الدكتور أحمد خيري العمري… حوار خارج التصنيف
( يصدر خلال أيام كتاب “صانع الانفاق” الذي يضم ما كتبه العمري عن دمشق بعنوان “في البدء كان الياسمين” ، و يضم مقالات مختلفة من العراق و سوريا و مصر و الجزائر و فلسطين عن نتاج العمري و بالذات عن التفاعل معه..، كما يضم الحوار المعمق الذي قامت به الاستاذة سهير علي أومري ، و الذي نشرنا جزءا منه و ننشره الان كاملا نزولا عند رغبة القراء..)
حاورته: سهير علي أومري
حوار خارج التصنيف مع كاتب خارج التصنيف
الدكتور أحمد خيري العمري… مواجهات عكس التيار على هامش التكريم
حاورته: سهير علي أومري
البوصلة القرآنية… كيمياء الصلاة… الفردوس المستعار والفردوس المستعاد… ليلة سقوط بغداد…. ضوء في المجرة… أبي اسمه إبراهيم… ألواح ودسر… وغيرها…. عناوين ضخمة لفكر جديد يسافر بنا نحو شواطئ لم ترسُ عندها من قبل مراكبنا… يمنحنا تلسكوباً يصحح لنا نظرتنا للماضي وبوصلة تصحح توجهنا للمستقبل وعصا نتكئ عليها لنقف من جديد على أرض واقع جديد أكثر صلابة وأكثر متانة لنعرف أين نضع أقدامنا لننطلق إلى نهضة نرتقبها ونحلم بها… نهضةٌ القرآنُ أساسُها والصلاة عمودها… نهضة حقيقية أرادها الله تعالى لنا… عجزنا قروناً عن تحقيقها بفعل عوامل فكرية عديدة نشأنا عليها وتأصلت فينا وحالت بيننا وبين نهضتنا، وكان لزاماً علينا إن أردنا النهوض أن نتبينها ونستأصلها ونفك قيودها لنمضي إلى حيث كانت أمتنا في فترة مضت وإلى حيث يجب أن تكون اليوم وغداً…. من هنا تأتي أهمية هذه العناوين كما تأتي أهمية نتاج صاحبها على اختلاف أنواعه… إنه المفكر الإسلامي: الدكتور أحمد خيري العمري الذي اختارته دار الفكر ليكون الكاتب الذي تكرمه لعام 2010م
الدكتور أحمد خيري العمري:
كاتب ومفكر إسلامي من مواليد بغداد عام (1970) من أسرة موصلية عمرية؟ يرجع نسبها إلى الصحابي الجليل: (عمر بن الخطاب رضي الله عنه) درس طب الأسنان في جامعة بغداد وتخرج منها عام (1993)، كان والده قاضياً ومؤرخاً معروفاً وهو (خيري العمري)، بعد سقوط بغداد انتقل مع أسرته ليعيش في دمشق حوالي سنتين ثم ترك عائلته فيها، وسافر إلى واشنطن ليعمل في الملحقية الثقافية لسفارة دولة الامارات العربية المتحدة، أول مؤلفاته كانت البوصلة القرآنية الذي صدر عام 2003م وخلال ست سنوات قدم للبشرية ما يزيد على 16 مؤلفاً مطبوعاً كلها كانت من منشورات دار الفكر في سوريا – دمشق، وله أيضاً العديد من المقالات التي نشرت في:
صحيفتي العرب القطرية، والقدس العربي، وموقعه الالكتروني الشخصي الذي يستقطب العديد من القراء….
تلازم اسمه مع شعار رفعه عنواناً لموقعه وقضيةً كبرى تدور في فلكها جميع مؤلفاته، وهذا الشعار هو: “القرآن من أجل النهضة”
لقيت مؤلفاته ومقالاته رواجاً كبيراً وأقبل عليها قراء كُثُر، وفي الوقت نفسه دارت حوله انتقادات عديدة ووُجِّهت إليه اتهامات كثيرة تناولت فكره ومنهجه وأسلوبه….
مع الصفحات التالية نرصد أبعاداً خفية من شخصية الدكتور أحمد خيري العمري، ونسبر أغواراً عميقة في فكره وأسلوبه، ونتبين حقيقة نظرته للماضي والحاضر والمستقبل متجاوزين خطوطاً حمراء وأسلاكاً شائكة في توجيه كل ما دار حوله من انتقادات وآراء مستعيرين أقلام المنتقدين وألسنتهم بهدف تبصُّر حقائق ومواقف من شأنها أن تكشف اللبس وتزيح عن الأبصار الحجب وتضع حركات الإعراب فوق نهايات الكلمات…
مع العمري نقدم لكم حواراً “خارج التصنيف” مع كاتب ومفكر يصلح أن يكون هو أيضاً ” خارج التصنيف”….
1- بين أعلام كبار كرمتهم دار الفكر على مدى سنوات ماضية كالبوطي والزحيلي والمسيري…. وغيرهم يأتي اسمك هذا العام لتكون أول كاتب تكرمه دار الفكر وهو في أواخر الثلاثينات من العمر، فهلا حدثتنا لو سمحت عن هذا التكريم مبينا ما يعنيه بالنسبة لك؟
لا أوهام لدي حول هذا التكريم… لست بحجم الأسماء التي كرمت من قبل، ولن أكون بحجمها لمجرد أني لحقتها بالتكريم… إنني أكرم في سياق تكريم الشباب وهذا يضع النقاط فوق حروفها .. في الوقت نفسه، تكريم الأسماء التي ذكرت كان مجرد تحصيل حاصل ضمن حدث ثقافي نظمته دار الفكر، ولا أظن أن التكريم كان الأول لأي منهم، أي إن سجل إنجازاتهم كان فيه ما فيه بحيث أن التكريم كان مجرد “تكريم آخر”..
بالنسبة لي، الأمر مختلف، ليس فقط لأنه تكريمي الرسمي الأول، بل لأنه يأتي كتشجيع ودعم وإسناد من قبل دار الفكر لي أو لنتاجي بالأحرى.. وهو أمر أتشرف به بل و أنوء بحمله على ظهري..
لا أنفي أيضا أن توقيت التشجيع جاء في وقت كنت بحاجة له جدا..
2- هل يمكن أن توضح لنا ماذا تعني بذلك؟
لم يكن عندي أي علم مسبق بالموضوع، لم أعلم أني مرشح أصلا، أي أنه لم يحدث تسريب للأمر، وفي ليلة العيد، يوم الصعود إلى عرفة، كنت أتهيأ لعيد هو الأصعب، لأنه الأول لي بعيدا عن أسرتي، و جاءت رسالة الأستاذ عدنان سالم بهذا الحمل الثقيل ليكون هدية العيد.. سأكون كاذبا لو أنكرت سعادتي وفخري بهذه الثقة، لكني سأكون كاذبا أيضا لو أنكرت خوفي من توقيت التكريم ومن ثقل الحمل أن أكون في موضع المقارنة مع الأسماء التي كرمت من قبل..
3- قلت الآن إن هذا التكريم هو تكريمك الرسمي الأول هل لك أن توضح لنا ماذا تعني بذلك؟
قصدت أن كل كاتب يأخذ تكريمه أولا من القراء، وهو أمر لا شكوى عندي منه إطلاقا أما التكريم الرسمي فيرتبط بمعطيات أكثر تعقيدا وتتعلق في جزء منها برسالة المؤسسة مانحة التكريم و حساباتها، و قد تتعارض هذه أحيانا مع رسالة الكاتب أو خطه..
لا أنكر سعادتي بالتكريم الرسمي كما أسلفت، لكن لو كان هذا التكريم قد جاء دون تكريم القراء من قبل، فإني كنت سأشعر أن في الأمر مجاملة ما أو تعويضاً ما..
على العكس من هذا ، أشعر أن هذا التكريم ، يكرّم ضمنا كل القراء الذين سبق لهم ودعموني..
4- لماذا دار الفكر بالذات الوحيدة التي حظيت بنشر كتبك؟ وهل بينك وبينهم عقد احتكار أم أن الأمر بالنسبة لك بالخيار؟
أولا ، “ليلة سقوط بغداد” لم ينشر في دار الفكر ، بل في دار نشر أخرى.
ثانيا، دار الفكر لم تحظ بنشر كتبي، بل أنا الذي حظيت بمعاملة استثنائية من قبل” دار الفكر” ..
