د.أحمد خيري العمري
فبراير 2012
بعض الجروح ، الزمن يتكفل بها..
وبعضها لا..
يبقى ينزف..ينز قيحا وصديدا..
بعض الجروح ، تكون بطبيعتها غير قابلة للالتئام ..
يمكنك أن تخدر نفسك عنها.لكن الخدر ليس علاجا قط. يمكنك أن تتجاهلها.لكن الإنكار لن يحلها قط..
يمكنك أن تكتب عنها في الفيس بوك..وذلك أضعف الإيمان !
******************
في مثل هذا اليوم ، 24/2 ، قبل ست سنوات بالضبط ، اتخذت قرارا أحاول كثيرا أن أسامح نفسي على اتخاذه..قررت أن أغادر العراق…
..بقيت أقنع نفسي بقراري لبضعة أشهر ، ستة بالضبط ..قبل أن أغادر..
واليوم ، ولأن جرح المغادرة بلغ عمره ست سنوات ، وصار على وشك تعلم الأبجدية..فأني أكشفه على الملأ ..ربما كوسيلة للتطهر ، أو محاولة لست واثقا من نجاحها في التصالح مع الذكرى..أو ربما لأن من غادرت من أجلهم سيأتي يوم ويلومونني على مغادرتي..وأريد أن أسجل موقفا قبل أن يأتي ذلك اليوم..الذي أخشاه لو حصل ، وأخشى أكثر من أن لا يحصل !…
في مثل هذا اليوم ، وكان يوم جمعة أيضا ، قبل ست سنوات..تحديدا بين العصر والمغرب..قررت أنني سأغادر العراق..
سأكتشف لاحقا ، وبالتقسيط غير المريح ، أنه ليس أصعب من قرار الرحيل..
إلا قرار العودة..
من حملتهم ذات يوم دون أن يعوا تماما مالذي يدور، وكنت تقول لنفسك أنك إنما تريد حمايتهم ، صاروا “شركاء” في القرار..
..وهذا كله يجعل قرار العودة أصعب..
رغم كل ما كابدته يوم قررت الرحيل..
***********************************
قبل ذلك بيومين..في 22/2/2006 ..في الساعة الثامنة صباحا تقريبا ، حدثت عملية تفجير المرقدين في سامراء …الاتهامات الجاهزة دوما صوبت كالعادة إلى القاعدة، والتي عادة كانت تحاول “التفجير” أثناء الاكتظاظ لقتل أكبر عدد ممكن..لكن هذا التفجير كان” نظيفا ” تماما ..لم يقتل فيه شخص واحد، حراس المرقد تم تقييدهم فقط ، والشرطة كانت قد انسحبت قبلها في توقيت مشبوه..
تم تفجير المكان عبر زرع دقيق لمتفجرات في أركان المكان، بدلا من العمليات الانتحارية المعتادة..
حوالي الساعة العاشرة أذيع الخبر..
عند الساعة الواحدة تقريبا ، بدأت عمليات الانتقام ،..اقتيد أناس كانوا قد توجهوا لصلاة الظهر ، اعتقلوا وقيدوا ووجدت جثثهم لاحقا وقد كتب عليها “يا لثارات..” في إشارة لجريمة قتل أخرى من الصعب جدا أن يكون هؤلاء قد تورطوا فيها لأنها حدثت قبل حوالي 1400 سنة..
هوجمت محال تجارية معروفة ومعامل لأشخاص يحتمل أنهم تورطوا بنفس الجريمة-!- ، ونهبت وأحرقت ،..وأخذ أصحابها وموظفوهم ..بعضهم عثر عليه خلال الأيام التالية جثة مجهولة ومقيدة اليدين..
وبعضهم لم يعثر عليه حتى اليوم..
