د.أحمد خيري العمري
يوليو 2010
أريد أن أكون أكثر فجاجة من المعتاد هذه المرة ، لست منزعجا على نحو شخصي، ولا أكتب نتيجة لرد فعل، ولكن في بعض الأحيان علينا أن نسمي الأشياء بمسمياتها، ونترك الاحتمالات المفتوحة التي من ضمنها “الاجتهاد الخاطئ الذي يؤجر صاحبه عليه”.. بعض الآراء تحتمل ذلك فعلا( قليلة بالمناسبة!) ولكن البعض الآخر لا يحتمل ذلك بالمرة، ومعاملته بحسن نية يتجاوز السذاجة أحيانا إلى التواطؤ والمشاركة المباشرة في الجريمة..
سبب حديثي عمن يسمون أنفسهم بالقرآنيين(والقرآن منهم براء طبعاً) هو رسالة استلمتها من سيدة فاضلة ومثقفة تشكو لي تأثر أكبر أبنائها بهذا التيار.. عمليا ما كنت لأهتم كثيرا بذلك لأن انحراف البعض مع تيارات التخريب والانحراف أمر حتمي، لا يمكن عمليا منع ذلك، بعض البشر يختارون ببساطة وبملء إرادتهم أن يكونوا حطبا لجهنم.. ولا شيء سيمنع ذلك مهما كان، حدث ذلك عبر التاريخ وحتى مع الرسل الأنبياء ومعجزاتهم وأخلاقهم وسيرهم الكريمة، ولذا فلا يمكن عمليا أن نركض خلف كل من يتأثر بدعاوى الانحراف ونجره جرا إلى جادة الصواب.. يكفي فقط أن نبين مدى انحراف الدعوى..
وكنت أعتقد، حتى وصول رسالة السيدة الفاضلة أن انحراف هذا التيار شديد الوضوح ولا يحتاج إلى بيان بسبب التناقضات الهائلة المترسخة فيه أولا، وبسبب افتقاده إلى أية منظومة قابلة للصمود أمام أي نقاش ودحض ثانيا.. وبذلك كنت أعتقد أن كل من يتبع هذا التيار يجب أن يكون واحدا من اثنين: أن يكون أولاً من أصحاب الأهواء الذين يريدون أي مسوغ ومبرر لجعل أهوائهم محمية عبر من يسميه أتباعه عالما (لدينا مثل شعبي في العراق يعبر عن حالة سلوكية عامة في عموم بلاد المسلمين للأسف، يقول المثل:خلها براس عالم، واطلع منها سالم، أي ضع خطيئتك في رقبة من أفتى لك، واخرج سالما من الإثم يوم القيامة..) وهؤلاء عموما غير جادين بكل المعايير وهمهم الوحيد الجدل من أجل الجدل فحسب بغض النظر عن أي وصول لحق والالتزام به، إنهم النموذج الموجود في كل زمان ومكان الذين ينطبق عليهم قوله تعالى: “قَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا الفرقان(8)”
أي إنهم سيستمرون بالجدل والرفض بكل الأحوال، وإتباعهم هذا التيار المنحرف ليس سوى شكل من أشكال هذا الجدل.
الاحتمال الثاني أكثر تعقيدا، ويضم أناسا من أصحاب الاحتياجات الخاصة، ولا أقصد هنا بالاحتياجات الخاصة نواحي فيزيائية في المشي أو السمع والنطق أو التخلف العقلي بمعناه المباشر، بل أقصد أنهم أصحاب احتياجات خاصة بالمعنى النفسي، معظمهم متعلمون والبعض منهم موهوبون بطريقة ما، وهم يؤمنون بأنهم أفضل من سواهم بشكل عام.. لكنهم في الغالب فاشلون اجتماعيا عاجزون عمليا عن تحقيق أي شيء مما يمنحهم مكانة اجتماعية، وفشلهم هذا جزء من فشل الحكومات العربية والإسلامية عامة في استيعاب الجيش الهائل من الخريجين الذين أنتجتهم سياسات التعليم الجماعي، اصطدامهم بصعوبات الحياة وعدم تمكنهم من إثبات جدارتهم ولّد عندهم إحباطا شديدا تجاه المجتمع ككل..
النتيجة المعتادة لهذا الإحباط وفي الحالات الاعتيادية تكون إما إفراطا (تيارات العنف والتكفير الجماعي المنفلتة من أي ضابط والموظفة بإتقان لخدمة مصالح سياسية) أو تفريطا( الانحراف والمخدرات والجريمة).. لكن هؤلاء ليسوا من الحالات الاعتيادية، إنهم أصحاب احتياجات خاصة وهم يعتبرون أنهم أفضل من سائر المجتمع عقلا وتميزا وإدراكا.. لذلك فحقدهم على المجتمع وشعورهم بالإحباط يتخذ شكلا مختلفا تماما، وهم يتجهون بالذات نحو الأسس العميقة للمجتمع، والرموز التي لا يُختلَف على مكانتها التاريخية لكي يصبوا عليها جام غضبهم وإحباطهم..
