هوامش على دفتر الثورة -13-
الأخلاق الثورية ، بين السيرة النبوية ، والتجربة الغاندية !
د.أحمد خيري العمري
سبتمبر 2011
لأسباب متعددة، وبالتدريج ، تحولت سيرة النبي عليه أفضل الصلاة والسلام لتكون أشبه بسيرة المهاتما غاندي !…أي سيرة “لا عنفية” كما يسميها بعضهم بوضوح وصراحة نحترمهم عليها.. وهذا التحول يتطلب عملية جراحية “عامة ، غير دقيقة” لحذف عشوائي لكل ما لا يناسب “المنظور اللاعنفي ” حسب نظرية غاندي وأتباعه ومريديه !…(سيقولون هنا طبعا: الحكمة ضالة المؤمن، أقول منذ البداية: الحديث ضعيف !..والحكمة نستقيها من القرآن والسنة، وإن وجدنا ما لا يناقضها في مكان آخر فخير وبركة!)
ولما كانت سيرته عليه الصلاة والسلام حافلة بما يتناقض مع ما يؤمن به هؤلاء ، فإن بتر واسع لأجزاء مهمة من سيرته ، وأيضا من شخصيته ، ومن أخلاقه ، يتم تحت شعارات فضفاضة مائعة..
أنا هنا لا أتهمهم بالكذب ، رغم أنهم يستخدمون في بعض الأحيان أحاديث ضعيفة وموضوعة … لكني أتهمهم بالانتقاء من سيرته ما يناسب أفكارهم المسبقة، وبالتالي من أحاديثه عليه الصلاة والسلام ، وأيضا وفي نفس السياق ، الانتقاء من الآيات القرآنية..
وهو بالمناسبة : نفس ما يفعله بالضبط “العنفيون” على الجانب الآخر من التطرف، فإذا كان اللاعنفيون ينتقون هذه الآية أو تلك “لا إكراه في الدين” مثلا- فإن العنفيين يختارون أية “فاقتلوهم”..وإذا كان اللاعنفيون يختارون موقف “اذهبوا فأنتم الطلقاء”-والحديث ضعيف بالمناسبة رغم إن التسامح مع مشركي مكة ثابت، فإن العنفيين يختارون موقف “خيبر”…وفي الحالتين ، يتم التضحية بتكامل سيرة النبي و توازنها وشمولها على كل ما يلزم لمواجهة بناء الحضارة والمجتمع الحياة : القوة بجانب اللين، كل في موضعه…
******
لكن المنساقين للخلط بين الرسول الكريم وغاندي لا يفعلون ذلك من منطلق واحد وإن تشابهت أقوالهم : فقسم منهم يفعله من منطلق عقائدي بحت، إنهم أصحاب أيدلوجية (لا عنفية) وهم يسقطونها ، كما يفعل أغلب أصحاب الأيدلوجيات على سيرته الكريمة، كما فعل قبلهم الاشتراكيون العرب عندما أسقطوا نظرياتهم على بعض سيرته ، وكما فعل “القوميون” عندما استغلوا عروبته، بل وكما يفعل “العلمانيون ” اليوم عندما يستغلون حديثا (أنتم أعلم بشؤون دنياكم) –مثلا- أو موقفا (وثيقة المدينة) للترويج لمبدأ فصل الدين عن الحياة…
لكن هناك نوع آخر من المخلطين لا يفعلون ذلك من باب أيديولوجي مسبق، بل من باب رد الفعل الدفاعي عن الإسلام ورسوله ضد إدعاءات أعدائه..وأعني هنا الادعاءات الغربية التي تتهم الرسول الكريم –والإسلام ككل- بالإرهاب والعنف..وهي الاتهامات التي لم تختف تماما منذ أن غزانا “الفرنجة”!.. وبقيت كامنة في “العقل الجمعي” الغربي…ولكنها تصاعدت حتما مع الولادة الرسمية للإسلاموفوبيا في وسائل الإعلام ، مع ما يعرف بالثورة الإسلامية -!- في إيران وأزمة الرهائن في أواخر السبعينات من القرن الماضي، وتصاعدت أكثر وعلى نحو دراماتيكي بعد الحادي عشر من سبتمبر ، خاصة إن دور ومنافذ وسائل الإعلام قد ازداد جدا في هذه الفترة.