ثالثا ، لا احتكار بيني وبين دار الفكر، العلاقة بيننا لا تحتمل مصطلحات كهذه أصلا، ولا أظن أن هناك مشكلة بالنسبة للدار لو أني اخترت النشر في دار أخرى .. الأمر يشبه علاقة أب كريم بأحد أبنائه الذين قرر أن يخرج من بيت العائلة دون أن يكون عاقا..
5- أنت كاتب ومفكر إسلامي: لم تدرس العلوم الشرعية، ولم تتخرج من جامعة إسلامية، ولم تتتلمذ على يد شيخ أو داعية، ولم يكن والدك عالماً ولا شيخ طريقة ولا حتى جدك أو أحدٌ من أفراد عائلتك!!! أليس هذا أمراً غير مألوف بين مفكري عالمنا الإسلامي ودعاتهم!! ماذا تقول في ذلك؟
نعم أنه أمر نادر جدا، باستثناء أنه حدث مثلا مع واحد من أكثر المفكرين الإسلاميين تأثيرا في القرن المنصرم مع رائد فكر النهضة الإسلامي مالك “بن نبي” الذي لم يتلق التعليم الشرعي، وهو نادر أيضا رغم أن “العقاد” الذي أثرى المكتبة الإسلامية بعدد من الكتب لم يقدمه الكثيرون من أصحاب الشهادات الشرعية.
هذا بخصوص الدراسة الشرعية، أما تكملة السؤال عن كون والدي لم يكن عالما شرعيا ولا جدي..الخ ، فهو سؤال مؤسف، الفكر الإسلامي يا سيدتي ليس محلا للعطارة في السوق القديم، و هو ليس حرفة أو صنعة يعلم الاب أسرارها لابنه.. قد يكون الأمر مختلفا قليلا بالنسبة للعلم الشرعي فهناك بيئة معينة قد يساهم وجود الوالد في تمريرها لابنه ..لكن علينا أن نميز تماما بين “العالم الديني”- أو الشيخ كما يسمى في بعض البلدان- و بين المفكر الإسلامي..
على كل لا أعرف مفكرا إسلاميا كان والده أو جده مفكرا إسلاميا كذلك..و إن كنت تعرفين أحدا فيرجى إبلاغي بذلك..
6- وُلدتَ في بغداد ونشأت و كبرت فيها ثم كان سقوط بغداد على يد المحتل الأمريكي، فغادرتها إلى دمشق، وهناك بُحت بألمك لسقوط بغداد بملحمة أسطورية بعنوان: “ليلة سقوط بغداد” وبعدها توجهت إلى أمريكا لتستقر في أحضانها… دون أن تكلّ أو تمل من تعداد مثالبها ورصد نقاط ضعفها قيماً معاشة وأساليب حياة… الأمر الذي جعل الكثيرين يرون في ما فعلت ازدواجية سلوكية وغير منطقية فما قولك عن هذا الأمر؟
أولا ،لم أغادر بغداد بعد سقوطها، بل بقيت فيها ثلاث سنوات بعد السقوط وغادرتها بعد انفجار العنف الطائفي الذي كان أحد نتائج السقوط و تداعياته، وكتابي “ليلة سقوط بغداد” كتب و صدر أثناء وجودي في بغداد..
ثانيا ، لم “أستقر” في أحضان أمريكا ، بل إني لم أدق مسمارا على الحائط فيها، إنني أعمل في سفارة دولة عربية شقيقة، وجواز سفري لا يزال عراقيا، ولم أحاول الحصول على سواه رغم توفر إمكانية ذلك في أمريكا خصوصا، لكني ببساطة لا أود لأولادي أن يكبروا فيها، و تجربة العمل والدراسة في أمريكا هي تجربة مهمة بالنسبة لي على الصعيد المهني والثقافي، لكنها تجربة محدودة بعقد عمل ودراسة سيأتي أوان انتهائها قريبا..و ربما قبل نشر هذا الحوار!
ثالثا، ما أراه غير منطقي، أن أكتب عن أمريكا، ثم أتهيب من زيارتها عندما تسنح الفرصة، كما لو أني أخشى على نفسي منها، ها أنذا، أكتب من أمريكا بعد أكثر من سنة من زيارتي لها، زادت التجربة رؤيتي نضجا، وثوابتي يقينا..
كلي ثقة أن هؤلاء أنفسهم هم الذين قالوا قبل ذلك إني أنتقد امريكا رغم أني لم أزرها!! أو في قول آخر “لأني” لم أزرها..!!
الحل الوحيد مع هؤلاء هو إلقامهم بحجر اللامبالاة والمزيد من الإنتاج والعمل الدوؤب..
7- واجهتَ القيم الأمريكية بكل جرأة وقوة، ورصدتَ ملامح الشيخوخة في هذه الحضارة، وقرعتَ في أذهاننا ناقوس الخطر محذراً منبهاً مرة معنفاً موبخاً مرات أخرى خشية الانقياد وراء هذه الحضارة أو محاولة تقليدها أو الشعور بالنقص تجاهها، فهل تعرضتَ بسبب هذا الأسلوب لمواجهات ما من أبناء هذه الحضارة أو تهديدات أو ملاحقات أو تعطيل لمصالحك وخاصة أنك تقيم بينهم؟!!
لا، ليس بعد على الأقل.. ونقدي يصب غالبا على جوانب حضارية مختلفة يتحدث فيها أبناء هذه الحضارة أنفسهم سواء كانوا من اليمين أو اليسار..
لكن هل هذا سؤال صحفي أم أنه تحريض بصيغة سؤال؟؟
8- عادة التصنيف عادة متأصلة فينا كبشر عامة وكعرب خاصة، فما إن يلتقِ أحدنا بآخر أو يقرأ لكاتب حتى يضع على جبهته لصاقة يعنون بها اتجاهاته، ويحدد بها انتماءاته، فينظر إليه من خلالها، ويتعامل معه وفقها، فهل يصلح أن تكون كاتباً فوق التصنيف أم يمكن أن تقدم لنا نفسك وفق التصنيف الذي تراه لتوفر على المصنفين جهودهم؟
قبل أن أجيب عن هذا السؤال أستدرك على الصيغة الاعتذارية التي قدمتِ بها، كما لو أن التصنيف تهمة علينا أن نعتذر و نبرر قبل أن نسأل عنها.. أرى أن التصنيف أمر طبيعي جدا، وما هو غير طبيعي هو هذا الاعتذار عنه، ما دمتِ لا تصنفين الناس بناء على لونهم أو أعراقهم، بل على نتاجهم و اختياراتهم، فلا ضير أبدا من التصنيف، بل الضير هو أن نبتعد عن التصنيف..
في الوقت نفسه لا أعتقد وجود من هو فوق التصنيف، و لكن أؤمن بوجود تصنيفات جديدة وخانات شاغرة لم تملأ بعد، أي إن من قد يبدو أنه خارج التصنيف لفترة ما فإنه سرعان ما يجد تصنيفا ولصاقة ما يضعها على جبهته..
شخصيا أنا سعيد بلصاقتي كمفكر إسلامي، لأنها تعبر فعلا عن نتاجي وخياري، لكني أستدرك أن بعض نتاجي لا يزال خارج التصنيف، و هو شيء مؤقت كما أسلفت..
9- من الشائع في مجتمع التأليف والفكر في عالمنا الإسلامي أن يولد فيها مفكرون يبدؤون صغاراً بمؤلفات صغيرة ثم يكبرون، أما بالنسبة لك فقد ولدت كبيراً بضخامة أول مؤلَّف أبدعه عقلك وفكرك ألا وهو “البوصلة القرآنية” الذي كان ضخماً في المضمون ضخماً في الفكر ضخماً في الكمّ لدرجة أن كثيرين ممن قرؤوه أنكروا أن يكون كاتبه شاباً في مثل سنك، وكانوا مصرين أن عمرياً آخر ربما يكون صاحبه أو أن أحداً ما كتبه لك، فما السر الكامن وراء هذه الولادة غير العادية؟
ليس سرا أن “مجتمع التأليف و الفكر في عالمنا الاسلامي” –كما أسميته- ليس في أفضل أحواله حاليا، وبالتالي فإن كل ما هو شائع فيه لا يعبر بالضرورة عن حالة صحية.