هؤلاء هم ضحايا من نوع خاص للمجتمعات المعاصرة، ولعلهم كانوا موجودين دوما دون أن ينتبه لهم أو يسمع بهم أحد.. لكن “الانترنت” اليوم منحهم صوتا ومنابر افتراضية جمعتهم ونظمت من شتاتهم ، وشيئا فشيئا صار هناك من يقرأ لهذيانهم، لا شك أن خطرهم أقل من دعاة العنف ومنفذيه مثلا، لكن دعونا لا ننسى أن ذاك العنف يمتلك من القبح ما ينفر الناس منه، أما هؤلاء فقبحهم أخفى وبالتالي قد يكون أشد ضررا على المدى البعيد..
كنت أعتقد حتى وصول تلك الرسالة، أن لا أحد يتبع هؤلاء إلا إذا كان من الصنفين السابقين، لكن هذه الرسالة، ولأني أعرف السيدة وأعرف تقييمها لابنها، صححت لي أوهامي عن الأمر، يبدو أن الصنفين المذكورين (أصحاب الأهواء+ أصحاب الاحتياجات الخاصة) يمثلان المنبع الأساسي الذي ينتج “الكتاب” في هذا التيار، أي أولئك الذين لديهم وقت كافٍ من الفراغ، ولوحة تحكم مربوطة بشاشة حاسوب واتصال بالانترنت.. هؤلاء هم من يسودون الصفحات في الانترنت (يسودونها بكافة المعاني) ويعلقون على نتاج بعضهم البعض وعلى تعليقات بعضهم البعض، وبالتالي يشغلون مساحة من الانترنت تتيح لغيرهم أن يتبعوهم..
هذا (الغير) –الذي لا ينتمي عمليا لأي من الصنفين، هو ما يدفعني للكتابة، وهو الذي يجب توفير الحماية له.. على الأقل يجب توفير وسائل المناعة التي تجعل انحرافه أكثر صعوبة وبالتالي يكون هذا الانحراف عندما يحدث على بينة أكثر..
بماذا يؤمن هؤلاء الذين يسمون أنفسهم بالقرآنيين(والقرآن منهم براء).. هم يقولون طبعا إنهم يؤمنون بالقرآن الكريم فقط، ويقصدون بذلك أنهم لا يعترفون بالسنة النبوية بالمطلق، ولا بأي شيء منها وهم يشددون على ذلك على نحو غريب( من شروط المشاركة بموقعهم على الانترنت ما يلي: موقع ( أهل القرآن!) يفتح أبوابه لكل فكر حر بشرط ألاّ يسند الكاتب حديثا لخاتم النبيين محمد عليه السلام عبر ما يعرف بالسنة، أو أن ينسب قولا لله تعالى خارج القرآن عبر الأكذوبة المسماة بالحديث القدسي) هكذا إذن، الشرط الأول هو أن لا يستعمل الحديث النبوي بغض النظر عن صحته أو ضعفه أو تواتره أو أي شيء.. (ممنوع استعمال الحديث النبوي وانتهى).. أي إن الأمر هنا لا علاقة له بكون الحديث النبوي له حجة تشريعية أو لا، بل هم ينسفون أي سند للرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، كما لو أنه جاء إلى هذه الدنيا ورحل دون أن يتحدث ولو كلمة واحدة..
مهما قالوا عن أسباب تحييدهم للحديث النبوي، وهي أسباب سنأتي لشرحها لاحقا، فإن كونهم لا يعتمدون إلا على القرآن كذبة سخيفة، بل إن تحييدهم للسنة النبوية ليس سوى وسيلة لإدخال مفاهيم أخرى من منظومات ثقافية مختلفة، وبالتالي فإن إدعاءهم (القرآن وكفى مصدرا للتشريع) ليس سوى وسيلة لتمرير مفاهيم أخرى(على سبيل المثال،الديمقراطية عند كبيرهم تعد قدس الأقداس، بفعل الموضة -أو بقوة مصادر التمويل-، فهل وجدها في القرآن أم من التجربة الغربية.. ) ولست هنا بصدد مناقشة تناقض الديمقراطية أو توافقها مع الإسلام، لكني فقط أناقش شعارهم (القرآن و كفى مصدرا للتشريع).. فهم يؤكدون ذلك تبريرا لاستغنائهم عن الحديث النبوي، لكنهم عمليا يقرؤون القرآن عبر منظومات ثقافية أخرى، أي إنهم يستندون إلى (الكتب الأخرى) في قراءة القرآن، وهذا يجعل هذه الكتب مصدرا مشاركا للتشريع..