الاتهامات لم تكن جديدة يوما على الإسلام ولا على الرسول عليه الصلاة والسلام، والمنهج القرآني يوضح إن التمادي في الدفاع لن يجدي ، لذا فالرد يكون غالبا مقتضبا ، عندما اتهم الرسول بأنه يعلم من قبل “نجار رومي، نصراني”(= أجندة خارجية بلغتنا المعاصرة) فإن الرد كان مقتضبا وقاطعا (لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين) ، ولو كان المنهج هو الإسهاب في رد الفعل، لوجدنا القرآن كله يثبت إن الرسول ليس بشاعر أو مجنون أو كاهن..الخ…
لكن عقلية المستلب-المهزوم ونفسيته مختلفة : فهو يقضي الوقت في رد الفعل حتى يغلب ذلك على الفعل عنده ، وهو عندما واجه هذه الاتهامات التي تطال الرسول والإسلام ، قضى الوقت في نفيها حتى تطرف في ذلك ، لم يمض إلى “الحقيقة المتوازنة” التي تعيد النظر في تعريف الإرهاب مثلا، بل يستقبل “تعريفهم” هم ويحاول نفيه عنه عليه الصلاة والسلام،ويتمادى في ذلك إلى درجة حذف كل ما يمكن أن يكون قريبا من تعريفهم للإرهاب..حتى لو كان هذا التعريف مخالفا لثوابت قرآنية أو يملك تحيزا مسبقا لصالح الرؤية الغربية- ويغض النظر عن ما يمكن أن يندرج في هذا التعريف ما حصل في التجربة الغربية..
النتيجة أن رد الفعل الدفاعي يبالغ في تقديم صورة مصممة لا لتقدم “الحقيقة” بل لكي تبعد اتهامات الغرب ، حتى لو أدى ذلك إلى سلب واحدة من أهم ما في سيرة الرسول الكريم من قيم : أي تكامله وتوازنه وكون سيرته مثالا تطبيقيا لكل ما في الإسلام ، أي إن جانب استخدام القوة (وليس العنف !) موجود و لكنه “مقنن” ومنضبط بضوابط شرعية ، كما جانب “نبذ القوة” والجنوح إلى “السلم” موجود ولكنه مقنن أيضا ومنضبط بضوابط شرعية ، كذلك استخدام “الشدة” في التعامل ، موجود وواضح ، إلى جانب استخدام اللين والرفق، ولكل موضعه وفعاليته دون أن يتعدى جانب على آخر..
لكن رد الفعل الدفاعي ، بالإضافة إلى موقف “اللاعنفيين” يقوم بتقديم صورة “منقوصة” لا شدة فيها ولا استخدام للقوة (يسمونها عنفا !) وكل ما فيها تسامح ورقة و لين..
أصحاب” رد الفعل” من مشايخ ودعاة لا يجرؤون على حذف منهجي لما لا يناسب تلك الصورة، هم يغضون الطرف عنها فحسب ، أما اللاعنفيون ، أو على الأقل البعض منهم ، فهم لا يتورعون أحيانا عن رفض” منهجي” لكل نص شرعي لا يناسب رؤيتهم ( النسخ بالنسبة للنصوص القرآنية، فكل آيات القتال خاضعة للنسخ برأيهم، أما الأحاديث النبوية فأمرها أسهل ، كل الأحاديث مكذوبة ما دامت لا تتسق مع الرؤية اللاعنفية التي ينظرون للعالم من خلالها )..
النتيجة المستخلصة من كل هذا ، هو أن الصورة التي قدمت في العشر سنوات الأخيرة، للرسول الكريم ، كانت صورة خيالية ، و لن أقول مثالية لأن سيرته مثالية فعلا و لكن حسب معايير قرآنية وليس أي معايير أخرى…الصورة الخيالية تجعله عليه الصلاة والسلام يكاد يكون مثل المهاتما غاندي في نضاله السلمي ، وأحيانا الصورة التي تقدمها الكنيسة للسيد المسيح عليه السلام..و يضعون على لسانه عبارات تكاد تشبه ما ينقل عن السيد المسيح في الإنجيل “أحبوا أعدائكم، باركوا لاعنيكم.. الخ”..فهو لا يغضب ، ولا يكون شديدا قط ، و لا يكره أعداءه ، ناهيك عن أن يلعنهم ..!
هذه الصورة –غير الواقعية- لها تأثيرات سلبية خاصة في هذه المرحلة الثورية الحرجة التي تمر بها الأمة ، حيث الشعوب تتفجر غضبا من أجل كرامتها وحقوقها وحرياتها..فالرسول الكريم هو “الشخصية المركزية” –القدوة، الذي تلتفت الأمة إليه –أو على الأقل يلتفت جزء كبير من ثوارها إليه- في هذه المرحلة، ليجدوا عنده عليه الصلاة والسلام المنهج الثوري الأخلاقي الحقيقي بينما النموذج المطروح من قبل جماعة “ياااااه ، ده دين ربنا حلو أوي يا جماعة” قد لا يكون قياديا بما فيه الكفاية في هذه المرحلة بالذات ، إذ إن “البعد الواحد” الذي يقدمه هذا النموذج يفتقر إلى الحزم والشدة المطلوبان في هذه المرحلة..وربما في كل مرحلة !…
ما هو أبرز ملامح الصورة الخيالية التي تقدم فيها سيرة النبي وكيف تتناقض مع الصورة الواقعية الحقيقية؟
أولا – إن عدم استخدام القوة ، وعلى نحو مطلق ، كان هو منهجه عليه الصلاة والسلام طيلة الفترة المكية، يفترض اللاعنفيون بعد هذه المقدمة إننا “نعيش في مرحلة أشبه ما تكون بالفترة المكية” وبالتالي فإنه لا يمكن القيام بأي نوع من أنواع المقاومة التي قد تخالف “المنهج السلمي”..(علما إنهم في مواقف أخرى، يكونون واضحين جدا في عدم رغبتهم في الوصول أصلا إلى مرحلة الدولة المدنية!!)
