د.أحمد خيري العمري
يونيو 2012
عوملت واقعة “الإسراء والمعراج” على أيدي التقليديين ، بالضبط كما عوملت الشعائر والأركان ، بل كما عومل كل شيء تقريبا في هذا الدين العظيم ..فكما تحولت الشعائر إلى طقوس “شبه كنسية” لفصل الدين عن الدنيا…وكما قزمت كل المفاهيم لتقدم في قالب جزئي و ظاهري ، فقد عوملت واقعة الإسراء والمعراج لتقدم بشكل “حدوتة” يتم استذكارها في موعدها السنوي ، وتقدم باعتبارها “معجزة” النبي الذي ركب حصانا سريعا وانتقل من مكة إلى القدس في ليلة واحدة (في زمن كان ذلك يستغرق وقتا طويلا) ثم عرج بعدها إلى السماء..ويتم استذكار هذا الحدث وتكرار قص تفاصيله في كل ذكرى له ، دون أي محاولة لتقديم المغزى الذي يجعل “المعجزة” مستمرة فينا..كل المعجزات جاءت للتغيير ، ..وتقديم واقعة الاسراء والمعراج على هذا النحو الذي تقدم فيه، يبعدها عنا..لا شيء فيها يمكن أن يستثمر في حياة وفهم وخطة أي منا.تبدو الواقعة “تاريخية” في دين أهم وأعمق ما فيه أن “قيمه لا تاريخية” (على سبيل المثال ، المسيحية تقوم على وقائع تاريخية محددة مرتبطة بالسيد المسيح عليه السلام، إهمالها سيؤدي إلى هدم كل العقائد المسيحية ، بينما لا شيء في العقيدة الإسلامية مرتبط بحياته عليه الصلاة والسلام وتفاصيل ميلاده ووفاته..)
..كيف يمكن أن نقرأ الإسراء والمعراج على نحو آخر إذن ؟ نحو آخر غير القصة التاريخية ؟..
ننسى دوما ، عندما نقص ما حدث ، إنه عليه الصلاة والسلام ، في تلك المرحلة الصعبة من الدعوة في مكة والتي كانت تبدو فيها كل الطرق مسدودة ومغلقة ، قد انتقل عبر الإسراء والمعراج ، إلى أفق آخر من المعطيات ، زيارته للقدس ، في تلك الليلة ، فتحت مداركه على إمكانية الانتقال بالدعوة إلى موضع آخر ، وجاءت القدس كما لو لتذكره ، بأن موسى انتقل بقومه من أرض مصر ، إلى أرض الميعاد ، صحيح ان موسى لم يصلها ، لكنهم أكملوا المسيرة لاحقا..ووصلوا ، وبنوا ، ..وأنجزوا..
لن يكون صدفة إنه عليه الصلاة والسلام لم يحاول مع “مدينة أخرى” غير مكة إلا بعد الإسراء.
أولا مع الطائف..ونعرف ما حدث فيها.
وثانيا مع وفود أهل يثرب.
ونعرف أيضا ما حدث فيها..
العبرة المستمرة ، هنا أن الإسراء يمكن أن يستمر دوما عبر التعرف على تجارب حضارية مختلفة ، تجارب بعيدة وقد لا ترتبط معنا بإرث مشترك ، لكن يمكننا أيضا أن نستفيد منها ، لا يعني ذلك اقتباسها ، ولا استيرادها ، فقد تكون الفائدة هي أن نتركها ، أن نتعرف عليها لنعرف أهمية أن لا نكون مثلها…لكن سيبقى ذلك مهما ، والأهم منه ان يكون هناك “معيار” واضح لتمييز الخطأ والصواب في تلك التجارب..
الرسول الكريم ركب البراق في تلك الرحلة.لم يذهب كيفما اتفق بل كان معه جبريل ، حامل الوحي الكريم..
ليس هذا فقط ، بل إن الواقعة كلها قد بدأت كما في حديث صحيح البخاري “باستخراج قلبه الكريم وغسله من ثم إعادته إلى جوفه” ، كما لو أن المبدأ الأساسي في اي عملية تعرف حضاري أن نغسل قلوبنا من إي إنبهار بما سنرى..وأي رفض مسبق كذلك..وأن نتمسك بما تمسك به عليه الصلاة والسلام في رحلته تلك (البراق وجبريل ، أي الوحي..)..
أي علاقة بتجربة حضارية يشوبها الإنبهار أو الرفض المسبق ستكون علاقة شاذة..
ليس سوى أن تغسل قلبك بماء القرآن وصابون السنة (أي الحكمة النبوية)..قبل أن تتعرف على تلك التجارب..