شخصيا لا أؤمن بجدوى “الولادة بالتقسيط” ولا أعتقد أنها تعبر فعلا عن الواقع لكل من يرغب بالتغيير فعلا، و بغض النظر عن ضخامة حجم الكتاب، فإن أهم المفكرين يبدؤون بكتب كبيرة حتى لو لم تكن ضخمة الحجم، و هذا لا يعني أنني أضع نفسي معهم ولكني أؤكد أن ما هو شائع وسائد يخص الكتابات المكررة فحسب، و ليس الكتاب الذين يتركون تأثيرا على المدى البعيد، كما أن علينا أن نتذكر هنا أن كبار الكتاب ربما بدؤوا نتاجهم بعرض أفكارهم في بعض المشاكل الجزئية التي يمكن أن تحلل وتشخص بكتاب “صغير ” حجما كبير مضمونا..
فيما يخص البوصلة، فالكتاب كما وصفته إحدى القارئات المثقفات اللواتي أعتز بهن “جملة واحدة تمتد من أول الكتاب إلى آخره”، وهذا صحيح …. إنه يمثل رؤيتي الأساسية التي لم يكن من الممكن أن أقدمها بالتقسيط أو التجزئة لأن ذلك كان سيفسدها حتما..
البوصلة يتجه بشكل شمولي إلى مشكلة تاريخية، و أي اختزال في عرض المشكلة وأسبابها سيكون تبسيطا مخلا لها..
فيما يخص ما ذكرت من إنكار البعض كوني الكاتب، فقد مررت بثلاث مراحل من رد الفعل تجاه هذا، أولا: عددت الأمر مزحة، ثانيا: عندما تبين لي لاحقا أنهم جادون انزعجت، اليوم أرى الأمر كما لو كان ثناءً جميلا بحق الكتاب، لقد عبروا عن إعجابهم بالكتاب بطريقة مميزة : أنكروا إمكانية أن يكون كاتبه في الثلاثينات من العمر.. و يعني ذلك ضمنا أنهم معجبون جدا بالكتاب.
10- بنظرة سريعة إلى تاريخك ونشأتك هل لك أن تعدد لنا لو سمحت العوامل التي ساعدت على تكوينك الفكري والثقافي مبيناً الأشخاص والمواقف التي كان لها التأثير الأكبر في وصولك إلى ما أنت فيه اليوم؟
نشأت في أسرة تنتمي للطبقة الوسطى العراقية،كان لها دور في الحركة الوطنية العراقية في فترة الاحتلال البريطاني، وكان ذلك من الجهتين، أي من أسرة والدي وأسرة والدتي، كبرت على حكايات ثورة العشرين وثورة 1941 والحلم القومي لاحقا.. ولعل ولادتي ونشأتي في فترة انكسار هذا الحلم والإحباطات التي تعرض لها المناضلون القدامى قد فتح وعيي على وجود “تناقضات ” في النضال ضد “الاحتلال” من جهة واستيراد معاييره ومظاهر حياته..
لا يمكنني أن أنكر أن اعتزاز الأسرة باللقب العمري وبانتسابها إلى عمر بن الخطاب قد ترك أثرا كبيرا في داخلي.. كان عمر بن الخطاب بطلا من أبطال طفولتي حتى قبل أن أستطيع فهم واستيعاب دوره الحقيقي، محاولتي الأولى لقراءة عبقرية عمر كانت عندما كنت في الصف الثاني الابتدائي.. لكني تنبهت مبكرا إلى أن اعتزاز بعض الأقارب باللقب وبمكانة عمر بن الخطاب كان اعتزازا أجوف بما أنه لم يكن مصاحبا دوما بالتزام يمنح هذا الاعتزاز المصداقية، و لعل ذلك فتح عيني على اعتزاز الأمة بماض عريق لم تمنحه حقه في الالتزام الجاد بما يتناسب مع هذا التاريخ..
كان والدي رحمه الله قاضيا ومؤرخا معروفا لديه العديد من المؤلفات التأريخية، في الوقت نفسه والدتي كانت محامية أي إنها درست القانون أيضا وكانت قريبة من الكثير من الأحداث في تأريخ العراق المعاصر في فترة الحكم الملكي خاصة، ولا بد أن يكون ذلك قد ترك أثرا كبيرا أيضا، فالتأريخ والقانون كان لهما حضور دائمي في كل جلسة عائلية، وقد أسهم ذلك في تكوين رؤية شمولية للأحداث ،فالتاريخ يأخذك من الرؤية الجزئية القاصرة إلى رؤية أوسع، والقانون يمنحك الحس العام بالالتزام وأهميته في حياة الفرد والأمم.. والدتي أيضا لها دقة ملاحظة في التفصيلات الصغيرة وربطها بما هو أكبر، كانت تهتم جدا بتأريخ الحضارات ومنتجاتها الثقافية والفنية المختلفة، وعندما كنا نسافر في الصيف لقضاء الإجازة – على عادة الطبقة الوسطى العراقية في السبعينات – كان المتحف هو محطتنا الأولى (لا السوق !)..
من المواقف التي تركت أثرا في ذهني من كثرة ذكرها وتكرارها، أننا أثناء زيارتنا مسجد القصر الأحمر في إسبانيا، و الذي صار كنيسة كما هو معلوم، وكان عمري آنذاك أربع سنوات فقط، كانت والدتي تبكي بهدوء و أخبرتني أن الأذان كان يرفع هنا لكنه تحول الآن إلى كنيسة، يومها أخذت أصرخ بأعلى صوتي “الله أكبر” كما لو كنت أغيظ الأمر الواقع ، وكان تصميم المسجد يتيح للصوت أن يتضخم بفعل الأصداء المتداخلة، وهكذا ترددت أصوات “الله أكبر” في كنيسة سانتا ماريا، تقول أمي إن الدم جمد في عروقها، لكن نظرات غاضبة حاصرتنا جعلتها تجرني ونخرج مسرعين.. كوفئت بعدها على ما فعلت، وكوفئت أكثر من قبل الأسرة في بغداد، كان يمكن أن يُنسى الأمر كما تنسى الكثير من الأحداث، لكن والدتي كانت حريصة على تذكيري بما فعلت بين الحين والآخر..
اكتشفت والدتي أن لي موهبة للكتابة في عمر مبكر ( السابعة أو الثامنة).. وشجعتني كثيرا، احتفظت بكل شيء أكتبه ( ولا يزال كل ذلك محفوظا في بغداد)..كانت أولى محاولاتي في الكتابة يوميات لطفل فلسطيني في قرية دير ياسين، تنقطع فجأة في يوم المذبحة.
تفاعل كل ذلك مع ظروف عامة مرّ بها العراق خاصة والأمة عامة ..مما لا مجال لذكره الآن…
11- من المعروف أن أبرز القضايا التي جندتَ نفسك لمواجهتها ودحض أخطائها ظاهرة (أدعياء التجديد) -كما تطلق عليهم – فمن هم هؤلاء؟ وماذا تريد منهم؟
لم أجند نفسي لمواجهة هؤلاء ، بل جندت نفسي لقضية أكبر بكثير، وكان هؤلاء بمثابة عقبة علي اجتيازها لكي أواصل الطريق، أي إن الحديث عنهم هو من باب “ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب!”.. بعبارة أخرى كان من الضروري أن أضع خطا فاصلا بيني وبينهم وأن أحدد أنني لا أنتمي لهم ولمعسكرهم بوضوح، هؤلاء أساؤوا أكبر إساءة للتجديد لأنهم جعلوا الجمهور يسيء الظن بالتجديد ويخلطه بالتفلت، وكان التفلت هو جوهر تجديد هؤلاء، بالذات التفلت من كل الضوابط الشرعية، جوهر تجديدهم ولبه ومحوره كان الإلغاء غالبا.. إنهم يمررون بوضوح شديد ( وأحيانا بصراحة) مشروعا لبيراليا إلى الفكر الإسلامي عبر إلباسه شعارات إسلامية، رغم أن الحجر الأساس في هذا المشروع يتناقض مع ثوابت إسلامية واضحة.. لا يعني هذا أنهم مأجورون بالضرورة فالمشروع الليبرالي أشرب في قلوبهم و عقولهم ولعلهم يتصورون أنهم يحسنون صنعا وأنهم يقدمون للإسلام خدمة عظيمة عبر مشروعهم هذا.. لكن كذلك لا ينبغي أن نبالغ في حسن الظن، فبعض المؤسسات الغربية تدعم بعض هؤلاء بوضوح وتوصيات مؤسسة “راند ” تذكر بعض الأسماء التي ينبغي دعمها بصراحة.. لكن تصوري العام أنهم يتلقون الدعم بعد أن يصلوا مرحلة معينة من الثبات على مبدئهم .. المفاهيم الغربية لم تعد بحاجة إلى مفكرين – عملاء – بشكل مباشر لأنها مدعومة أصلا بقوة التجربة الغربية وسطوتها الإعلامية.. لكن كان لا بد من توجيه دعم وترويج لبعض هؤلاء المفكرين في مرحلة لاحقة..