من السهل جر هذه الفكرة إلى فخين جدليين : أولهما إن الكثير من الشعائر أيضا لم تكن موجودة في الفترة المكية ، فهل يعني ذلك إيقافها لحين “خروجنا من الفترة المكية”؟
ثانيهما : إن الفكرة تحتوي ضمنا على “تكفير” لعموم المجتمع والحكم بجاهليته ، وهي فكرة يرفضها اللاعنفيون جملة وتفصيلا ، ويحاربون من يتبناها من أصحاب التطرف المضاد…
ورغم إن هاتين النقطتين كافيتان – في رأيي- لنقض المبدأ(نظريا)..إلا إنه من الضروري أن نتنبه هنا إلى إن ما يقوله اللاعنفيون ، يمتلك مصداقية التجربة دون التعميم ، أي إنه “حدث فعلا” في مرحلة ما من الفترة المكية ، وإن هذا كان له حتما أسبابه التي علينا أن نحللها ونفهمها ضمن سياقها..
من أهم ما يستند عليه اللاعنفيون هنا ، هو حديثه عليه الصلاة والسلام “صبرا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة” -والحادثة التي أدت إلى هذا الحديث ، ويقصدون هنا إنه لو كانت “المقاومة اللا سلمية ” مشروعة ، لحاولها الرسول عليه الصلاة والسلام بدلا من أن يشير عليهم بالصبر..
كذلك يستخدم ، وبدرجة أقل حديث خباب بن الأرت “شكونا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة وقد لقينا من المشركين شدة فقلنا : الا تدعو الله فقعد وهو محمر وجهه وقال : ” كان الرجل فيمن كان قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه فيجاء بمنشار فيوضع فوق رأسه فيشق باثنين فما يصده ذلك عن دينه والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون “(البخاري 3612).
للوهلة الأولى ، سيبدو كما لو إن هذا هو الوضع هو الذي ساد في “الفترة المكية”، أو هكذا على الأقل يستخدم اللاعنفيون هذه النصوص النبوية ، لكن هناك تفصيل مهم في كل هذا :
عن مجاهد قال أول من أظهر الإسلام سبعة رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبو بكر وخباب وصهيب وبلال وعمار وسمية أم عمار فأما رسول الله صلى الله عليه و سلم فمنعه أبو طالب وأما أبو بكر فمنعه قومه وأما الآخرون فألبسوهم أدراع الحديد ثم صهروهم في الشمس فبلغ منهم الجهد ما شاء الله أن يبلغ من حر الحديد والشمس فلما كان من العشي أتاهم أبو جهل لعنه الله ومعه حربة فجعل يشتمهم ويوبخهم (حلية الأولياء).
و عن محمد بن إسحاق ، قال : كانت بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر وبأبيه وأمه ، وكانوا أهل بيت إسلام ، إذا حميت الظهيرة فيعذبوهم برمضاء مكة ، فيمر بهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فيقول ، فيما بلغني : « صبرا آل ياسر، موعدكم الجنة » فأما أمه فقتلوها وهي تأبى إلا الإسلام «معرفة الصحابة للأصبهاني”
إذن الحديثين (حديث آل ياسر وحديث لكنكم تستعجلون مع خباب) مرتبطان بفترة واحدة ، وهي فترة مبكرة جدا لدرجة إن هناك سبعة فقط كانوا قد أظهروا الإسلام ، سبعة من ضمنهم الرسول عليه الصلاة والسلام، لا يمكن تحديد هذه الفترة بالضبط إلا إنها حتما كانت في الثلاث سنوات الأولى ، وكان عدد المسلمين لا يتجاوز الثلاثين رجلا (قياسا على مرتادي دار الأرقم) علما إنهم لم يزيدوا عن المائة حتى بعد عشر سنوات..
كما إن طبيعة المجتمع المكي – المعتمد على العشائر والبطون الأساسية ، والتحالفات فيما بينها -قد وفرت نوعا من الحماية في بعض الأحيان (كما مع الرسول الكريم ،وأبو بكر من بين السبعة الأوائل)و لكنها هي نفسها التي سلمت آل ياسر لمشركي مكة كي يسومونهم سوء العذاب ( كان بنو مخزوم قد حالفوا ياسر – العنسي القادم من اليمن- وزوجوه أمة لهم هي “سمية” التي أعتقت بعدما ولدت عمارا)..بعبارة أخرى ، إن الدفاع عن آل ياسر (باستخدام القوة) كان سيطيح بمنظومة توفر بعض الحماية لغير آل ياسر..
