2010/12/10
صالون غدي
الدكتور أحمد خيري العمري
يسرنا في مجلة غدي الشبابية أن نلتقي بكم في صالون غدي، لنسلط الضوء على تجربتكم ونفيد شبابنا وقراءنا من خبراتكم، فأهلا ً وسهلا بكم
1 – لو تحدّثون قراءنا عن نشأتكم الأسرية، وهل كان للأسرة دور في صقل شخصيتكم؟
نشأت في أسرة تنتمي للطبقة الوسطى العراقية، والدي رحمه الله كان قاضيا ومؤرخا وله عدة مؤلفات مهمة في تأريخ العراق الحديث. والدتي كانت ولا تزال مولعة بالثقافة والأدب. جدران البيت كانت مكتبات ضخمة، وبعد أن بدأت الحروب التي مررنا بها في العراق كانت والدتي تتندر أننا قد نموت مثل الجاحظ مدفونين بين الكتب إذا ما تعرض المنزل للقصف..
رغم ذلك، فهذه الظروف ليست هي المسؤولة حتما عن شخصيتي، إذ يحدث كثيرا أن ينشأ أشخاص في بيئة مشابهة، ولكن يتجهون اتجاها مختلفا تماما..أعتقد أن الأسرة هي عامل واحد من عوامل متعددة تلعب دورها في تكوين شخصية الإنسان، ومن ضمن ذلك مكونات فطرية نولد بها لكن تفاعل البيئة معها هو ما يوجهها نحو هذه الجهة أو تلك.
2 – يولد الكاتب في ظروف تختلف باختلاف الزمان والمكان، متى برزت لديكم موهبة الكتابة، وهل ساهمت الظروف الأليمة التي حلّت بالعراق في تنمية هذه التجربة؟
الكتابة برزت مبكرا في الصف الثاني الابتدائي ووجدت دعما وتشجيعا من والدتي أمد الله في عمرها ولولا ذلك التشجيع المبكر لربما اتخذت الأمور منحى آخر.
الظروف التي مرت بها العراق أسهمت حتما في كل إبداع عراقي في شتى المجالات،.. المبدع هو مثل المرآة التي تعكس ما يدور في مجتمعه ووطنه.. كل ما نمر به يؤثر بنا سلبا أو إيجابا.. فكيف بمحنة بحجم الهم العراقي؟؟..
3 – اتجهتم في الدراسة الجامعية إلى التخصص العلمي، وتحديداً الطب، فيما برزت مؤلفاتكم في الفكر والأدب، كيف جمعتم هذه الجوانب في قلم واحد؟ وكيف انعكس هذا الدمج على حياتكم العلمية والعملية، ثم أين يُصنّف / يرى الدكتور أحمد العمري نفسه بين هذه الجوانب الثلاث (الطب/العلم، الأدب، الفكر)؟..
في الحقيقة لم أر يوما أي تعارض أو تناقض بين الأمرين.. ربما يمكن للتناقض أن يبدو جلياً لأي مراقب خارجي، لكن عندما تكون في خضم الأمر فالموضوع مختلف جداً.. كان اختيار طب الأسنان شبه حتمي بالنسبة لبيئتي ومحيطي، ولكني لم أشعر يوما أنه يتعارض مع ميولي الفكرية، على العكس أشعر أنه خدمها كثيرا ولو بطريقة غير مباشرة، ليس فقط عبر الحصول السريع على احترام الناس (وهو ما لا يمكنني إنكاره) ولكن أيضا عبر وضعي في المحك مع الناس العاديين، الذين هم التغيير ووسيلته في آن واحد..
الكثير من التخصصات الأكاديمية تكون بعيدة عن هموم الناس وتطلعاتهم وقد تصب المفكر في قالب من البرج العاجي الذي ينتج لغة متعالية أو فكرا مبالغا في الاغتراب..”الطب” لا يسمح بهذا…إنه يضعك في موقع قريب من الناس ويحتم عليك الحديث بلغة مفهومة..والظهور كذلك بمظهر يفرض الاحترام.. وكل هذه أسهمت حتما ايجابيا في نتاجي “القلمي”..
4 – (أحمد خيري العمري «صانع الأنفاق»)، كتاب صدر عن دار الفكر – دمشق في سياق تكريمها لكم عن شخصية العام 2010، ماذا يعني هذا التكريم بالنسبة لكم، وماذا عن اسم الكتاب ومضمونه؟
التكريم كان حلقة أخرى من مسلسل الدعم الذي وفره لي الأستاذ عدنان سالم مدير دار الفكر. وهو يعني مسؤولية إضافية علي أن أكون عند مستواها .