إذا كنت تقصدين بالسؤال عنهم تحديد أسمائهم فهذا أمر لن يحدث، بعض هؤلاء معروف قطعا، ولكن البعض الآخر هو من طالبي الشهرة وسيستفيد من مجرد ذكر اسمه..
12- هلا تحدثنا عن منهجك وطريقة تعاملك مع الرأي الآخر؟
يعتمد الأمر على الرأي الآخر !..هناك “رأي آخر” في مسائل يتعدد فيها الصواب، وهو أمر عادي وطبيعي وكل ما ينقل في التراث من أقول للأئمة من قبول للخلاف وتسامح فيه مثل قول الإمام الشافعي“ما ناظرتُ أحدًا قط، إلا أحببتُ أن يوفَّق ويسدّد ويعان” كل ذلك يندرج في أمور فقهية يتعدد فيها الصواب ويتسع فيها مجال الخلاف..
وهناك “رأي آخر” ينتمي بصراحة إلى منظومة فكرية مختلفة ومغايرة تماما ( كأن يكون ملحدا صريحا ) والعلاقة بهذا الرأي واضحة أيضا، وبما أن المشترك قليل أصلا فإن الاحتكاك يكون محدودا لأن أي حوار يتطلب بناء لغة مشتركة..
مشكلتي الحقيقية هي مع رأيين آخرين ، الأول: “رأي آخر” بلا انتماء محدد، وبلا هوية واضحة، يتزلف “قبول الاخر” ويأخذ من كل منظومة فكرية ما يتناقض مع سواها ويتصور أنه بهذا يمتلك إرثا إنسانيا وأصحاب هذا الرأي غالبا حسنو النية ومغرر بهم بشعارات فارغة، الثاني: “رأي آخر” يبطن غير ما يظهر، و يحاول تمرير أفكار مضادة عبر وضع شعارات إسلامية فضفاضة..
وليس سرا أن علاقتي بالرأيين فيها أقل قليلا مما صنع الحداد..
أحب أن أنوه هنا إلى أني لست ممن يروجون لمبدأ “قبول الآخر” ولي تحفظ على طريقة استخدام المصطلح في بعض الأدبيات ، لكني اكتشفت مثلا أني أكثر تقبلا للآخر بكثير من بعض الذين يتحدثون عن قبول الآخر طول الوقت لكنهم عمليا يرفضون كل آخر يخالفهم، خاصة عندما لا يكون هذا الآخر أشقر أو من أمة أخرى..
13- ما تعريف التجديد الحقيقي برأيك؟ وما هي سماته وأركانه؟ وهل يحق لأي مسلم أن يجدد ويكون مجدداً؟
يعتمد الأمر على أي تجديد نتحدث، فالتجديد مصطلح واسع ولا يمكن أن نعرّفه إن لم نحدد المجال الذي نوجهه له، التجديد في الفقه مثلا أمر لا يمكن أن يحدث دون دراسة شرعية متخصصة، و دون أن يكون امتدادا لعملية تأصيل واضحة، وشروطه وضوابطه بهذا أعقد من التجديد في مجال الفكر الإسلامي مثلا، والتفريق بين الأمرين مهم جدا، وإن كان يخفى على الكثيرين للأسف مما يحدث خلطا وفوضى تزيد الأمور صعوبة للجميع..
التجديد في الفكر الإسلامي ضوابطه وشروطه أقل تعقيدا، فهو يتطلب الثقافة العامة والرؤية الشمولية أكثر مما يتطلب الدراسة المتخصصة، ولا يعني هذا أنه أسهل منالا من التجديد في الفقه أو علوم الحديث مثلا، لكن شروطه مختلفة..
بكل الأحوال، سواء كان التجديد في الفكر أو الفقه، فإن هناك حدودا مشتركة يجب أن يراعيها، و هو عدم التناقض الداخلي مع مشروع التجديد نفسه، وأن لا يتناقض مع نصوص صحيحة وثابتة..
بالنسبة لي، لا أفهم أي محاولة تجديدية أو مشروعا تجديديا ما لم يكن مرتبطا بنهضة الأمة وإخراجها مما هي فيه، لا أفهم أي قراءة جديدة للنص القرآني ما لم تكن مرتبطة بهذا، هناك بعض القراءات الجديدة تجعلني أفكر أن الإتيان بما هو جديد بالنسبة لأصحابها هدف بحد ذاته، وليس وسيلة لنهضة الأمة .. ربما لهم وجهة نظر في هذا، لكني لا أفهمها، لا أفهم التجديد إن لم يأت بمعنى يفعّل نهضة هذه الأمة.. ببساطة لا أستطيع التفاعل مع أي شيء آخر وأعد “التجديد من أجل التجديد” في هذا الوقت ترفا بل وربما أكثر..
هل يحق لأي مسلم ؟ لا أظن أن ذلك ممكن في العلوم المتخصصة، في مجال الفكر السؤال ليس “هل يحق؟” بل “هل يستطيع؟”…
14- تعقيباً على كلامك أنك لا تقبل أي مشروع تجديدي ما لم يكن مرتبطاً بنهضة الأمة، ألا يتطلب ذلك توحيد النظرة للنهضة التي يسعى إليها المجددون؟ وهل تسمح بتعريف دقيق للنهضة.
سؤال مهم للغاية، خاصة في الوقت الحالي الذي يتعرض فيه مفهوم النهضة للخلط مع مفهوم التنمية رغم الاختلاف الكبير بينهما..
من السهل “وصف النهضة” بكونها “روحاً تسري في الأمة” مثلا.. ولكن هذا محض توصيف و ليس تعريفاً.. النهضة في رأيي هي عملية “شروع ” في الخروج من الوضع السلبي لأمة ما باتجاه أداء دورها، أي إنها في مرحلة وسطى بين “الصحوة” و”الفاعلية”.. ويشبه ذلك كثيرا الأطوار التي يمر بها أي فرد في حياته اليومية بعد استغراقه في النوم، إنه يستيقظ أولا ، لكنه يبقى مستلقيا لفترة ما قبل أن ينهض، ثم إنه يستجمع طاقته ليترك فراشه وينهض..
قبل أن يذهب لممارسة نشاطه..
النهضة إذن هي رؤية شاملة تتطلب أولا ليس فقط الاعتراف بالسبات الذي مررنا به، بل بتحديد أسباب هذا السبات واقتلاعها من جذورها كي لا تجرنا دوما إلى نفس السبات والجمود في مرحلة لاحقة.. ويتضمن ذلك أيضا وجود رؤية واضحة لدور هذه الأمة ورسالتها وما تريد تقديمه لنفسها وللبشرية..
أقول ذلك وأؤكد أن هذه الرؤية قد تتضمن اقتلاع ما تآلف الناس معه وتعودوه بل وتصوروه أنه جزء من دينهم والدين ونصوصه منه براء .. عملية الاقتلاع هذه ليست سهلة إطلاقا خاصة عندما يتعلق الأمر بمفاهيم سائدة ومكرسة، وتتطلب حتما جهدا علميا وتأصيلا لهذا الاقتلاع، كما أنها في الوقت نفسه يجب أن تعزل نفسها عن المؤثرات الخارجية ومعايير الأمم الأخرى فيما يجب اقتلاعه وما يجب إبقاؤه.. بل يجب أن يكون احتكامها الوحيد لنصوصها الدينية التي تشكل العمود الفقري لهذه الأمة ونهضتها..
15- حسناً ، هذا من ناحية رؤيتك لمعنى النهضة ولكن ما تقصد بأن هناك خلطاً بين النهضة و التنمية؟؟
الخلط موجود فعلا، بنية حسنة غالبا، وربما دون معرفة بوجود فرق بين المفهومين.
مفهوم التنمية يرتكز بشكل أساسي على البعد الاقتصادي، وأهداف التنمية غالبا ما تتعلق بأهداف اقتصادية قد يكون منها ما هو في منتهى النبل مثل حل مشكلة الفقر والقضاء على البطالة، وقد يكون منها ما هو دون ذلك، لكن التنمية بكل الأحوال تركز على هذه الجوانب فحسبوليست في صدد الدخول في البنية التحتية الثقافية للأمة..
