د.أحمد خيري العمري-مجلة فور شباب
ديسمبر 2010
يجد الكاتب نفسه أحياناً منزلقاً ليتلصَّص على قرّائه، فضولٌ فطريٌّ يدفعه لمعرفة لمن يكتب حقاً، كم فهموا وكم تفاعلوا مع ما كتب والأهم من ذلك كله بنظري.. كم تأثَّروا وكم تغيّروا بعدما قرؤوا..
وجدت نفسي بناءً على ما سبق، أتلصّص على صفحة المعجبين الخاصة ببرنامجي”القرآن لفجر آخر“[i] على الفيس بوك، مجرد متابعة لأسماء وصور الأشخاص الذين سجّلوا إعجابهم بالصفحة، والذين تصلهم تحديثاتها على صفحاتهم الخاصة، معظم المشاركين كانوا أشخاصاً عاديين من أولئك الذين تتوقع منهم المشاركة وتكون مسروراً بهم لأنهم “الجمهور الذي استهدفته أصلاً”.. أي الجمهور الذي كان في بالي عندما كتبت العمل.. فجأة بين الأسماء والصور وجدت صورة لفتاة من الصعب جداً تصنيفها ضمن الفئة المستهدفة..، يمكنني أن أتصوّر وجودها في الكثير من الصفحات على الفيس بوك، ولكن “القرآن لفجر آخر..“؟ بدا لي الأمر مربكاً جداً.
باختصار: كانت الفتاة ترتدي ما يكشف أكثر مما يستر في الصورة الخاصة بها، وتصورت للوهلة الأولى أنها فتاة أجنبية دخلت الصفحة بالخطأ (لا أعرف إن كان هذا ممكناً الحقيقة!) لكن اسمها العربي جعل ذلك احتمالاً بعيداً، ثم تصورت أنها يمكن أن تكون شخصية وهمية، كوسيلة لتمرير الإعلانات التجارية (ولا أعرف إن كان هذا يحدث في الفيس بوك أو لا).. ولأني لست من أنشا الصفحة، فلم يكن ممكناً لي حذف هذه الفتاة.. وإنما أرسلت إلى الأخ الذي أنشأ الصفحة ليمنحني صلاحيات تمكنني من فعل ذلك..
أثناء هذا، تلصَّصت أكثر لأعرف ما الذي تحبه أيضاً فتاة كهذه..
صعقت بقائمة اهتماماتها.. كان فيها ما هو متوقّع، ولكن كان فيها أيضا أخرى لا تتناسب مع ذلك..
كانت مثلاً عضوة في صفحة بعنوان: تحطيم الرقم القياسي في الصلاة على النبي…!
نعم، يوجد صفحة على الفيس بوك بهذا العنوان، وعدد محبي هذه الصفحة والذين يشاركون فيها يتجاوز الربع مليون شخص !..
تحطيم الرقم القياسي في الصلاة على النبي!.. تخيّلوا.. أيُّ إسفاف أن تتحوّل الصلاة على النبيّ، بكل المفاهيم العملاقة التي تتضمنها، لتصير وسيلة لتمضية الوقت التسابق، وتحطيم الرقم القياسي!، “التحطيم” الذي يكرِّس الفهم العددي للشعائر عموماً بمعزل عن الصدق في الأداء والحرص على التدبر والمعاني، وهو أمر ينزلق إلى الترويج له أحياناً بعض الدعاة أيضاً…
سيبدو للوهلة الأولى أن مشاركة هذه الفتاة – وهناك كثيرات مثلها على ما يبدو في هذه الصفحة، وكذلك شبان على المستوى نفسه من المجاهرة بالمعصية- سيبدو أن مشاركتهم في صفحات كهذه من قبيل التناقض، كيف يمكن أن نفهم حرصهم على الصلاة عليه – عليه الصلاة والسلام – بينما هم يختارون صورة تعبّر عنهم في غاية الخلاعة، أو أن يكونوا محبين في الوقت نفسه لصفحة مسابقات الرقص مثلاً؟
قد يكون التناقض في أفعال البشر حقيقة إنسانية، كجزء من المسافة الحتمية بين الفكر والسلوك التي تكون عند البشر ولا يجسرها إلا الرسل والأنبياء، لكن ما هو مقبول في هذه المسافة هو كونها جزءاً من الزلل والخطأ، وليس “سبق الإصرار والترصّد” الذي يبدو واضحاً في أن تكون “هنا ” وهناك –علناً ودون حتى محاولة انسحاب..