العنوان مأخوذ من مقالة الدكتور محمد عباس التي ضمنها الكتاب.. والدكتور يحملني مسؤولية أخرى لا تقل عن مسؤولية التكريم. “صانع الأنفاق” هي عبارته الجميلة التي أعتز بها والتي يصف بها أسلوبي في الكتابة..
5 – هلاَّ عرَّفتم قراءنا باختصار بمضامين بعض مؤلفاتكم لا سيما تلك التي لها صلة بالشباب؟
لا أؤمن بالتصنيف العمري للقراء (لقرائي على الأقل!)، كل ما كتبته يصلح للشباب ولسواهم أيضا، ربما قد تكون بعض العناوين جذابة أكثر من غيرها.. لكن هذا غالبا ما يكون طُعما لكتب أخرى قد يكون حجمها مخيفا للبعض..
“البوصلة القرآنية”: كتابي الأول ومشروعي الأساسي، محاولة للبحث عن خارطة قيمية للنهضة في القرآن الكريم وبمعزل عن الفهم السائد الذي تكوَّنَ جزءٌ كبير منه في عصور الانحطاط..
“الفردوس المستعار”: هو محاولة لوضع تلك الخارطة على عالمنا المعاصر الذي تحتله القيم الأمريكية أكثر وأخطر مما تحتله الدبابات والبوارج..
“ليلة سقوط بغداد”: هو غوص حميم في جرح السقوط الأليم وأسبابه التاريخية .. إنه نوع من تصفية حسابات شخصية بيني وبين الحدث.. لو لم أكتب هذا الكتاب عن “السقوط”.. لظهرت التجربة في كل ما أكتبه !..
سلسلة “ضوء في المجرة”: هي سلسلة دعوية من ست أجزاء، كتبت بأسلوب حميم عن أمور تعودنا على تقديمها بأسلوب مختلف.. وهي الطعم الذي تحدثت عنه..
سلسلة “كيمياء الصلاة“: هي محاولة لفهم نهضوي للصلاة باعتبار أنها الدورة التدريبية التي ندخلها كل يوم لنكون أشخاصا أفضل..
“أبي أسمه إبراهيم”: و“ألواح ودسر”: محاولتان روائيتان لتقديم فكر إسلامي..
5ب -كيف يمكن لشبابنا الموهوبين الخروج من طور التجربة الناشئة إلى الممارسة العملية لصَنعة الكتابة؟
لست متأكدا من كون الكتابة “صنعة” كي يمكنني أن أنصح الشباب الموهوبين بهذا المجال. بل لعل نصيحتي الأساسية هي ألا يعدوا الكتابة صنعة! الكتابة أشبه بعملية “رهبنة” من نوع خاص لا يمكنك أن تتخلى عنه أو تتركه بمجرد ولوجك إليه..هذا على الأقل عندما تحمل “قضية” على أكتافك و تدخل هذا السلك..
6 – برزت فكرة النهضة بشكل واضح في كتاباتكم، كما كانت شعار موقعكم الإلكتروني (القرآن من أجل النهضة). بماذا تُعرّفون النهضة، وما رؤيتكم الشخصية لها؟ وهل تأثرتم فكرياً بأحد من مفكري العصر؟
لا أكتمك أني بدأت أشعر أن مفردة النهضة في طريقها إلى أن تصبح مثل الشعارات الثورية الرنانة التي خدعت أجيالاً تلو أجيال وجعلتها الخديعة لاحقاً ترفض حتى المضامين الصحيحة في تلك الشعارات..
هناك سوء استخدام واضح للمفردة، والبعض يخلط بينها وبين التنمية على نحو شديد الفجاجة (وإن كان بحسن نية!). .بعض الدعاة يعتقد أن النهضة هي ناطحة سحاب ومعدل تصنيع مرتفع.. ولا ينتبه إلى أن هذه المظاهر هي مجرد نتائج لنهضة سابقة قد تكون مرت على هذا المجتمع قبل قرنين من الزمان.. وأن هذا المجتمع قد خرج من طور النهضة منذ زمن بعيد إلى طور آخر ليس بالضرورة أن يكون نهضوياً ولسنا ملزمين أصلا بتتبع نتائجه..
النهضة تحتوي على ثلاثة عناصر أساسية:
العنصر الأول فكري: أعتقد أن له الأولوية على ما سواه والعنصر الثاني سياسي: يتضمن الدعم –على الأقل ، إن لم يكن تبنياً- لفكر النهضة ، والعنصر الثالث رأس مال يستثمر في فكر النهضة برجاء أرباح مؤجلة وذات طابع مختلف..
شخصياً أعتقد أننا لا نزال في طور تكوين العنصر الأول.. ولا يزال الدرب طويلا..