لكن هذا الوضع لم يستمر طيلة الفترة المكية كما قد يوحي الاستخدام المطلق للنصين المتعلقين بالحادثة ، لا يعني هذا إنه قد تم استخدام القوة لاحقا ، أو انه قد سمح بالقتال في مكة ، فالأساس كان ” فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ” 94 الحجر..لكن في الوقت نفسه ، يجب أن نلاحظ إن وجود “القوة” والتلويح باستخدامها أو استخدامها على نحو محدود، ساهم في ردع المشركين في أذاهم الجسدي للمسلمين..أكثر الأمثلة وضوحا على ذلك واقعة ضرب أبي جهل من قبل حمزة وشجه لرأسه ، وما فعله عمر ابن الخطاب عند إسلامه ، فكان عبد الله بن مسعود يقول: ما كنا نقدر على أن نصلى عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم عمر قاتل قريشا حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه كما ثبت في صحيح البخاري عن ابن مسعود أنه قال: ” ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر بن الخطاب “. علما إن إسلام حمزة وعمر كان مقاربا زمنيا على ما يبدو ، وتقول الروايات أن عمر كان المسلم رقم أربعين ، أي أننا نتحدث عن مرحلة لا يزال العدد فيها محدودا، ولا يزال المؤمنون فيها “أقلية” عددية..ورغم ذلك فقد تمكنوا من إحداث نوع من الردع الذي جعل قريش تكف عن الأذى الجسدي المباشر (الذي حصل مع آل ياسر وخباب مثلا) وتبحث عن أذى من نوع آخر : التصعيد الإعلامي، تشويه السمعة، الحصار الاقتصادي والمنع من لقاء الوفود..الخ..لكن “استخدام نوع مقنن من القوة” ساهم في وقف تمادي قريش في إيذاء المسلمين..
لا يعني كل ما سبق نبذ السلمية في الثورات التي تخوضها شعوبنا للمطالبة بحقوقها الأساسية..قد تكون السلمية هي الخيار الاستراتيجي الذي يفضله الثوار في دولة ما و يفضل آخرون استبداله في دولة أخرى، هذا طبيعي ويرجع لرؤيتهم وتحديدهم لحجم قوتهم وقوة عدوهم وما يردعه أو يستثيره أو يضعفه أو يقويه…لكن ما أريد أن أؤكد عليه هنا ، أن ذلك يجب ألا يرتبط بنص ديني يملك سلطة أكثر من سلطة “الاختيار” نفسه..وقد ثبت هنا أن النصوص الأكثر استخداما لإثبات هذا ، مرتبطة بمرحلة مبكرة جدا كان المسلمون فيها في أشد حالات ضعفهم من ناحية العدد والمنعة..وهو أمر تغير بعد فترة وجيزة جدا..
ثانيا : الصورة المقدمة للرسول الكريم مفرطة في تسامحها ورقتها (وقبولها للآخر !!) على نحو يناقض تماما الكثير من النصوص التي تقدم لنا الرسول الكريم في صورة “متوازنة” تعكس أول ما تعكس “توازن الرسالة ” التي يحملها..، مثلا يردد أنه قال لأحد الصحابة “لا تغضب”..-وقد قال فعلا ذلك- لكن هذا يؤخذ كما لو كانت هذه النصيحة لا تخص شخصا ربما كان يغضب لتوافه الأمور و ليس لمحارم منتهكة أو لوضع الأمة..، الخروج عن “تفاصيل ” –لا نعرفها- لحديث مثل “لا تغضب” يجعل هؤلاء يتجاهلون أيضا إنه كان يغضب حتى “بان الغضب على وجهه” أو “حتى أحمر وجهه”، وفي حالات ومواقع متعددة (عندما رأى أصحابه يتنازعون في القدر، عندما تنزه البعض عن أمر رخص فيه الشرع، عندما رأي “نخامة” في المسجد)، كما تشير الأحاديث إلى غضبه عليه الصلاة والسلام عندما قيل عن أحداهن أنها ماتت واستراحت ، وغضب بشدة عندما راجعه أحدهم في شأن خيبر ، وغضب عندما رأى مع عمر شيئا مكتوبا من التوراة (بالرغم من أنف مبدأ القبول بالآخر الذي صرعنا به القوم!!)..كما ثبت وصف الصحابة له (كان إذا غضب أحمرت وجنتاه) ..