لغة القرآنيين واضحة عند أغلب (كتابهم).. وهم يستثمرون في قارئ لا يدقق كثيرا لهذا السبب أو ذاك (الكسل، عدم القدرة على التدقيق بسبب القراءة التلقينية التي تعودنا عليها..الخ).. إنهم يُغرقون القارئ بسيل من الانتقاءات القرآنية وتتخللها بعض التعليقات والتحذيرات من ترك القرآن والسير خلف كتب الحديث! فمثلا هذه الآيات:
(أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ)العنكبوت 51
(فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ )الطور 34
(اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) الزمر(23) (و يعلق الكاتب، كيف نترك أحسن الحديث إلى سواه!)
(فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ المرسلات) (50) والأعراف 185
هذه الآيات التي يعرفها كل مسلم يقدمها القرآنيون في صياغة مختلفة، فبدلا من السياق الذي نزلت فيه، ومن خلاله، أي سياق حوار الإيمان والكفر، الحق مع الباطل، وهو السياق الذي لا يزال مستمرا في أوجه ومظاهر عديدة، والذي نملك من القرائن والأدلة أنه سيستمر، نجد القرآنيين يقدمونها في سياق مواجهة مزعومة بين القرآن والحديث النبوي !.. وهكذا يتم حشر تعليقات موحية بذلك بين الآيات المذكورة وسواها..
فلنقرأ هذا المثال المنقول حرفيا من أهم كتبهم..
(.. والنبي أيضاً ليس لديه إلا القرآن ملتحداً وملجأ ﴿واتل ما أوحى إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا﴾ هذا بالنسبة للنبي عليه السلام.. فكيف بنا نحن؟…) ( انتهى!)
.. وذلك الذي يعرض عن آيات الله شأنه أنه يتمسك بأحاديث أخرى غير القرآن سماها القرآن ﴿لهو الحديث﴾ يقول تعالى: ﴿ومن الناس من يشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين. وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبراً كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم﴾ (لقمان 6: 7).
أي إن الكاتب يعتبر أن الحديث النبوي هو “لهو الحديث” الذي يحذر الله منه وليس حديثا كحديثه مثلا !.. ويقحم خلال ذلك كله لهجة تحذر القارئ وتتوعده سوء المصير إذا أصر على تفضيل الحديث النبوي (و كتبه!)..على القرآن الكريم وتحثه على الكف عن ذلك قبل أن يأتي الأجل المحتوم ولا ينفع الندم!
من السهل على القارئ الذي نشأ في رحم ثقافة التلقين، وتعود أن يخاف من نفس التحذيرات (في سياق آخر أكثر عراقة وموضوعية ) أن يسقط في الفخ الذي ينصبه هؤلاء بهذا الأسلوب، خاصة إذا كان لديه مآخذ وردود أفعال تجاه السلوكيات السلبية لبعض المتدينين وبعض مشايخهم (الذين يهاجمهم من يسمون أنفسهم بالقرآنيين بين سطر وآخر)..
العلة الأساسية في الموضوع هنا هو أن من يسمون أنفسهم “القرآنيون” يعاملون القرآن كما لو كان “مجرد كتاب“.. مجرد كتاب يتألف من صفحات ورقية وغلاف يضمها.. اختزال القرآن إلى هذا المعنى هو الذي يسهل كل ما سبق من ما يعقدونه من مقارنات، وما يزعمونه من تناقضات.. القرآن، قبل أن يكون كتابا بهذا المعنى، هو منظومة ثقافية كاملة، دستور،عقد بين البشرية وخالقها، وجوده على الورق وبين الغلافين ( أو كنسخة الكترونية على الجوال أو الكمبيوتر) هو مجرد إجراء تنفيذي لا أكثر.. وبالتالي فإن تشابهه مع ما نقرأه ونتداوله من مطبوعات هو تشابه لفظي فحسب، بعبارة أخرى، عندما نضع القرآن في مواجهة، ونحن نؤمن سلفا أنه سيتفوق حتما، فإن الطرف الآخر في المواجهة لا يمكن أن يكون مجرد كتاب (رواية مثلا، أو كتاب شعر، أو كتاب في علم التربية أو حتى أحد كتب الحديـــث الشريف)..