مشاكل الأمة متعددة، ومن ضمنها حتما الجانب الاقتصادي والفقر و البطالة ..الخ ، لكن هذه كلها مجرد أعراض لمشاكل أكبر تتعلق بالسبات التاريخي الذي دخلنا فيه، ومعالجة الأعراض دون الجذر الحقيقي للمشكلة يشبه إعطاء حبة مسكن للألم لمريض بالسرطان.. هذا عدا عن حقيقة أن التنمية الاقتصادية بمعزل عن النهضة الشاملة قد تكرس التبعية الاقتصادية لمنظومات حضارية مغايرة بما أن مفاهيم التنمية كلها صادرة عن هذه المنظومات..
16- ما تقييمك لجهود الدعاة الجدد الذين ظهروا على الفضائيات بحلل جديدة لم تكن مألوفة بين دعاة القرن الماضي؟ وهل الشكل الجديد الذي ظهروا فيه يُعَدُّ تجديداً نوعياً ناجحاً في جذب جيل الشباب؟
من الظلم الفادح تقييم جهود هؤلاء بالجملة، فلكل منهم جهده الخاص به… وأداؤهم ومستواهم متفاوت جدا….أما أن الوسائل الجديدة تجذب الشباب فهذا صحيح، لكن جذب الشباب ليس هدفا بحد ذاته بل هو وسيلة، وأخشى أنبعض الأساليب المستخدمة بدأت تطغي على المضمون، أو أن المضمون نفسه لم يعد صحيا جدا من ناحية أسلمة المظاهر الغربية ووضع بعض الشعارات الإسلامية عليها..
شخصيا كنت متفاعلا جدا مع أحد هؤلاء الدعاة في مرحلته الأولى حين كان يبدع في مجاله الخاص.. ولكن لم يعد التفاعل على الوتيرة نفسها منذ فترة للأسف لأسباب كثيرة..
عموما، كنت كتبت ذلك في مقال حول الموضوع، لعل من إيجابيات الدعاة الجدد إنزال مفردة النهضة من البرج العاجي إلى مجتمعات الشباب والجيل الجديد، أما أن مفهوم النهضة الذي يتم تمريره سطحي ويختزل النهضة إلى مجرد تنمية وعمل خيري، فهذا صحيح، ولكن لا يعني أنه غير قابل للتصحيح.
17- دارت حولك في مجتمع الفكر والثقافة مجموعة انتقادات فهل تسمح لي بذكرها وتتكرم بالرد عليها؟
- الانتقاد الأول: أحمد خيري العمري أديب وليس مفكراً.
يعود هذا إلى التصور الشائع إلى أن لغة المفكرين يجب أن تكون غامضة وعصية على الفهم لكي تكون عميقة، والحقيقة أن التعقيد في رأيي غالبا يخفي فقرا في الفكر، وكذلك فالمضمون يقَّنِّعُه البعض بالمفردات الصعبة والأسلوب الغامض لإيهام القارئ العادي أنه إن لم يفهم فإنما يعود ذلك إلى مشكلة فيه هو شخصيا وليس في أسلوب الكاتب..
للأسف الفكر الإسلامي، ومنذ ما بعد سيد قطب افتقد ضمن أشياء أخرى اللغة الأدبية الحية، فخسر القارئ، ولا أظنه ربح الفكر..وحديثي هنا عن سيد قطب كأديب صاحب أسلوب وليس كمحتوى فكري، فأنا أقر بقوة أسلوبه وقدرته على التأثير، ولكن لا صلة تربط بيني وبين المفاهيم الأساسية التي روج لها بأسلوبه.
عموما، صفة الأديب تندرج حتما على أعمال مثل سلسلة “ضوء في المجرة ” و”أبي اسمه إبراهيم” و” ألواح ودسر”.. لكن الأمر ليس سواء في البوصلة والفردوس وكيمياء الصلاة..
علما أني لا أؤمن حقيقة بالفصل الكبير بين الاثنين، فالأدب في رأيي يجب أن يحمل فكرا، والفكر يجب أن يصاغ بأسلوب جميل أو واضح على الأقل..
- الانتقاد الثاني: تعبر عن فكرتك بأساليب عديدة وكثيرة حتى تجعل القارئ يقول: “فهمنا والله فهمنا”.
من قال إني أريد “فهم” القارئ؟” ..
الفهم سهل المنال، لكني أريد أن يتكرس هذا الفهم في وعيه ولا وعيهويصير جزءا من بديهياته.. هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكن أن يصير من خلالها الفهم وسيلة للتغيير، التكرار وسيلة لتكريس الفهم، وهو للعلم وسيلة مستخدمة في الكتاب الذي كان التغيير معجزة من معجزاته..
- الانتقاد الثالث: تتقن في كتاباتك ثقافة النواح والعويل من خلال تعداد الأخطاء في الفكر والقناعات والإشارة إليها، ممضياً الوقت في اقتلاع أعشاب الأمة الضارة دون أن تقدم مشروعاً تنويرياً واضحاً يكون كفيلاً بالإصلاح والنهضة…
لست واثقا أن مفردتي “النواح والعويل” يمكن استخدامهما في هذا السياق، لا أفهم على الإطلاق كيف يكون النواح وسيلة لاقتلاع الأعشاب الضارة!..
على العموم من يقول ذلك لا أظنه قرأ لي البوصلة القرآنية أو كيمياء الصلاة.. فمقابل كل نقد لفهم سلبي للنص الديني، هناك فهم إيجابي بديل في البوصلة.. أما الكيمياء فالرؤية بمجملها تعتمد على تقديم مفهوم إيجابي لكل تفصيلة من تفصيلات شعيرة الصلاة..
- الانتقاد الرابع: محاربتك لمن تسميهم: “أدعياء التجديد” ما هي في حقيقتها إلا محاربة للتجديد نفسه، فأنت كاتبٌ تراثيٌّ تمجّد الماضي وأهله، وتغلق الباب أمام اجتهادات الإصلاح والتنوير.
من الأخير كما يقال: أفضِّل ألف مرة التراث بكل تحفظاتي عليه، على الإصلاح والتنوير إذا كان مجرد شعار براق يمرر التفلت والانحلال.. ( وأتحفظ أصلا على كلمة التنوير واستخدامها السائد حاليا!! )..كذلك يفضل قرائي..
لكني أحاول أن أجد طريقا ثالثا لا يمر بسلبيات ما تراكم من أفهام حول التراث، ويجد طريقه إلى البناء والنهضة، دون أن يمر بعثرات وسلبيات التجارب الأخرى.. وكذلك يأمل قرائي..!
- الانتقاد الخامس: تتشبث برأيك تشبُّث الشمس في كبد السماء، ومهما كانت حجة المعارضين قوية من الاستحالة بمكان أن تبدي تراجعاً في رأيك أو مواقفك.
في الحقيقة هذا الأمر شائع جدا عند الجميع، وليس عندي فقط، أغلب الكتاب والمفكرين يتشبثون برأيهم ويتمسكون به ويبحثون عن كل الوسائل من أجل الدفاع عنه.. ولا أدري لم يكون ذلك انتقادا عندما يخصني فحسب؟!..
على أي حال، حدث فعلا أني تراجعت عن استخدامي لأحد الأدلة بعد رسالة وردتني من قارئ شاب، و قد عدلت من الأمر في طبعة جديدة من البوصلة القرآنية وعدلت من أمور أخرى بعضها بسبب النقاش مع القراء وبعضها بسبب النضج الشخصي، و التعديلات في كل الأحوال لا تمس جوهر الفكر أو مضمون الكتاب وحذف الدليل الذي أشرته لا ينقض النتيجة التي بنيتها عليه لأني غالبا لا أعتمد على دليل واحد بل على جمع متسلسل من الأدلة، لكني أورد الأمر هنا للتدليل على أن التشبث بالرأي ليس قاعدة عامة..
في الحقيقة أتشبث برأيي عندما يكون متعلقا بالثوابت التي أرى أنها مستهدفة اليوم وبأكثر من وسيلة و من أكثر من جهة، و لا أرى حقيقة من قوة في الحجج المضادة لهذه الثوابت..
في الحقيقة الشيء الوحيد القوي فيهم بوضوح هو انبهارهم المريض بالغرب..
- تعقيباً على كلامك لو سمحت:
في تعديلات البوصلة التي ذكرتها والتي منها ما كان تراجعاً عن استخدام لدليل بسبب رسالة وصلتك من أحد القراء الشباب وبعضها بسبب بعض نقاشاتك مع القراء هل أشرت في حاشية الطبعة الجديدة في مواضع التعديل إلى سبب هذا التعديل؟….