كما صح عن عائشة رضي الله عنها إنها قالت : دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان فكلماه بشيء لاأدري ما هو فأغضباه فلعنهما وسبهما فلما خرجا قالت : يا رسول الله ! من أصاب من الخير شيئا ما أصاب هذان ؟ قال : وماذاك ؟ قالت : قلت : لعنتهما وسببتهما قال : أوما علمت ما شارطت عليه ربي ؟ قلت : إنما أنا بشر فأي المسلمين لعنته أو سببته فاجعله له زكاة وأجرا- السلسلة الصحيحة 83
كما قال أيضا عليه الصلاة والسلام ( أيما رجل من أمتي سببته سبة أو لعنته لعنة في غضبي فإنما أنا من ولد آدم أغضب كما تغضبون وإنما بعثني رحمة للعالمين فاجعلها عليهم صلاة يوم القيامة) الصحيحة 1758 ، هكذا، وببساطة وصدق، ودون فذلكات تصعيدية كما يفعل المتنطعون اليوم، يقر عليه الصلاة والسلام بانه قد يغضب فيسب ويلعن، وقد يكون من غضب عليه لا يستحق ذلك بالضبط!..
مجرد إثبات غضب الرسول عليه الصلاة والسلام عبر البحث عن نصوص ، يدل على أي مرحلة وصلنا فيها من “غسيل الدماغ”، حتى يكاد البعض يتصور أن قدوته عليه الصلاة والسلام لم يكن يغضب كبقية البشر، كما لو كان قد خلق دون الهورمونات الانفعالية التي تؤدي إلى الغضب..
ولا يعني هذا إن الغضب أمر “محمود” بالمطلق أو أننا مأمورون به، لكن الأمر دوما هو في “تقنينه” وضبطه بضوابط شرعية ، سيكون عندها “محمودا” و”مأجورا” فعلا ..إنه يحدث، بكل الأحوال، ومادام لا بد من ذلك فلا بد أن يكون في الله ومن أجل ما ينتهك من حرماته..
فلنتنبه هنا إلى إن الغضب النبوي في أغلب ما سبق حدث نتيجة “مخالفات ” في التصرف أو التعامل ، ولو غضب أي منا على ما يشابهها لتمعرت وجوه اللاعنفيين وهم يتهموننا بمخالفة سنته اللاعنفية …ذلك أن سنته بالنسبة لهم انتقائية وخالية من كل ما يمكن أن يخالف المهاتما غاندي والدالاي لاما
ثالثا: وصل الأمر ببعض “اللاعنفيين” إلى القول أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يدعي على أعدائه أو يلعنهم ، وبناء على ذلك ، فلا يجوز للثائر ، أن يدعو على “شبيحة” النظام ، أو جلاوزته ، أو أي من بطانته بل ربما حتى رأسه ، بل يجب أن يدعو لهم بالهداية وربما بالمغفرة..!
بصراحة: هذا الكلام ليس خاطئا فحسب بالقياس على سنته “الحقيقية” المتوازنة عليه الصلاة والسلام، بل ربما يكون أيضا يشي بوجود مرض عضال نفسيا ، وقد يخفي بعضا من التعاطف الخفي مع النظام أو الرغبة في المحافظة على موضع قدم في حالة عدم سقوطه..هذا عدا عن كونه يحمل قدرا كبيرا من الوصاية على الثوار “الطبيعيين” الذين لا يملكون هذه الأمراض..والذين قد يساورهم الشك في صحة ما يفعلونه نتيجة لما يقوله هؤلاء..
أولا – لم يصح عنه إنه قال “اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون”..أي إن الحديث الذي يهددوننا به كلما فتح أحد الثوار فمه ليدع على النظام ، هو حديث ضعيف!.
أما الحديث الذي فيه “إغفر لقومي فأنهم لا يعلمون”-وهو حديث صحيح فعلا ، ففيه ينقل الرسول صلى الله عليه وسلم تجربة نبي آخر من الانبياء السابقين ، أي إنه من قبيل “شرع من قبلنا”..ولا يشترط أن يكون شرعا لنا..
ثانيا- الحديث الصحيح الذي يجيب فيه الرسول على سؤال جبريل إن شئت أطْبَقْتُ عليهم (=أهل مكة)الأخشبين (جبلان حول مكة) فقال النبي صلى الله عليه وسلم : بل أرجو أن يُخرِجَ الله من أصلابهم مَنْ يعبد الله وحده لا يُشرك به شيئا ” هذا الحديث لا علاقة له بالسياق المستخدم هنا عند اللاعنفيين ، فإطباق الأخشبين على أهل مكة يعني موتهم جميعا، ويعني إن رسالة الرسول ستكون قد انتهت كما الرسالات السابقة التي انتهت بالعذاب على القرى المكذبة، وهو أمر ما كان الرسول ليرتضيه للرسالة الخاتمة ..بكل الأحوال : عدم الدعاء على القوم شيء ، وتمنى أن يموتوا جميعا بلا استثناء شيء آخر تماما…
ثالثا – لقد صح عنه أيضا إنه دعا على قومه ، بل ودعا على أسماء محددة فيهم ، فقد جاء في البخاري ومسلم إنه عندما آذاه المشركون أثناء صلاته بوضع القاذورات عليه ، جاءت السيدة فاطمة معها جُوَيْرِيَةُ(… فَطَرَحَتْهُ عَنْهُ. ثُمَّ أَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ تَشْتِمُهُمْ فَلَمَّا قَضَى النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- صَلاَتَهُ رَفَعَ صَوْتَهُ ثُمَّ دَعَا عَلَيْهِمْ وَكَانَ إِذَا دَعَا دَعَا ثَلاَثًا. وَإِذَا سَأَلَ سَأَلَ ثَلاَثًا ثُمَّ قَالَ « اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ ». ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فَلَمَّا سَمِعُوا صَوْتَهُ ذَهَبَ عَنْهُمُ الضِّحْكُ وَخَافُوا دَعْوَتَهُ ثُمَّ قَالَ « اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِى جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِى مُعَيْطٍ »)…هاهو الرسول يعمم بدعوته على قريش بأسرها ، ويدعو ثلاثا، وهاهو يسمى أسماء بعينها ، وهاهي جويرية “تشتم” شبيحة مكة فلا ينهرها ولا يعطيها درسا في أخلاق الثوار من منظور غاندي أو حسب تعليمات جين شارب …، فعلى من يزاود هؤلاء ؟).