تعريف النهضة كما أفهمه هو “قيام” أمة ما بدورها الذي يتحدد من خلاله هويتها ووجودها.. هل دورنا هو أن نكون مستهلكين؟ تابعين؟ هل دورنا هو أن نعيش في بلدان صارت تبدو مجرد “محميات استهلاكية”؟..هل دورنا هو أن نتطور ونتقدم لنصدر بضائع استهلاكية كانت الحياة تمشي دونها لآلاف السنين دون كبير مشكلة؟..
نعرف جيدا ما هو دورنا في هذه الأرض.
النهضة هي باختصار أن ننهض من واقع السبات لنباشر بما خلقنا من أجله.. وإذا كان هناك أحد يجهل عمَّ أتحدث فليراجع سورة البقرة ، الآية 30.
7 – ما هو تفسيركم لمصطلح (التجديد)، وما مدى حاجة الأمة إليه؟
التجديد كما أفهمه هو: التنقيب في النص الديني لتشخيص ما يعانيه العصر من أمراض وبالتالي بما يمكِن من علاج لهذه الأمراض.. وهو يفرق كثيرا وجذريا عن ما يقدمه أدعياء التجديد الذين يبحثون في جزئيات هنا وهناك لغرض تمرير الفكر التغريبي…
حاجة الأمة إلى التجديد بقدر حاجة أي منا للأوكسجين..و ليس أقل من ذلك!
8 – كيف تُشخّصون دراستكم لما يسمى بالحضارة الغربية، وما الحلول المتاحة والمرجوة لإنقاذ شبابنا من براثن قيمها السلبية المُفسدة لهم والمشوّهة لقيمنا؟
الحضارة الغربية نتاج معقد جدا لتجارب تاريخية متراكبة وسيكون من الظلم جدا تلخصيها بعجالة. للغرب إيجابياته بلا شك، لكن يداخلني شك كبير في كل من يتحدث عن هذه الإيجابيات دون أن يوضح جذورها ودون أن يذكر سلبياتها التي لا أعتقد شخصيا أنها تقل عن إيجابياته في بعض المجالات..
في النهاية الأمر المهم هو أن يكون لدينا مقياس قرآني واضح نقيم من خلاله نتاج هذه الحضارة و ثوابتها و أركانها..
بالنسبة للشباب ، لا أزال أؤمن شخصياً بقدرة هذا الدين العظيم على منحهم الحصانة والمناعة اللازمة لجعل علاقة الشباب بالغرب علاقة صحية بالمقياس القرآني للأمور..
لكن ذلك حتما هو مجرد “حصانة”، ما هو أكثر أهمية أن نقدم بديلاً حقيقياً -مستمدا من هذا الدين- عن النموذج الحضاري الغربي.. الغرب لم يكن قوياً فقط بإطاره النظري، بل لقد قدم نموذجاً عملياً براقاً وجذاباً.. لذا فالتنظير المضاد فوائده محدودة على المدى البعيد، والأهم هو تقديم تجربة عملية واقعية تضع النظرية على محك التطبيق…
9-يعتبر الانتماء العقدي والفكري هو العنصر الأهم في تكوين الذات بغض النظر عن الزمان والمكان..لماذا تعلو اليوم أصوات تقزم هذا الانتماء ليكون جغرافيا مصلحيا فحسب بينما يوسم المنتمي إلى عقيدته بالتعصب و الانغلاق؟
لماذا تجتاح العالم أصوات كهذه؟
لأنها تعبر عن “عقيدة” جديدة تعتبر الانتماء المصلحي هو الأصل وهو الأولى بالإيمان والاعتناق..أي أن هذه الأصوات تمارس الشيء ذاته من الترويج لعقيدة ما و لكن بتبني عقيدة أخرى..ولأن “الذات” التي يروجون لها هي “ذات” مختلفة تماما عن معناها المتكون عبر الانتماء إلى عقيدة وثوابت أمة ما..هذه الذات الجديدة لا هوية محلية لها بل هي هوية عولمية الطابع عولمية الثقافة…وهي مجيرة حتما لصالح شركات الملأ العابر للقارات التي تستفيد من هوية كهذه..