بعدها يمكن لم أن ترفض على بينة.
وأن تقبل ما يفيدك منها ، وتغسله أيضا بماء القرآن وصابون السنة ، قبل أن تستخدمه !
***********
….رؤيته عليه الصلاة والسلام للأنبياء ، ومن ثم إمامته لهم ، فيه من المعاني الواضحة التي لم يغفل عنها التقليديون..
ولكن فيه أيضا أن نتذكر أن “من ياتي آخرا” قد يحقق القيادة والإمامة ، بأدائه لمستخقاته وبمعزل عن كونه “الآخر زمانه”..
فلنتذكر أنه عليه الصلاة والسلام لم يسم “اخوانه” لصحابته أو تابعيه..بل لجيل آخر ، سيتبعه دون أن يراه ..وقد يكون قد حقق ما يجعله يستحق أن يكون من “إخوانه” عليه الصلاة والسلام ، عندما ننظر إلى ما حققه هذا الجيل بمقياس القرآن والسنة ، لا بمقياس من يهمه أن يبقى هذا الجيل في آخر القائمة !..
**********************
..وفي حديث البخاري ، تلك الإشارة إلى أنهار الجنة ، إثنان منها هما الفرات والنيل..
أحواض الأنهار هي مراكز قيام الحضارات..
وقد كانت تلك الإشارة تعني وقتها ،إنكم لن تصلوا حقا إلى الجنة في السماء ، ما لم تبنوا ما يستحق دخولها على الأرض..
لديكم تلك الأنهار في الأرض..
إبنوا بناؤكم هناك.
ولنر بعدها..
….خلال عقدين فقط ، كان البناء الذي بناه عليه الصلاة والسلام قد وصل ضفاف الفرات والنيل !
*******************
أهم إشارة برأيي الشخصي هي ما قاله موسى في نفس الحديث الصحيح..
ثُ…مَّ فُرِضَتْ عَلَيَّ الصَّلَوَاتُ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ فَرَجَعْتُ فَمَرَرْتُ عَلَى مُوسَى فَقَالَ بِمَا أُمِرْتَ قَالَ أُمِرْتُ بِخَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ قَالَ إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ وَإِنِّي وَاللَّهِ قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ فَرَجَعْتُ…
جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أدش المعالجة..
هنا معركة النهضة الحقيقية.
هنا الجهاد الأكبر.
تغيير النفوس.
تغيير العقول.تغيير العقل الجمعي الذي تكرس وركز في رؤوس الناس وجعلهم ما هم عليه.
لن يبنوا مراكز الحضارات حقا ما لم يتغيروا.
لن يساهموا في “معراج” أمتهم ما لم يحدث ذلك.
بل لن يتعرفوا على أي تجربة أخرى إلا من خلال الانبهار أو الرفض المسبقين..
هناك ، في الرؤوس ، المعركة الأهم..والفتح الأهم..
بعدها..
كل شيء مجرد تفاصيل..
(ويمكن فهم أهمية الصلاة ، التي جاء بها الرسول عليه الصلاة والسلام من معراجه ، في هذا الضوء..
ضوء معركة التغيير والبناء -النفسي والمجتمعي..)…
************************
ليس غريبا بعدها أن تركز سورة الإسراء على ما حدث مع بني إسرائيل فيما جربه موسى معهم..وفي علاجه الشديد لهم !…
فما حدث معهم ، سيحدث معنا بالضبط..
ليس في وقت الرسول عليه الصلاة والسلام..
لكننا ، عبر الأجيال ..سنتصرف بالضبط كما فعل بنو إسرائيل..
..كما لو أننا اوصينا بذلك..
******************
الإسراء والمعراج يستمر بخروجنا من تيه بني إسرائيل الذي وضعنا انفسنا فيه..
يستمر بتمكننا من أن نتفاعل -عبر القرآن والسنة- مع أي تجربة حضارية دون عقدة نقص تجعلنا ننبطح ، أو عقدة تعالي تجعلنا نتصور أن عليهم أن ينبطحوا لنا..
الإسراء والمعراج يستمر بأن ننهض إلى معراج أمتنا..
أن نجعلها ما يجب أن تكون…
الإسراء والمعراج يستمر بأن نؤمن بأن الرحلة مستمرة..
وأن على كل منا أن يضيف خطواته عليها..
***********
..ليس صدفة..
أن تكون سورة الإسراء هي التي تضم تلك الآية..
“إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم”..
أقوم..
من القيام..
القيام…يعني النهوض…