كما دعا على الوليد بن عقبة عندما ضرب زوجته (اللهم عليك بالوليد) ثلاثا ..يقول لزوج ضرب زوجته، فماذا عن عنصر أمني أو شبيح يعتدي بالضرب على الفتيات أو حتى على العزل من الثوار؟
كما دعا عليه الصلاة والسلام في صلاة الفجر من كل يوم لمدة شهر(أي قنت يدعو عليهم !) على “بني ذكوان” و”بني عصية”.. يقول: اللهم عليك ببني عصية عصوا ربهم وعليك ببني ذكوان_(مسند أبو يعلى وبغية الحارث ومجمع الزوائد للحارثي وفي مصنف أبي شيبة وقال حسين أسد : صحيح على شرط مسلم ، ) وفي نص آخر : للهم العن بني لحيان و رعلا و ذكوان و عصية عصوا الله و رسوله و غفارا غفر الله لها و أسلم سالمها الله (المستدرك على الصحيحين للحاكم)
( وحدث ذلك لأنهم قتلوا مجموعة من الأنصار الذين أرسلهم إليهم، فلم يخرج أحد من الصحابة يتفلسف ويقول يا رسول الله أليس هذا من التعميم ؟!)..
كما جاء في صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يدعو على أحد أو يدعو لأحد قنت بعد الركوع فربما قال إذا قال : ” سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد : اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة ابن هشام وعياش بن ربيعة اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها سنين كسني يوسف ” يجهر بذلك وكان يقول في بعض صلاته : ” اللهم العن فلانا وفلانا لأحياء من العرب حتى أنزل الله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ آل عمران(128) .والآية لا تنهى الرسول الكريم عن الدعاء على هؤلاء ، لكن تبلغه ببساطة إن الله سينفذ فيهم أمره بكل الأحوال سواء دعا هو أم لم يفعل…
كما صح عنه إنه قال: أمرني ربي عز وجل أن ألعن قريشا مرتين ، فلعنتهم . و أمرني أن أصلي عليهم ، فصليت عليهم مرتين.. (السلسة الصحيحة 2606)
هذا عدا إنه لعن (أي دعا بالطرد من رحمة الله ) لأصحاب ذنوب : مثل الراشي والمرتشي ، والنامصة والمتنمصة والواشمة والمستوشمة والواصلة والمغيرة لخلق الله…كذلك لعن عاصر الخمر ومعتصرها..الخ، ومن يمثل بالحيوانات، ومن يسم في الوجه (=يكوي وجه الحمار) والمختفي والمختفية (نباشو القبور) بل إنه أوجب اللعن على من يؤذي المسلمين في طرقهم (من آذى المسلمين في طرقهم وجبت عليه لعنتهم)(الصحيحة2294) ،…وكأني بأصحابنا من اللاعنفيين يتأففون من هذه اللهجة ( اللعن) ويعتبرونها غير “تربوية” وستؤدي إلى تنفير العالم بدلا من إقناعهم..كما لو إن الرسول عليه الصلاة والسلام بحاجة إلى التسجيل في واحدة من دوراتهم لكي يتعلم كيف تكون القيادة والتأثير…كما لو إن القيادة والتأثير لا تتطلب الحزم والشدة-أحيانا- والتهديد أحيانا أخرى ..بالإضافة إلى المثال الحسن و حسن الخلق وسواها من أساليب التأثير..
المعيار النبوي الواضح في ” اللعن” يتمثل في “عدم أهلية الملعون للعن” أو في عدم موضوعية اللعن كما في حديث (إذا خرجت اللعنة من في صاحبها نظرت فإن وجدت مسلكا في الذي وجهت إليه وإلا عادت إلى الذي خرجت منه)الصحيحة (1269)(هل هناك من يعتقد مثلا إن الطاغوت لا يستحق اللعن ولذا يخاف على الجموع أن تعود اللعنة عليها؟؟!!).