هوجمت مساجد وأحرقت بعد أن نهبت محتوياتها وأعتقل من فيها ليلاقوا نفس المصير…
في الساعة الثالثة مساء، لم أكن قد استوعبت تماما حجم ما يحدث، لم يكن المعتقلين قد ظهروا كجثث مجهولة بعد..قررت أن أذهب للعيادة لأن لدي مواعيد (كم أنظر إلى ذلك الساذج الذي كنته باستغراب اليوم ..) وأخذت معي ابني زين العابدين لأقلع له ضرسا لبنيا كان يقاوم السقوط الطبيعي..
في الطريق بدأت أدركت أن الأمر أكبر مما بدا لي..وبدا أن أجهزة الأمن والشرطة الحكومية منهمكة بشيء ما ، لم أعتقد قط أنه حمايتنا..فكرت في العودة، لكن ذلك كان صعبا جدا ، إذ كنت قد اجتزت حواجز لا أريد العودة لها من نفس الطريق..
كنت لا أزال في الطريق إلى عيادتي في المنصور عندما سمعت جملة في المذياع لا يمكن أن أنساها قط..
كانت واحدة من الإذاعات الخاصة ، دجلة أو سومر ، قد فتحت الاتصالات المباشرة للمواطنين للتعبير عن استنكارهم وتأكيدهم للوحدة الوطنية ، كما هو معتاد.
اتصل أحد المواطنين وقال أنه يبلغ مستشار الأمن القومي موفق الربيعي بعدم ضرورة فتح تحقيق في الموضوع لأنه يعرف أسماء المجرمين ويمكن أن يبلغه بها فورا.
سأله المذيع فورا، وربما تصور أن برنامجه سيحقق سبقا صحفيا على الهواء مباشرة..
قال الرجل: أبو بكر وعمر هم من نفذ الجريمة !..
حاول المذيع أن يلم الموضوع بأي كلام.
كانت تلك هي المرة الأولى التي أسمع فيها كلاما صريحا ، علنيا ، مثل هذا عبر وسائل الإعلام..
أدركت إننا قد مررنا بمنعطف لن يعود شيء فيه كما كان..
كنت فقط أريد أن أصل العيادة لأقلع ضرس ابني..
******************
في المنصور كانت الشوارع خاوية تقريبا، والمحلات تغلق أبوابها، قلعت الضرس سريعا ، وعدت أدراجي إلى البيت..
في اليومين التاليين، حصلت مجازر كانت تحدث فعلا طيلة الأشهر الماضية بنسب أقل، لكن كميتها تضاعفت وتركزت وصارت أوضح في هويتها..
هوجم أشخاص يعرف الجميع عدم تورطهم بأي شيء..أعرف شخصا مسنا اقتادته الغربان السود من منزله،…. وقطعته بالساطور..
قتل المئات ممن كانوا قد غيروا مذهبهم قبل عشر سنوات وأكثر..قتلوا فجأة كما لو أن أسماءهم كانت جاهزة ومعدة للقتل منذ سنوات..وهاهي الفرصة تأتي..
ثلاث أيام ، من الأربعاء إلى الجمعة ..استمرت المجزرة في أعلى وتيرة لها وسط صمت دولي..حتى دون التنديد الذي يحصل تجاه مجازر تحدث اليوم..(كانت إحدى داعيات اللا عنف في سوريا، تشيد في هذه الأثناء في دروسها بما تفعله ميليشيات الغربان السود التابعة لرجل دين معين، فقط لأنها صدقت ما يدعيه “علنا” من حرص على احتواء العنف ، ولأنه ينتمي ضمنا للثورة الإيرانية-السلمية-!- التي طالما تغزلت فيها تلك الداعية..).
لم يكن مستغربا أن لا تعلن الحكومة منع تجول أو أي شيء من هذا القبيل..بل حتى لو أعلنت ، سياراتها ستكون في حصانة من أي مساءلة..وستستمر في ارتكاب المجازر كالمعتاد..
الجمعة ، عند الظهر..
أعلن منع التجول..وتأملنا أن يخف القتل الممنهج قليلا..
