذلك كله إعلان مدفوع الثمن نشر في جريدة إعلانية تصدر في عاصمة عربية، الإعلان يطلب “باحثين في الفكر الإسلامي”.. الإعلان غريب طبعاً، فنحن لم نتعود إعلانات كهذه، أو حتى قريبة منها، ويندر أصلاً أن يكون هناك إعلان عن كتاب جديد، أو عن أي شيء ثقافي، غالباً تكون هناك إعلانات عن مساحيق تنظيف جديدة، عن أدوية للتخلص من السمنة، عن سيارات بالتقسيط، وعن منزل أحلام بقروض لا تُقاوم.. عن خادمة آسيوية هربت من منزل مخدومها.. ولكن، ليس عن “الحاجة إلى باحثين في الفكر الإسلامي..”. الإعلان غريب إذن.. غريب لدرجة مريبة، صحيح أن الفكر الإسلامي بحاجة ماسّة وطارئة إلى باحثين ومجددين، لكن الأمر لا علاقة له أبداً بإعلان عن “وظائف شاغرة” في جريدة إعلانية، فالباحث الجاد الحقيقي في الفكر الإسلامي لا يتم اصطياده أبداً عن طريق الإعلان عن “وظائف شاغرة” لأن البحث الجاد يعيش في دمه.. في كيانه.. وهو ليس بحاجة إلى مَنْ “يدفع له” كي ينتج بحثاً جاداً.
لنترك سوء الظن جانباً، ولنتمسك بحسن الظن.. ربما هناك مجلة فكرية جادة تريد نشر بحوث لدماء جديدة في الفكر الإسلامي.. ربما.. لِمَ لا؟ رغم أن الأمر سيتم غالباً عبر شبكة من العلاقات والاتصالات ـ وليس عبر الإعلان التجاري.
دعونا مجدداُ من سوء الظن، دعونا من نظرية المؤامرة، أحدهم نشر إعلاناً ما لباحثين في الفكر الإسلامي.. والمسألة في النهاية عرض وطلب.. لِم علينا أن نكبر الموضوع؟ ربما هو واحد من أمراء هذا الزمان، وهو مهتم شخصياً بالثقافة وبالفكر الإسلامي، ويريد أن يكّون نواة من باحثين شباب لنهضة يحلم بها.. لنهضة يريدها لبلاده ولمجتمعه، ويريدها أن تتأصل وتتأسس عبرالفكر الإسلامي، لعله التفت يميناً وشمالاً فلم يجد من الأسماء المعروفة من يمكنه أن يفعل ذلك، أو أنه تصور ذلك على الأقل، فقال لمساعده الشخصي، الذي لا علاقة له بالثقافة والفكر الإسلامي على الإطلاق، أن يبحث له عن باحثين في الفكر الإسلامي.. ولأن هذا المساعد خبير في تلبية طلبات من نوع آخر! فإنه لم يجد غير الإعلان في الجريدة كوسيلة لجلب “باحثين في الفكر الاسلامي”.
ربما.. وربما لا أيضاً.. كل سيناريوهات حسن الظن واردة هنا.. والمهم هو التمسك بها.. المهم هو أن لا نظلم الجهة التي تكبدت مشقة وعناء دفع المبلغ المستحق، فنحن شكّاكون ومعقدون بطبيعتنا ولدينا “إرساءات” سلبية عن كل ما هو إيجابي، ونظرية المؤامرة – لعنها الله-تجري منّا مجرى الدم. تسلّح بعض الشباب من الباحثين بحسن الظن. وكانت لهم وساوسهم طبعاً، ولكن ذلك طبيعي فقد ولدوا ونشأوا في بيئة موسوسة، وعليهم أن يتخلصوا من كل ذلك الموروث السلبي.. وكان اتصالهم بجهة الإعلان بحد ذاته خطوة إيجابية “محمودة”.. اتصال بعد اتصال.. ولقاء بعد لقاء.. والأمر لم يتوضح بعد، على الأقل ليس لمن ذهب من أولئك الشباب.. لكن لا بأس.. لا داعي لسوء الظن مرة أخرى.. سوء الظن سيئ.. سوء الظن سلبي.. مَنْ قال إن “المُمّول” الذي قد دفع الإعلان يريد أن يكشف عن نفسه. ربما يريد أن يظل فاعلاً مجهولاً للخير لا تعرف شماله ما تنفقه يمينه. مَنْ قال إن الجهة الراعية يجب أن تكشف عن نفسها وعن مؤسسيها من الجولة الأولى؟ سترشح أشياء قليلة خلال هذه اللقاءات لكنها مغرية بما فيه الكفاية لأولئك الشباب، هناك وعد ليس بنشر بحوثهم وطباعتها فحسب، بل وبالترويج لها أيضاً.. وكل من دخل مجال النشر يعرف أهمية “الترويج” ـ وكم يعني بالنسبة للكاتب، خاصة الشاب. هناك وعد أيضاً بمكافأة مالية، ووعد “غامض” عن الاستعداد لنشر البحث وترويجه دون أن يحمل شعار المؤسسة “أي لكي لا يحترق الكاتب الشاب إذا ثبت احتراق المؤسسة الداعمة!”.