لا ، لقد حذفت استخدام حديث شريف فحسب، و لم يؤثر ذلك على الاستدلال لوجود أدلة اخرى..
- الانتقاد السادس: ترتكز في أسلوبك على العواطف فتستميل قراءك وتجذبهم من حيث لا يشعرون، ويتجلى ذلك في مواضع عديدة منها كتاباتك عن وطنك وأولادك….
- يمكن إعادة هذه الجملة وحذف الفقرة الأخيرة منها لتكون كما يلي “ويتجلى ذلك في مواضع عديدة منها 5 % من كتاباتك..!”
- الانتقاد السابع: هل من المنطقي لكاتب أو مفكر جديد في وقتنا الحاضر أن يقدم خلال سبع سنوات ما يزيد على 16 مؤلفاً عدا عن الكم الكبير من المقالات الدورية التي ينشرها في بعض الصحف وعلى موقعه الالكتروني لا بد أن هناك من يساعده، وليس بالضرورة أن تكون هذه المعونة من الإنس!!!
- من قال أصلا إني أكتب بمفردي ؟..الكتابة ليست عملا فرديا كما يتخيل البعض إلا بمقدار التنفيذ الإجرائي فحسب.. لكنها عمل جماعي بطريقة أو بأخرى ..
شخصيا أكتب ومعي دعم مؤسساتي هائل يجعل من نتاجي الذي يعده البعض غزيرا متواضع الحجم والعدد، أكتب وتدعمني مؤسسة ضخمة لعلها الأعرق والأضخم بين كل المؤسسات، هذه المؤسسة اسمها الحركي“الأمة” .. الأمة التي آن لها أن تنهض والتي أكتب بدافع من حتمية نهوضها، أكتب بدعم من مؤسسة أخرى، أصغر حجما لكن لها امتداد في كل مكان وسيكون لها أكبر الأثر في نهضة هذه الامة ، إنها مؤسسة“الأسرة”، وقد دعمتني أسرتي في أكثر من مرحلة وأكثر من اتجاه بدعم لا محدود من والدتي، ومن ثم من زوجتي بل ومن أسرتها الكريمة أيضا، بصراحة، “أم زين” لوحدها شركة عامة ذات مسؤولية غير محدودة..
ثم إني دعمت من مؤسسة عريقة مثل دار الفكر، خاصة في شخص الأستاذ عدنان سالم الذي كان لي ولنتاجي كالأب وأكثر، بل وحتى من قبل“الشباب” في مكتبة الدار وفي المعارض الخارجية، لقد دعموني وروجوا لي ولم يكونوا هم من أخبرني بذلك، فكثيرا ما أستلم بريدا من قارئ جديد يقول إنه أخذ بنصيحة البائع في المعرض الفلاني..
كذلك دعمت من قبل السيدة الفاضلة “أم بشر “ هدايت سالم التي كانت لي المرشد والناقد والموجه .. والتي صارت هي وأسرتها بمثابة الأسرة لي ولعائلتي في الشام.. ولا أعتقد حقا أن هناك ما يمكن أن يوفيها حقها.. لقد كان دعمها يتجاوز الثناء والإشادة إلى النقد وبيان الخطأ أحيانا، ولكنه كان يدعم لأنه يقوي البناء ويمدني بالإرشاد والتصحيح الذي يحتاجه كل كاتب، وتزيد حاجته إلى ذلك عندما يكون لا يزال في أول الدرب..
كذلك كان هناك دور القراء الذين تفاعلوا سلبا وإيجابا، لقد أغنوا تجربتي بتفاعلهم معي على نحو جعلهم أحيانا شركاء في الكتابة ..
كل هؤلاء(مؤسسات و أفراد) كانوا شركاء في عملية الكتابة بطريقة أو بأخرى، ودون أن يدركوا ذلك..
وفقا لكل ما سبق، نتاجي ليس غزيرا على الإطلاق، بل إني استلمت قبل فترة رسالة من قارئ سعودي يلومني على قلة نتاجي ويخبرني بما معناه أنني سأحاسب على ذلك!.
16- لا بد لكل من يتقدم إلى الأمة بفكر جديد أو قديمٍ بقالب جديد أن يواجه بأعاصير من النقد منها ما هو سلبي ومنه ما هو إيجابي فأيهما كان بالنسبة لك أكثر؟
الإيجابي حتما، كان هناك نقد سلبي بطبيعة الحال، لكن التفاعل الإيجابي خاصة من طرف القراء كان له أكبر الأثر في مسيرتي، ولست واثقا من أني سأكون بنفس الدأب إذا حذفنا دور القراء وتفاعلهم معي من مسيرتي.. تفاعل القراء قال لي ببساطة إن رجع الصدى لن يكون الجواب الذي أحصل عليه من نتاجي.. وكان هذا يعني أن الأمر لن يكون عبثا ضائعا بلا جدوى..
17- وعندما يواجهك النقد السلبي هل يساور الإحباط نفسك، ويدخل اليأس إلى قلبك موحياً إليك ألا فائدة من الفكر والتفكير ومن الإصلاح والتنوير؟
في البداية كنت أحبط جدا، لمدة نصف ساعة تقريبا.
اليوم صرت أحبط قليلا لمدة تقل عن خمس دقائق!
18- هل لمست في مجتمع النقاد عامة الرغبة الحقيقية في الإصلاح أم الرغبة في الإلغاء؟
لا ينبغي التعميم هنا، ولا يمكن وضع النقاد في سلة واحدة بالجملة، هناك الناقد المتعالي والناقد المؤدلج والناقد الذي لا يقرأ ما ينقد، والناقد الذي ينقد بصفته “كاتب فاشل” ويريد من الجميع أن يكونوا مثله .. ولكن هناك أيضا الناقد المنصف والناقد المتفاعل والناقد المتابع، من الطبيعي جدا أن يكون هؤلاء هم الأقلية لأن الساحة الثقافية كلها هي انعكاس لوضع متردٍّ .. وسيكون غريبا جدا لو أن النقد والنقاد كانوا في منتهى العدل والإنصاف، بينما الواقع كله في اتجاه آخر..
19- هل السبب في ذلك برأيك أن الكتاب الإسلاميين يفتقدون المؤسسة الإسلامية القوية التي تتبناهم وتدعمهم بهدف النهضة الحقيقية للأمة، بينما لأولئك الليبراليين واليساريين مؤسسات قوية حققت لهم هذا الدعم؟
لست واثقا من هذا، صار اليوم هناك مؤسسات إعلامية إسلامية كثيرة، لكني لم أقصد ذلك، بل قصدت ذلك الجهد المبذول من الكتاب والنقاد الليبرالبيين للترويج لكاتب وكتاب يطرح أفكارهم ، بينما لا نرى ذلك عند الإسلاميين ( خاصة المستقلين منهم، الذين لم ينتموا لتيار سياسي معين)، لا يمكن حذف العمل المؤسسي تماما، لكن لا يجب أيضا إغفال روح التساند الفردي، وعدم الانزلاق إلى “عداوة الكار” تحت شعارات النقد العلمي الأكاديمي والموضوعية.
20- قلت قبل قليل: سيكون غريبا جدا لو أن النقد والنقاد كانوا في منتهى العدل والإنصاف، بينما الواقع كله في اتجاه آخر..الواقع كله في اتجاه آخر!!! أهكذا يرى الدكتور أحمد الواقع؟؟!!
نعم ، بالتأكيد… هل هناك من لا يزال يعتقد أن “على الأرض السلام وفي الناس المسرة؟”.. الواقع سيئ جدا .. سيئ بحيث يصعب علينا أن نتخيل ما هو أسوأ، لكن ذلك يجب أن يكون حافزا لنا على عدم الرضوخ لهذا الواقع ومحاولة إعادة تشكيله بكل الأساليب..
21- والآن وبعد أن ذكرتُ لك مجموعة الانتقادات التي توجه ضدك وتكلمنا عن النقد هل لك دكتور لو سمحت أن تخبرنا كيف تتعامل مع الانتقادات بشكل مختصر يعيه كل من يتوجه إليك بانتقاد…
لا أستطيع الفصل بين الانتقاد وبين توجه الشخص الذي ينقد… على ما يبدو في ذلك أحيانا من انتقائية في الموقف تجاه النقد..