ثم جاء اتصال من فاعل خير، أبلغ والدتي بضرورة أن أهرب من البيت..”لأنهم سيعتقلون جميع الشباب..”..
أن تهرب في منع التجول !..وأنت تعودت أن تحترم القانون..كما لو أنك تمنحهم ذريعة لاعتقالك..
بدا لي الأمر مستبعدا..
فكرت والدتي أن أختبئ عند جيراننا المسيحيين (لم يكن دورهم قد بدأ في التصفية)..كنت واثقا من عدم ممانعتهم..لكني لم أشأ توريطهم في شيء..
قررت ببساطة أن لا أفعل شيء.كنت سأعتقل فقط لأني انتمي إلى هذه الطائفة أو لأن لقبي يحمل اسم أحد المتهمين الرئيسيين (أبو بكر وعمر) في التفجير !..دون أن أفعل شيئا محددا..
ذهبت إلى الشرفة المطلة على الشارع مراقبا ما يدور…
كنت باختصار انتظر مجيئهم.
كنت اعرف مالذي يعنيه الاعتقال في هذه الظروف.ولم يكن هناك خيار..(كنت سعيدا وقتها لأني أنجزت الفردوس وكان على وشك الصدور، ولم يكن لدي كتاب غير مكتمل! )..
أثناء الانتظار ، جاء زين ، وأخذ هاتفي الجوال ، وعبث بأزراره قليلا..تصورت أنه يريد لعبة من ألعاب الجوال..ثم مضى..
مضى الوقت.لم تأت الغربان لبيتنا.واتضح أن الاتصال كان يقصد تحذير شخص معين من شباب المنطقة، لكن فضل”فاعل الخير” تحذير الجميع لأسباب تخص مصدر المعلومة..هرب الشاب المقصود فعلا ونجا من الاعتقال يومها..
لكن ما حدث يومها ، بين العصر والمغرب، وأنا أنتظر مجيئهم على الشرفة، هو ما جعلني أقرر ذلك القرار الصعب..
عندما جاء زين واخذ جوالي ، لم يكن يلعب ..
بل كان يخطط لما سيفعله ، فيما لو قتلت أنا وأمه..وبقي هو وشقيقتيه …
**************
كان زين قد أتم التاسعة قبل أسبوع واحد فقط. وكان يعي تماما ما يدور.كان يعرف يقينا أن الاعتقال يعني الموت المحقق.سبق لي أن اعتقلت في فترة سابقة.لكننا كنا نعيش في مرحلة أخرى.كان زين يعي أن لقبه أو اسم والدته كفيلان بجعله يتيما.وأن اسمه الشخصي قد يؤدي إلى قتله من الجهة الأخرى في العبث الطائفي المتبادل (وأشدد هنا على أن الضحايا في الحالتين كانوا متشابهين، أما المجرمين فلا…)..
قال زين العابدين لأمه، فيما نقلته لي لاحقا : أنه يفضل أن نموت جميعا على أن يموت واحد منا فقط..
ثم خطر له ذلك الخاطر الفظيع ، انه قد يبقى حيا ،ويقتل الجميع..!..
أو نقتل نحن ويبقى هو مسئولا عن شقيقتيه ( آمنة 7 سنوات ، أروى سنتان آنذاك )..
سأل أمه : ماذا أفعل ؟؟؟
قالت له : تتصل بجدتك (والدتها..)
قال لها فورا : هل لديك رصيد يكفي ؟ أم أن رصيد بابا أكثر؟(يقصد رصيد المكالمات الهاتفية)
عندما جاء ليعبث جوالي كان يريد معرفة رصيدي.كان يعد الترتيبات اللازمة لما بعد مقتلي وأمه…أبلغ والدته أن الرصيد يكفي ولكنه سيقوم أولا بعمل مكالمات فائتة من باب الاحتياط..
وكان في التاسعة فقط..