أقول: للوهلة الأولى سيبدو هذا تناقضاً، لكن نظرة أخرى سترى ربطاً كبيراً بين الضدين، الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام، والانغماس في المعاصي والمنكرات، فالطريقة التي فهمت بها “الصلاة عليه”-و كذلك التي فهمت بها الأذكار والكثير من الشعائر-هذه الطريقة صارت تسهِّل الاستمرار في حياة المعاصي والتفاهة، لأنها عوملت بالضد من مقاصدها الأصلية، فقد تحولت إلى وسيلة لتصفير عدّاد الذنوب، ولما كنتَ تستطيع أن تصفّر العدّاد بمجرد أن تتلفظ بالصلاة على النبيّ أو الأذكار أو بعض الركعات- كما اختزل الأمر عند البعض للأسف- فقد صار من الممكن أن تستمرّ دوما بالمعاصي (ومن ضمنها المعصية الأكبر: معصية أن لا تفعل شيئا في حياتك على الإطلاق) ومن ثمّ تصفّر العدّاد وتعود من جديد لمعاصيك وهلّم جرّا..
جذور هذا الأمر موجودة حتماً في الفكر التقليديّ الذي اجتزأ نصوصاً نبوية معينة ( لا نشكّ في صحة سندها ولكن نشكّك حتماً في طريقة فهمها المتداولة).. لقد غرست هذه النصوص النبوية الشريفة في أرض سبق أن هيّأها وحفرها القرآن وزرع فيها- قبل هذه النصوص- مفاهيم كثيرة أساسية، جاءت بعدها النصوص النبوية كتطبيقٍ واقعيّ للتفاعل مع كلّ ما سبق.. أي إن النصّ النبويّ لم يأتِ من فراغٍ ويوجّه لشخص كان مثل الصفحة البيضاء( أو السوداء مفاهيم أخرى كما هو الحال اليوم!)، بل كان يأتي بعد أن تكرّست مفاهيم أساسية عند الناس الموجّه لهم النص النبويّ وتشكلت عقولهم عليها..
في موضوع الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام، كان الأمر قد تكرّس قرآنياً في سورة الأحزاب، وكان الحديث موجهاً للمؤمنين بعد أن ساروا درباً طويلاً في إثبات جدارتهم بالإيمان، وكان السياق يعني اتخاذه عليه الصلاة والسلام قدوة في كل خطوة قام بها المسلمون، أي إن الصلاة عليه تعني الانقياد له ولسنته عليه الصلاة والسلام ( وسلّموا تسليماً..).
تأتي الأحاديث بعدها لتكرّس أمر الاقتداء، وتقدّم المزيد من التحفيز عليه..أي إنها تصبّ في بيان أهمية الصلاة عليه – عليه الصلاة والسلام- بمعنى التذكُّر المستمر لاتخاذه قدوة..
اليوم انقلبت المفاهيم للأسف وصرنا ندخل إلى معنى الصلاة على النبي، ليس من المدخل الذي يجب الدخول إليه منه، أي من معنى الاقتداء الذي يكون التلفظ فيه عاملاً مساعداً، بل من باب التلفظ باللسان الذي يزيل السيئات ويزيد الحسنات.. وهو أمر لا معنى له من دون المعنى الأصلي: معنى الاقتداء..
الفكر التقليديّ هنا يتحمّل جزءاً كبيراً من المسؤولية، لكن التبرير الوحيد هو أنّ هذا الفكر عندما أُرسيَت قواعده وأصوله كان معنى الاقتداء لا يزال راسخاً، فجاء أمر التلفظ تحصيلاً حاصلاً مكملاً لا أكثر.. أما اليوم، فقد ضاع الاقتداء، وتحولت نصوصٌ كهذه بعيداً عن مقاصدها لتكون مجرد وسائل لتصفير عدّاد الذنوب والاستمرار في حياة هي بحدّ ذاتها ذنب كبير.. وما زلنا نتعامل مع واقعنا بالآليات والمفاهيم نفسها التي كانت ناجحة يوم كان الاقتداء حقيقة واقعة..
لا بدّ لنا من مواجهة مفاهيم كهذه بشجاعة، حادثة الفيس بوك هذه مجرد مثال على سلوك شائع في مختلف الأوساط نعرفه جميعاً ونغضُّ الطرف عنه لأسباب لا تخفى..
النهوض لن يحدث عبر “تحطيم الرقم القياسي في الصلاة على النبي”.. بل على العكس، درب النهضة لا بدّ أن يمرّ أولاً عبر تحطيم مفاهيم كهذه، مفاهيم حوّلت الشعائر لتكون مجرد غسّالات للذنوب وكرّست المعنى العددي لها بمعزل عن أيّ تأثير اجتماعي..
وأيضا لا بدّ له أن يمرّ عبر إعادة المفاهيم الأصلية: مفاهيم الاقتداء به عليه الصلاة والسلام.. على نحوٍ يكون فيه التلفُّظ اللساني عامل تذكير بالاقتداء.. وليس هدفاً بحدِّ ذاته..