10-
هل هناك علاقة بين مفهوم الهوية و عنصر القوة بإبعادها السياسية والاقتصادية و العسكرية والثقافية ؟
بالتأكيد، هناك علاقة بين ما ذكرت لكن الأساس هو للعامل الثقافي الذي أراه هو الأهم والمولد لكل العلاقات الأخرى..لقد هزم المسلمون على يد المغول مثلا لأسباب كثيرة،لكن قوة ثقافتهم و علوها آنذاك جعلت المغول يذوبون في الثقافة الإسلامية..بينما ألأمر ليس مماثلا في حالات هزيمة معاصرة لم يكن انكسارنا فيها انكسارا عسكريا فحسب بل كان استلابا للهوية و لكل مكونات الثقافة..كان سقوط بغداد على يد المغول محض سقوط سياسي للقيادات آنذاك،لذا فإن الثقافة الاسلامية –وأعني بها الفكر الجمعي السائد- ما لبثت أن تمكنت من الانتصار رغم فداحة ما منيت به من خسائر..أما سقوطنا اليوم فهو مختلف و لعله يمثل إعلانا عن تدهور ثقافي مروع عن كل ثوابتنا ،وهو التدهور الذي أوصلنا لكل ما وصلنا له..
لا شك إن للقوة العسكرية المباشرة إبهارها و تأثيرها و لكن هذا النوع من التأثير يكون على الأغلب عابرا فيما لو كانت الهوية الثقافية متينة و ممكنة وقادرة على الاستجابة للتحديات..
11– تصديتم للرد على من يسمون أنفسهم (القرآنيين) أو من تسميهم بـ (اللاقرآنيين)، ما مدى خطرهم على الأمة وشبابها، وما هي الوسائل الأفضل في التعامل معهم؟
اللا قرآنيون هم مجرد نموذج من أدعياء التجديد، ولعلهم ليسوا الأخطر، إذ أن لغتهم البذيئة مع السنة النبوية والحديث الشريف تجعل كل من هو سويّ يعف عن إتباعهم.. لكنهم بالمقابل-و عبر التشكيك بالسنة النبوية- يقدمون ثمارهم الخبيثة لأدعياء تجديد آخرين – ليسوا من اللا قرآنيين- لكنهم يقومون بعملية انتقاء كيفية للحديث بناء على معايير تشي بالمنظومة الغربية التي يتبنونها..
الوسيلة الأفضل ليست فقط في فضحهم والتوعية بتناقضاتهم بل أيضا في الإصرار على طريق التجديد الحقيقي-غير الجمود وغير طريق أدعياء التجديد- الذي هو التجديد الملتزم بثوابت الأمة وبضرورة نهضتها وبالذات عدم التناقض والاصطدام مع أي نص ديني ثابت..
12– لا شك أن عوامل عدة تساهم في نجاح الإنسان، ما الفرص والظروف التي ساهمت في نجاحكم؟ وماذا تقولون لشباب الأمة اليوم الذي يرزح تحت ظروف قاسية على كل المستويات، وبمَ تعدونهم؟
الرد على هذا السؤال سيعني ضمنا إني أقر بنجاحي، وهو فخ لا أحب الوقوع فيه، إذ أنه سيعني أني قد قدمت ما أبغي تقديمه وحققت أهدافي وهو أمر لا يزال بعيدا تمام البعد..
هذا لا يتناقض طبعا مع إقراري الأكيد بوجود نجاحات مرحلية ونسبية حققتها بتوفيق الله وحمده.
أؤمن أن الجهد والدأب والتمسك ببوصلة قيمية واضحة هي العوامل الأساسية لأي نجاح.. أؤمن أيضا أن التوفيق الإلهي يتوج الجهد البشري ويمنحه بعدا آخر.. بالنسبة لي تمثل التوفيق في أشكال عديدة من أهمها في أشخاص سهلوا الدرب وعبّدوه، وقدموا الدعم والإسناد المعنوي لكاتب ناشئ من دون سابق معرفة.. دون هؤلاء كان الدرب سيكون أكثر صعوبة بلا شك..
بخصوص الظروف القاسية، أعتقد أن الظروف القاسية أمر طبيعي جدا وجزءٌ لا يتجزأ من “أبجدية الحياة”..، ولكن المهم هو أن لا تكون هذه الظروف أكبر من قدرتنا على التحمل…
أكثر من ذلك: أعتقد أن هذه الظروف القاسية هي المبرر والحافز الأساسي الذي يجب استثماره من أجل التغيير.. “الظروف القاسية على كل المستويات” هي البيئة المناسبة والرحم المثالي الذي يمكن من خلاله بذر فكرة التغيير ومشروعه في عقول الناس وأفكارهم.. السؤال هو أي تغيير؟..و لأي اتجاه؟.. هل لتغيير سطحي نكون فيه مجرد عبيد تابعين لروما الجديدة بينما نجهل عبوديتنا لها ..؟..أم لتغيير عميق نابع من ثوابت الأمة وقيمها…؟
مجلة غدي الشابية تشكر لكم تكرمكم بالإجابة على أسئلتنا، ومتمنية لكم دوام التألق والنجاح والتوفيق من الله تعالى.