“ وعن ابن عباس أن رجلا لعن الريح عند النبي صلى الله عليه و سلم فقال : ” لا تلعنوا الريح فإنها مأمورة وإنه من لعن شيئا ليس له بأهل رجعت اللعنة عليه ” .(السلسلة الصحيحة 528 )… كما إن النهي عن “التلاعن” ثبت بحديث صحيح (لا تلاعنوا بلعنة الله ولا بغضبه ولا بالنار)(الصحيحة 893) والمعنى في هذا النهي موجود في لفظ “التلاعن” أي أن يلعن بعضكم بعضا أنتم كجماعة مؤمنة… ولا أظن عاقلا يعتقد إن هذا النهي هنا له علاقة بلعن الطواغيت والمستبدين من الحكام وأزلامهم !
بل إنه عليه الصلاة والسلام حدد في حديث صحيح جواز لعن الائمة(=الحكام)(..وشرار ائمتكم الذين تبغضونهم وبيغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم)(السلسلة الصحيحة 907) علما إن هؤلاء تكون لهم بيعة ! وليس مثل طواغيت الانقلابات العسكرية والحديد والنار..ورغم ذلك قد (..تلعنونهم!)..
رابعا : يعبر الثوار في احتجاجاتهم عن مشاعرهم بطريقة فطرية و بسيطة ، بلا بروتوكولات معقدة أو وصاية من أشخاص يتصورون إن لهم الحق في التصرف كما يتصرف بيجماليون مع المرأة العامية في مسرحية برنارد شو الشهيرة ، المعروفة في العالم العربي باسم “سيدتي الجميلة”.. هؤلاء بوصايتهم هذه يريدون أن يمسخوا ثوار الشارع-الذين لولاهم لما كانت هناك ثورة في الأساس- فيتدخلون في شعاراتهم ومحتوياتها ويفرضون وصاية على ما يقولون وكيف يقولون، ربما فقط لأنهم “مثقفون” و”سمعوا بغاندي” و يريدون المحافظة على أخلاق الشارع دون أن يخدش مسامعهم الرقيقة هتافات لا تناسب ذائقتهم..
أعتقد أن هؤلاء لم يعرفوا بماذا كان حسان بن ثابت ، شاعر النبي عليه الصلاة والسلام، يهجو قريشا ، ففي قصائده ما سيجعل هؤلاء يصابون بالخرس ، ورغم ذلك فلم ينهه الرسول عليه الصلاة والسلام عن ذلك، بل قال له “ اذهب إلى أبي بكر ليحدثك حديث القوم و أيامهم و أحسابهم ، ثم اهجهم و جبريل معك ” (السلسلة الصحيحة 1970) أي اذهب إلى أبي بكر ليكشف لك “تفاصيل” النسب وما يعرف عنهم، ثم “اهجهم” وروح القدس معك!…
فماذا كانوا سيفعل هؤلاء لو شهدوا حسان وهو يهجو قريشا ، هل كانوا سيقولون له “هذه القصائد “شوارعية” ولا تناسب أخلاق الثوار؟…”..لعلهم بحاجة إلى هجاء من نوع هجاء حسان أو أخف قليلا ليدركوا أهمية هذا في تجييش المشاعر والتأليب ضد الخصم..
وعلى ذكر أبي بكر رضي الله عنه ، ما رأيهم فيما قاله مرة ، عشية صلح الحديبية، عندما جاء أحد كفار مكة وقال للرسول الكريم ما قال من إن صحابته سيفرون عنه ويدعونه ، فرد عليه أبو بكر : امْصُصْ ببَظْرِ اللات، أنحنُ نَفِرُّ عنه وَنَدَعُهُ ؟ (البخاري 2581)..أبو بكر ، وليس عمر !..ولا أظن إن لديهم ما يقولونه !..
هل يتعارض هذا مع حديثه عليه الصلاة والسلام “ ليس المؤمن بالطعان ولا باللعان ولابالفاحش ولا بالبذي “؟ قطعا لا ..فالحديث عام عن حال المؤمن في حالته الاعتيادية، أما عندما يواجه أعداءه ، فنموذج حسان بن ثابت موجود، وإن لم يشأ ،تعففا أو لأنه لم يتعود أو شيء، فلا داع لممارسة وصايته على الثوار والتفلسف في منعهم من ذلك..(شعارات الثوار حاليا هي المرادف الطبيعي لشعر حسان ودوره في تأليب وتجييش المشاعر ضد العدو)…
علما أن أحد المشايخ المعروفين ، قد وظف حديث “ يأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمنا مهاجرا فلا تسبوا أباه فإن سب الميت يؤذي الحي ولا يبلغ الميت…الخ).ليلمح إلى كون المحتجين يسبون الطاغية “الميت” والد الطاغية الحي علما أن الحديث( موضوع !! )(سلسلة الأحاديث الضعيفة، 1443)..