*******************
يومها أخذت ذلك القرار الذي لم أتمكن قط من التصالح مع نفسي تماما بسببه. قدرت أن الأذى الناتج عن المرور بهذه التجارب سيكون دائميا.وكنت أنانيا ككل الآباء.لم أكن أريد لرأس أبني أن يتعرض لذلك..
كنت أنانيا لنفسي أيضا ، فكرت أني ربما أستحق فرصة أكثر للعيش..المزيد من الوقت للإنجاز..
(كان برايان صديقي الأمريكي يقول لي : عندما يأتون لقتلك ، اخبرهم إنك لم تنجز بعد كتابة خطتك لإصلاح العالم ، وأن عليهم أن يأتوا لاحقا..
فكرة جيدة.لكن غالبا لم يكن هناك وقت للحديث..ربما للتشهد فقط، إن كنت محظوظا..)..
لا أريد أن أبرر.هذا ما حدث بقبحه وسموه ..لم يكن هناك قضية.كنا قد صمدنا أمام الاحتلال لثلاث سنوات وتعاملنا بما يجب وكنا ندرك تماما أننا قد ندفع عواقب ذلك دون ندم..
لكن هذا محض عبث طائفي.أن تقتل لأن أسمك عمر أو اسم زوجتك عائشة أو يكون اسمك حسين..ذلك كان خارج أي منطق..وكنت شخصيا عاجزا عن التعامل بمنطق مماثل مضاد..
**************
يبلغ الجرح اليوم عامه السادس…
لم يندمل قط.لكني أخفيته تحت قناع التجلد والمكابرة الاجتماعية…يكفي أقل من القليل لكي يظهر بقيحه وصديده..وعلى نحو غير مناسب اجتماعيا بالمرة.
أعرف أن هذا النوع من الجروح لا تملك فرصة الالتئام.ربما على التليف فقط.يتليف الجرح ولكن لا يلتئم.وتتعود عليه أكثر..
***************
أمس على الجزيرة..كانت هناك أكوام من الجثث المجهولة مقيدة اليدين ، هذه المرة في سوريا ، الفاعل في الحالتين يمتلك صلة لم يحاول يوما إخفاءها..
نبشت الصور جروحي غير المندملة.دوافع الجريمة سياسية لكنهم يظهرونها بمظهر طائفي بالضبط كما حدث في العراق..
رغم كل ذلك.يمتلك السوريون فرصة أفضل.يمتلكون القضية التي كانت منطلقهم أساسا..لا أتمنى لأحد-بغض النظر عن طائفته- أن يمر بخياري الصعب ..لكنني أرى أن للسوريين فرصا أفضل…يمكنهم أن لا يقوموا بدور الضحية.يمكنهم أن لا ينتظروا دورهم في القتل على الشرفة كما فعلت ذات يوم…وأنهم بهذا قد يتمكنون من الإجهاز على من تسبب بذلك في العراق وسوريا..أو إضعافه على الأقل..
***********
تلك الجثة مجهولة الهوية مقيدة اليدين، على الجزيرة أمس..هربت ذات يوم كي لا أكونها..
..اكتشفت لاحقا ، فخ الهروب..أنك تهرب من مصير الجثة المجهولة ، لكنك تغزل ببطء مصيرا آخرا يختلف فقط في التفاصيل..
ستموت غريبا في بلاد غريبة..سيصلي عليك ويدفنك غرباء لم يشاركوك طفولتك وسراءك وضراءك..لم يكبروا معك..لم يعرفوك حقا في سموك وسقوطك..لم يعرفوا أصلك وفصلك.لم يكونوا جيران عمرك.. لم تشاركهم جنائزهم وأفراحهم..لا تستطيع أن تعدد أسماء إخوانهم وأولاد عمومتهم وأصهارهم..سيكونون على الأغلب غرباء مثلك..
غرباء في بلاد غريبة..
لا شيء يمكنه أن يغير ذلك…وهذا يجعلك ، مقيد اليدين بطريقة أو بأخرى..
بالضبط مثل المصير الذي هربت يوما ما منه..