المواجهة أصلا غير موجودة في حالة كهذه، ولذا فإن افتراض من يسمون أنفسهم بالقرآنيين باطل أصلا، لأنهم يضعون كتب الحديث في المواجهة، يفترضون أن المواجهة ممكنة ومن ثم يبنون على هذا الافتراض كل ما ينتج عن ذلك…
الكتب التي يمكن أن تكون في المواجهة هي الكتب التي تعبر عن منظومة ثقافية مغايرة، الكتب السماوية مثلا، أو مدونات وأدبيات الديانات الوثنية (ريج فيدا للهندوس ،تيبتاكا للبوذية…الخ)،. كتب كهذه يمكن أن تكون في المواجهة لأنها تعبر عن رؤية للحياة،.. منظومات ثقافية أخرى قد لا يعبر عنها كتاب واحد بل مجموعة كتب (المنظومة القيمية الغربية على سبيل المثال لا يعبر عنها كتاب واحد، بل هناك مجموعة من الكتب التي تكوّن هذه المنظومة: العقد الاجتماعي لجان جان روسو، مقال عن المنهج لديكارت، رسائل لوثر الخمس والتسعون، ثروة الأمم لأدم سميث، الماغنا كارتا.. عصر المنطق لتوماس بين.. مؤلفات فرويد وايمرسون وتوكوفيل..الخ)..هذه كلها يمكن أن تضم بمجموعها لتكون الكتاب المضاد على الطرف الآخر.. باعتبار أنها تمثل رؤية حياة.. أما أن يتم اعتبار كل كتاب مطبوع أو منتج ثقافي مهما كان تصنيفه على أنه في المواجهة المقصودة في سياق الآيات فهذا سخف في أحسن الأحوال، وتزوير في أغلبها..
هذه الطريقة في النظر إلى القرآن باعتبار أنه مجرد كتاب، التي يمررها من يسمون أنفسهم قرآنيين، هي التي تؤدي إلى النظر إلى كتب الحديث النبوي والسنة النبوية كما لو أنها (كتب أخرى).. أي كما لو كانت مستقلة عن المنظومة التي يمثلها القرآن.. وهو ما يؤدي إلى ما يزعمونه من مواجهة وتناقض…الحديث النبوي يجب أن ينظر إليه على أنه بمثابة الحواشي والهوامش على الكتاب الأصلي.. على القرآن، وبالتالي فإنه جزء لا يتجزأ من المنظومة الثقافية التي أنتجها القرآن، لا يمكن التعامل معه على أنه مستقل عن المتن الأصلي.. ولا معنى لقراءة الهامش والحاشية فحسب-بل لا معنى لقراءة الهامش بمعزل عن النص،هذا النوع من العلاقة بين القرآن الكريم والحديث النبوي تجعل من المستحيل وضع الاثنين في مواجهة كما يزعم هؤلاء.. لن نقول إن العلاقة بينهما هي علاقة تكامل لأن التكامل يكون بين ندين يحتاج أحدهما الآخر، والأمر هنا مختلف، فالحديث النبوي وسنته عليه أفضل الصلاة والسلام تابعة للقرآن الكريم ولا يمكن أن يكون لها وجود مستقل عنه.. علاقة الحاشية والهامش بالمتن هنا هي بمثابة متابعة للتطبيق العملي للقرآن الكريم على أرض الواقع البشري.. لا يمكن أن نفهم آليات التطبيق ما لم تكن لدينا هذه الحواشي التي تقدم لنا الصورة الواقعية لهذا التطبيق وما استلزمته أحيانا من قوانين لم تذكر في القرآن لكنها كانت ضرورية لتنفيذ تشريعاته…
سيقول من يسمون أنفسهم قرآنيين إن هذا يعني إن القرآن يحتاج إلى بيان وتفصيل وهو ما يناقض ما جاء في القرآن نفسه من أن فيه تبيان وتفصيل لكل شيء (نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لكل شيء) النحل 89 (وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ الأعراف(52)…لكنهم في الوقت ذاته يتجاهلون أمرين اثنين..
الأمر الأول: أن هذا الكتاب الذي نزل بالبيان والتفصيل لكل شيء لم ينزل في قرطاس من السماء أو لوح حجري، بل نزل عليه أفضل الصلاة والسلام، وهذا يجعل من سيرته ومن حديثه ومن كل ما فعله مرتبطا بما أنزل عليه بشكل مباشر..(قالت السيدة عائشة في الحديث الذي لا يعترف به هؤلاء عنه عليه الصلاة و السلام:كان خلقه القرآن..أي أنه كان يمثل تجسيدا عمليا لما أنزل على صدره عليه الصلاة و السلام،فكيف يمكن لنا أن نترك شيئا كهذا و هو امتداد طبيعي للقرآن؟)
الأمر الثاني: إن الكتاب ذاته، الذي يدعون الاحتجاج به، يحيلنا إليه عليه الصلاة والسلام في أكثر من موضع “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا النساء(59)“، فهل يكون في هذه الإحالة إليه ما يتناقض مع معنى اكتمال البيان والتفصيل أم إن هذه الإحالة تعزز هذا البيان وتمنحنا فرصا أخرى في الفهم المفصل من خلال الحديث النبوي وسنته عليه الصلاة والسلام؟
لدى من يسمون أنفسهم بالقرآنيين حيلة (غير شرعية !) للخروج من هذا المأزق.. وهو ما سنتابعه لاحقا معهم..