لكن قد يقول قائل ، في القياسات المستخدمة حاليا ، إن عدم سب الطاغوت ، هو من باب المصلحة ، أي كي لا يسب أزلام الطاغوت “الله ورسوله” كما في الآية الكريمة :(ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم بما لا يعلمون) الانعام 108 ..والحقيقة هي إن الآية نزلت بخصوص كفار صريحين،كفار يعبدون الأوثان دون مواراة، ولم يكن “فضحهم” بكفرهم سيشكل أي إحراج لهم ،أما أن نقيس “سب طاغية ما” بذلك، ورد فعل مؤيديه بسب الله ورسوله ، فهذا يشكل-عند وقوعه- إحراجا لكل المتعاطفين مع النظام ومدعي الحياد أو المؤيدين المخدوعين به، فهذا القياس يدل على “كفر بواح” لهذا النظام وللطاغية، وهو بذلك يسقط عن نفسه آخر “حصونه” عند رجال الدين (!!) التقليديين الذين يدعون إنهم يساندونه ما دام لم يظهر “الكفر البواح”..فليظهر الكفر البواح إذن بهذ..لم علينا أن نستر كفره؟ ونقدم له ما يمد في خفائه؟…
خامسا: يتم غالبا إبراز جانب التسامح في فتح مكة ، لكي يتم الترويج المسبق للتسامح على نحو لا يشي بغير الضعف ما دام يتحدث عن التسامح قبل النصر-وهو ما لم يحدث في فتح مكة مطلقا !.. والحقيقة إن الدرب إلى فتح مكة كان معبدا بمعارك حقيقية (ليست لا عنفية) ولولا هذه المعارك لما كان الفتح، والقفز فوق هذه الحقيقة يشبه محاولة القفز فوق السنن الالهية والقوانين العلمية !..كما إن فتح مكة ، الذي أعلن فيه عن عفو شبه عام ، لم يستثن وجود قائمة ممن يجب قتلهم ولو تعلقوا بأستار الكعبة (أربعة رجال وامرأتان) ،عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر فلما نزعه جاءه رجل فقال ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال اقتلوه( صحيح أبي داود 2335). كما إن فتح مكة يجب أن لا ينسينا فتح آخر هو فتح خيبر.. ، وقد ساهم فتح خيبر، بطريقة ما، في التعبيد لفتح مكة، فالدم الذي يهرق يساهم في مرحلة لاحقة في حقن دماء أخرى…
سادسا : استخدامهم الآية الكريمة عن “كون النبي ليس فظا ولا غليظا” منزوعة –ليس من سياقها فحسب- بل حتى من تمام الآية ..فهم يستخدمون “ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك” بينما الآية بتمامها “ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ آل عمران (159)..فالآية تحدد وبوضوح إن هذا اللين جاء “رحمة” من الله لنبيه الكريم،”فبما رحمة من الله لنت لهم” ..وليس قاعدة عامة ينبغي توفرها في كل موقف لكل قائد أو مربي ، علما أن البعض قد فهم البعض على نحو معاكس تماما ..حتى صار اللين هو الأساس ، بل هو المعيار الأساسي..والنتيجة لا تسر بطبيعة الحال.
******************
ما هو النموذج الأمثل إذن في “الأخلاق الثورية” الحقيقية..الأخلاق التي نؤمن بأنها الأمثل والأكمل والأجدى..؟
إنه أخلاقه عليه الصلاة والسلام ، والذي سئلت عنه عائشة فقالت باختصار وجيز : كان خلقه القرآن..
هذا هو بالضبط خلق القرآن ، ولا شيء فيما مضى من المقال يتناقض مع ذلك حتى لو توهم البعض ذلك..
فالقرآن الكريم قدم كل أنواع الخطاب: الإقناع مع الحجة العقلية حينا، والترقيق والترغيب حينا ـ ولكنه شدد مع من يستحق التشديد: شبههم بالأنعام بل أضل سبيلا,,وقال عن البعض “كالحمار يحمل أسفارا”..وقال عتل زنيم عن بعضهم..والزنيم هو الدعي ، اللصيق بالقوم..أي ابن الزنا..
هذا هو القرآن، وهذا خلق الرسول، صاحب الخلق العظيم حقا ، العظيم بمقاييس الخالق العظيم، لا بمقاييس غاندي أو سواه…
هذا هو الثائر حقا..وهذه هي الأخلاق الثورية حقا..هذا هو الرجل الذي غير العالم في ثلاث عقود فقط..
أي أخلاق تدعي الثورية ، وتقول شيئا معاكسا لما أقره عليه الصلاة والسلام، عليها أن تجد “مرجعا” نجح في تغيير العالم في أقل من ثلاث عقود..
ودون ذلك خرط القتاد..
يعني : بالمشمش !