بعبارة أخرى، قد تصدر جملة النقد أو فحواه من شخص متفاعل مع ما أطرح، ومن منطلق المساءلة والحرص، وبأسلوب يُظهِر ذلك، عندها ينزل النقد بردا وسلاما وأتفاعل معه ربما بأكثر مما يأمل صاحب النقد..
و قد يأتي نقد مشابه، بأسلوب ينضح بالتعالي ويكون موقفي هنا مختلفا تماما.. ربما بالتجاهل التام أو برد شديد اللهجة..
دعينا لا ننسى هنا أن الكاتب اليوم الذي يستفيد حتما من “النت” ومن الانتشار والتواصل مع قرائه عبره، عليه أن يواجه الجزء السلبي من الظاهرة، وإذا كانت ظاهرة مثقفي المقاهي وثرثرتهم التي يسمونها” نقدا “قد انتهت عمليا لأسباب عديدة، فإن النت يمنح شخصيات مماثلة تملك نفس دوافع مثقفي المقاهي إلى الازدهار والنمو في العالم الافتراضي.
لدينا اليوم أشخاص يملكون اتصالا بالنت وجهاز الحاسوب والكثير من الوقت على ما يبدو، ويعتقدون أنهم صاروا كتابا ولديهم “مشاريع” لمجرد أنهم كتبوا شيئا في هذا الموقع أو ذاك.. هؤلاء بالذات يشكلون جزءا من النقد الفارغ الذي يواجهه كتاب اليوم والذي يجب أن يواجه بالتجاهل غالبا، لأن لا هدف من ورائه غير “الشطرنج الفكري” و تمضية الوقت…
بالمناسبة ، كان من السهل جدا أن أقول إني متقبل جدا للنقد وإن صدري رحب دوما، لكني أفضل هذه الصراحة الفجة ، أحيانا أنا متقبل جدا لدرجة صادمة، وأحيانا أنا على العكس، في الحالتين الأمر لا علاقة له بالمزاجية، بل بكون هذا النقد جزءاً من رؤية أشمل..
22- لمن يقرأ أحمد خيري العمري؟ وبفكر من يتأثر ويُعجب من القدماء ومن المعاصرين؟
أقرا كل ما يقع في يدي، على الأقل أمنح نفسي فرصة الاطلاع على كل ما يقع في يدي..
ليس سرا أني تأثرت بفكر النهضة ممثلا بمالك بن نبي وبالأسلوب الأدبي في طرح الفكر ممثلا بقطب والغزالي إلى حد كبير ( مع تحفظي على أساسات فكرية لقطب، صار يجب أن نقول هذا)..
أدبيا تأثرت بغسان كنفاني وغادة السمان ورشيد بوجدرة…. من القدامى أحببت ابن القيم كثيرا، أما من الأجانب فتفاعلت مع أسلوب ماركيز وغراهام غرين وأندريه جيد وفرجينيا وولف ومارسيل بروست.
23- في وقت غزت فيه وسائل الإعلام السمعية والبصرية البيوت هل ترى أن الكتب الورقية لا تزال وسائل ناجحة لجذب أبناء الأمة وجيلها الجديد؟
وسائل الإعلام السمعية والبصرية موجودة في العالم كله ولم تؤثر حقا على الكتب الورقية.. لذلك أرى التباكي على هذا الأمر “حجة” نسوقها لكي نغطي على مشاكل أعمق تخص فشلنا في الوصول إلى القارئ..
24- من المعروف أن لك موقعاً إليكترونياً خاصاً يجذب عدداً كبيراً من القراء الشباب وتدور في صفحاته العديد من النقاشات والسجالات هل لنا أن نعرف الهدف من إطلاقك هذا الموقع؟ وهل من كلمة توجهها لمتصفحي موقعك خاصة ولقرائك عامةً
هدفي من الموقع توفير أرشيف لمقالاتي بحيث تكون متوفرة للقراء على الشبكة…. الموقع شخصي ويظل محكوما بالثوابت التي أؤمن بها .. ليس من كلمة خاصة أوجهها للقراء أو لزوار الموقع، فكل ما أكتبه هو موجه لهم..
25- هل كنتَ قبل عشر سنوات تتوقع أن ترى نفسك في مكانك ومكانتك اليوم؟ وهل من تصور تطمح إليه لنفسك بعد عشر سنوات قادمة؟
بالنسبة للمكان لا طبعا، قبل عشر سنوات كنت مستقرا في بلدي، لم أكن أتوقع أبدا أن أكون في المكان الذي أنا فيه اليوم ..
بعد عشر سنوات، و بالنسبة للمكان أيضا، أتمنى أن أعود إلى نفس المكان الذي كنت فيه قبل عشر سنوات.. وخلال مدة أقل من عشر سنوات بكثير..
بالنسبة للمكانة، لا أعرف إن كنت فكرت بهذا من قبل، أحاول دوما التركيز على ما أنتجه وما أكتبه ، لا على نتائج هذا ..
26- في روايتي: “أبي اسمه إبراهيم” و “ألواح ودسر” قدمت للتراث الإنساني أدباً يتجاوز أبعاد المكان وحواجز الزمان ليكون قصة ماضٍ وحاضر ومستقبل، وبذلك فإنك من الممكن أن تُعَدَّ رائداً لمدرسة جديدة في الأدب تنتهج هذا الأسلوب الممتع في الكتابة، فما قولك في هذا؟
أقول: الريادة ليست في بالي، و ليس من شأني أن أدلي فيها برأيي، كما أسلفت، ما يهمني حقا هو أن أكتب وأن يكون نتاجي مؤثرا ومساهما في التغيير، ما تبقى مجرد تفاصيل يمكن للمختصين لاحقا أن يحددوها..
27- تقول: إن ما يهمك حقاً هو أن تكتب وأن يكون نتاجك مؤثراً ومساهماً في التغيير، هل يمكن أن توضح لنا لو سمحت المراحل التي تمر بها الفكرة بالنسبة لديك منذ ولادتها إلى أن تصير صوتاً مدوياً على الورق؟ وهل هناك طقوسٌ معينة تقوم بها قبل وأثناء الكتابة؟
“معلومات الكاتب عن عملية الكتابة هي بقدر معلومات الشجرة عن الهندسة الزراعية!” ، لا أعرف شيئا عن مراحل الفكرة، لكني أظن أنها تولد غالبا بالتفاعل مع الناس وأحيانا من كلمة عابرة يقولها شخص عابر، عمليا أنا في حالة كتابة في رأسي طول الوقت، خميرة الفكرة تكون هناك، ربما كـ”رؤوس أقلام” أو نقاط أساسية وتحويلها إلى الورق أو إلى شاشة الحاسوب يوضحها وينضجها..
لا طقوس لدي تخص الكتابة، عندما بدأت في مرحلة المراهقة كان هناك التصور المسبق بضرورة الكتابة وقت الليل وسط أجواء حالمة. لا شيء من هذا أستمر بالنسبة لي، كان لدي مساحتي الخاصة في بغداد، لكني كنت أكتب أينما وجدت وقتا لذلك، كنت أعطي مرضاي حقنة المخدر وأكتب بضعة أسطر ريثما يبدأ مفعول المخدر!.. أوراقي كانت معي أينما حللت، وقد نسيت مرة أحد فصول البوصلة عند بائع العصير قرب عيادتي في بغداد، وعدت إليه مرعوبا بعد منتصف الليل..
بعدما غادرت بغداد، قلت المساحة الخاصة، لكني لم أسمح لذلك أن يؤثر على نتاجي، بعض حلقات “القرآن لفجر آخر” كتبت في المطبخ لأنه لم يكن هناك أية مساحة أخرى خالية!! بعض أجزاء كيمياء الصلاة كتبتها مستلقيا وابنتي أروى تلعب على ظهري..لا مشكلة لدي في وجود صوت مذياع أو تلفاز قريب، فلدي قدرة على الانفصال عن ذلك كله، كما أنفصل عن أي منغصات أو متاعب في العمل والحياة اليومية.. الشرط الوحيد تقريبا هو أن يكون محيط الكتابة في غاية الترتيب !!..لماذا ؟.. ليس لدي أدنى فكرة عن ذلك!
28- طالما أنك تنتقد فيما تكتب قيم الحياة الأمريكية وتبين مظاهر ضعفها وتداعيها ألا يكون الصدى أوسع والتأثير أكبر فيما لو فكرت أن تكتب باللغة الإنكليزية أو تترجم ما كتبت إلى الإنكليزية؟
بصراحة لا أستطيع أن أخفي استغرابي -بل و صدمتي !- من هذا السؤال كلما طرح علي .