هل كل هذا لوجه الله؟ سنسأل مرتبكين.. لكن، إنها أفكارنا السلبية مرة أخرى هي التي تطرح الأسئلة.. لِم لا يكون كل هذا لوجه الله تعالى، أم إننا لا نتوقع خيراً من أحد على الإطلاق؟ سيناريوهات حسن الظن لم تسقط تماماً إذن.. رغم وجود سؤال محوري في تلك اللقاءات، يدور بطريقة أو بأخرى، حول التعمق، بمنهج أحد أدعياء التجديد الديني المعروفين.
في النهاية، وبعد سلسلة من اللقاءات، لن ينتهي الأمر عند بلاط الأمير الافتراضي، فأمراؤنا على ما يبدو ليسوا مهتمين بالنهضة حتى اللحظة، ولن ينتهي الأمر عند مجلة جادة تريد دماءً جديدة في الفكر الإسلامي من شباب غير معروفين، بل سينتهي عند ذلك الإسم تحديداً، الذي كان قد طرح في اللقاءات، أي اسم أحد أدعياء التجديد : سيتضح إنه صاحب المؤسسة التي تطلب الباحثين الشباب، والتي ستدفع لهم، وتطبع لهم، وتروج لهم أيضاً. لكن لم يفعل ذلك؟ أليس ذلك غريباً نوعاً ما، أن يتحول من كاتب إلى صاحب دار نشر (تغامر) بنشر أعمال لكتاب غير معروفين، وتم طلبهم عبر إعلان عن وظائف شاغرة؟!
لم لا؟.. لعله صاحب قضية، صاحب مشروع، ومستعد أن يغامر بكل شيء لينشر ما يسند مشروعه هذا.. لم سوء الظن إذن؟ حسناً.. سنوافق على ذلك ونعوذ بحسن الظن من التشكيك بالرجل.. قد نختلف معه في أفكاره وفي منهجه،، لكن اتهامه واتهام نيته أمر مرفوض، هل نرفض “قبول الآخر”والعياذ بالله، وهذا الكاتب هو “آخر”، وعلينا أن نقبله ونحترمه ولا نشكك في نيته حتى لو قال كل ما قال وأكثر.. حسناً.. سؤال آخر، من أين جاءت الأموال؟ المؤسسة المذكورة ليست مكتباً محلياً على الاطلاق، أي أنها ليست “دكانة الحي” ويمكن تدبير مصاريفها بسهولة، بل هي مؤسسة لها مكاتب في عاصمتين عربيتين (ليس أي منهما في العاصمة التي ينتمي لها صاحب المؤسسة!). رجعنا لسوء الظن؟ الرجل له أتباعه وقسم منهم أثرياء، ربما تبرعوا له بالأموال..ربما الأموال هي أمواله أصلا.. لو تمسكنا بحسن الظن لوجدنا عددا لا ينتهي من الاحتمالات التي تفسر لنا هذا..
لكن هناك سيناريو آخر. أكثر واقعية، وأكثر احتمالاً.. رغم أنه يحيد عن “حسن الظن”.. ذلك أنه من الصعب جداً التصور بعدم وجود “ربط” واضح وقوي، بين هذه المؤسسة التي تعلن عن وظائف فكرية شاغرة، وبين حقيقة أن الرجل الذي على رأس هذه المؤسسة، قد ذُكر اسمه صراحة في التقرير الأخير لمؤسسة “راند”، باعتباره نموذجاً من الفكر الإسلامي الذي يجب دعمه .. الأمر إذن ليس نظرية “مؤامرة”! بل هو الأمر الواقع الموثق بالأسماء والأرقام.. إنه “حصان طروادة” الذي تحاول مؤسسة “راند” من خلاله نقل المشروع التغريبي الليبرالي إلى مرحلة جديدة، عبر وضع صبغة إسلامية عليه، صبغة تسهل مروره عبر أسوار كانت قبلها حصينة وممانعة..
الجديد في النسخة المعاصرة من “حصان طروادة” أن إغريق هذا الزمان، لم يكترثوا كثيرا لإخفاء أمر الحصان، لم يعتبروه خطة سرية لتمرير خداعهم..على العكس، إنهم يصرحون علنا بتفاصيل خطتهم.. وينشرونها عبر تقارير موثقة على الشبكة ويمكن تحميلها مجّانا من مواقعهم، بل ويفصحون عن أسماء النجّارين من أهالي طروادة الذين سيساهمون في بناء الحصان الذي سيخترق بالخديعة أسوار طروادة.. وهؤلاء بدورهم يعلنون في صحف طروادة عن الحاجة إلى “نجّارين ” صغار للمساعدة..
أما أهالي طروادة المعاصرة فهم إما نيام نوما تاريخيا، أو أنهم منشغلون بقضايا أخرى، أو أنهم مثل أهالي طروادة الاصليين، حسني الظن لدرجة تجعلهم لا يرون في حصان طروادة الا هدية أو غنيمة من الأعداء.. حصان طروادة على الأبواب إذن، يمكن لنا أن نحسن الظن به، كما فعل أهل طروادة، ونثبت مرة أخرى، أن حُسن الظن، أحياناً على الأقل، هو من سوء الفِطَن .