إنني أنتقد قيم الحياة الأمريكية ليس لكي أعظ أمريكا أو الجاليات التي تعيش فيها، فهذا ليس شأني على الإطلاق، وهم لهم الحق في اختيار طريقة حياتهم وموتهم .. إنني ببساطة أنتقد القيم الأمريكية لأنها تتسرب الينا بطرق مختلفة ووسائل مختلفة، بعضها قسري بواسطة إعلام يمارس عملية غسل دماغ جماعية، وبعضها خفي بواسطة عملية أسلمة هذه القيم ووضع شعارات إسلامية عليها.. ليس هناك ما كتبته عن أمريكا إلا ويكون مندرجا في هذا: هل يعتقد أحد أن مقالاتي عن الشذوذ مثلا، كانت بعيدة عما يدور ويخطط له في مجتمعاتنا؟ هل مقالي عن ظاهرة ملك البوب الذي اختصر بموته كل مظاهر الضعف في الحياة الأمريكية، هل هذا يخص الأمريكيين وحدهم أم أنه يخص من يستوردون مظاهر الضعف هذه دون أن يمروا أصلا بمظاهر القوة..
أستغرب أيضا طرح موضوع الكتابة باللغة الإنكليزية، كما لو أن بإمكان أي كاتب أن يضغط على زر ما ليحول لغة الكتابة التي يكتب بها..كل لغة تملك فلسفتها الخاصة وقواعدها تعكس قيما معينة ومنهجية في التفكير قد لا تكون محسوسة للعيان لكنها متضمنة حتما في البنية الثقافية.. هناك بعض الكتاب يملكون القابلية على الإنتاج مزدوج اللغة لكنهم قلة وهذا النتاج يكون غالبا أكاديمي الطابع..
أكتب باللغة التي أفكر بها، وهي لغة القرآن، وهي اللغة التي يتحدث بها أكثر من ثلاثمائة مليون عربي، وإذا كان هناك من مشاكل تخص التواصل مع هؤلاء، فاللغة بالتأكيد لا علاقة لها بذلك..
كذلك أمر الترجمة : هل على الكاتب أن يسعى لترجمة أعماله؟ ألا يفترض أن يكون ذلك عمل شخص آخر أو مؤسسة أخرى؟
29- للتوضيح أقول: إن الدافع الكامن وراء هذا الطلب هو الرغبة الكبيرة في أن تتكشف الحقائق التي تقدمها عن أرض الأحلام إلى كل حالم في مشارق الأرض ومغاربها، وإلى أصحاب هذا الحلم المزيف أنفسهم الذين زينوا كابوس واقعهم بأنغام البوب وأضواء ناطحات السحاب وطعم الماكدونالد وصدروه لنا ليكون حلماً ممتعاً ننام عليه ونصحو عليه…. فمن حقك تحديد شريحتك المخاطبة ومن حقنا أن نتأمل ونتمنى أن تتسع هذه الشريحة وتكبر…. أليس كذلك؟
أكتب بالعربية و للعربية ، أحمل همّ أمتي وثوابتها وأحاصر نفسي بها مثل نقطة داخل دائرة، إن حدث وتسربت كلماتي إلى لغة أخرى أو إلى لغات أخرى فلا بأس (وقد حدث هذا فعلا بالمناسبة) لكن سيظل أبناء وطني وأمتي هم الهدف الأول، “العالمية” وَهْمٌ يتداوله نجوم الغناء و الطرب، وحري بنا أن نترفع عن هذه الأوهام ونركز على المشاكل الحقيقية التي تحول بيننا و بين القارئ،..
شخصيا أعتقد أني سأموت همّاً لو شهد أي من كتبي رواجاً بأية لغة أكثر من رواجه بلغته الأصلية.
30- هل ترى في جيل ألفيتنا الثالثة جيل “الأكشن والكول والتشات” بقية من سمات نرتكز عليها في نهضة نرتقبها ونحلم بها؟
جيلي سمي يوما بجيل الديسكو، والجيل الذي قبلي سمي بجيل الهيبيز والميني جوب، والجيل الذي قبله سمي بجيل الخنافس والروك أند رول.. لكن ذلك لم يمنع أن كل هذه الأجيال أنتجت أفرادا في منتهى الوعي والالتزام والنضج، وبعضهم كانوا مناضلين وشهداء..كما أن التداخل بين بعض هذه الأجيال وبين ما أطلق عليه أيضا اسم جيل الصحوة واضح جدا.. لذا لا أفضل التعميم على جيل بأسره خاصة أن هذا التعميم يقطع جسورا مهمة للتواصل والتأثير…
لا أنكر طبعا أن الأمور آخذة بالتدهور لكن هذه مسؤوليتنا نحن كمثقفين أولا وأخيرا..
فيما يخص “سمات ” الجيل الحالي أظن أن هذه السمات لا تقل ولا تزيد عن أي جيل آخر من الأجيال السابقة..
31- تقول: إن سمات جيلنا لا تقل ولا تزيد عن أي جيل آخر من الأجيال السابقة.. هل أفهم من كلامك أن التطور التقني والتكنولوجي ليس له أية تأثيرات إيجابية على وعي الجيل وازدياد معارفه وقدرته على الإلمام بالتجربة الحضارية للأمم بحيث يكون له قدم سبق تميزه عن الجيل الذي سبقه وتعينه على القيام بمهمة النهضة على نحو أيسر وأسهل؟
التطور التقني و التكنولوجي أنتج “ثورة معلومات”.. وثورة المعلومات بالتعريف تيسر الوصول إلى كم هائل من المعلومات، لكن علينا أن نميز الفرق الجوهري بين المعلومات من جهة وبين المعرفة والوعي من جهة أخرى، كما نميز الفرق بين الحقائق والحقيقة، فتراكم المعلومات لا يزيد الوعي أو العلم، إنه يزيد من استهلاك خلايا الذاكرة فحسب..!
الوعي والمعرفة يكون بمثابة بوصلة تلم وتشد هذه المعلومات وتنظمها في إطار الرؤية المتكاملة التي تأخذ فيها المعلومات حجمها الحقيقي..
بل في الحقيقة إني أعتقد أن زيادة حجم المعلومات لمن لا يملك البوصلة قد يكون مشوشا جدا ..
بعبارة أخرى: التطور التقني والتكنولوجي أنتج أشخاصا يمكنهم حل الكلمات المتقاطعة في الجريدة بسهولة أكبر، المشكلة أنهم غير قادرين على معرفة “كلمة السر ” أو الصورة الأكبر..
32- سأطرح عليك لو سمحت مفردات وأريد أن تقابلها بمفرادت أخرى أو عبارات مختصرة:
– النهضة: البديل الوحيد عن الانقراض
– القرآن: البوصلة
– أمريكا: روما صارت في كل مكان
– العولمة: المنتصر يأخذ كل شئ.
– بغداد: جرح مفتوح أحمله معي أينما ذهبت.
– دمشق: الملجأ.
– إبراهيم عليه السلام: المسلم الأول
– الصلاة: عماد النهضة
– عام 2009م: ألواح ودسر
– المستقبل: تكليف.
– التاريخ:مثل الجينات، نحمله معنا شئنا أم أبينا
– مالك بن نبي: إرث ضيعته النخبة
– غوانتنامو: ليست الأنظمة العربية وحدها تنتهك حقوق الإنسان!
– فلسطين: كل مشاكل الأمة في نموذج واحد.
– التطرف: الوجه الآخر من التمييع
– الإرهاب: طباخ السم يتذوقه، و العالم كله يتجرعه.
– المذاهب الأربعة: السعة بثوابت
– أدعياء التجديد: خيول طروادة!
33- دكتور في ختام هذا اللقاء اسمح لي بهذا السؤال:
جاء في بداية سلسلة كيمياء الصلاة قولك: “أضع نتاج الأشهر المضيئة تلك في قنينة زجاجية وأرمي بها في بحر الظلمات.. وكلي ثقة أنها ستعين بطريقة ما في الوصول إلى بر النور….” وبالفعل تم الإرسال كما تم الاستلام من هيئات وجهات ربما لم تتوقعها، فهل من رسالة أو رسائل جديدة تشحذ لها قلمك وتجند لأجلها دواتك وتستعد لإرسالها في بحر تراثنا الفكري والإنساني؟
بالتأكيد ، كما لو أن بإمكاني أصلا أن أتوقف عن الكتابة !..نسأل الله التيسير والتسديد والتوفيق..