د.أحمد خيري العمري
سبتمبر 2010
هو الوداع إذن..
أكاد استشعر النهاية..بل أكاد استشعر القيود وهي تفك عن الشياطين..و أرى جليا كيف يؤثر ذلك على سلوكنا..على الأقل مجرد إيماننا بذلك يؤثر سلبا علينا..على توقعاتنا من أنفسنا..
يرحل رمضان و نحن لا نعرف حقا مكاسبنا منه..لا ندرك إن كنا قد اعتقنا..أم إننا لا نزال ننتظر دورنا..دورنا الذي قد لا يأتي أبدا..
كل ما يبقى من رمضان هو حسرة أيام جميلة و حميمة..”متاع قليل من حبيب مفارق“..نفارقه على أمل لقاء قادم، وأمل آخر أن نكون قد استفدنا من تجربتنا فيه ،أن نكون قد مررنا بدورة تدريبية لكي نصبح أفضل..
في ليل الوداع أتأمل ذكريات رمضان كما لو كانت تذكارات من زمن جميل بعيد،كما لو كانت كل ما بقي من علاقة حب لم تعكرها معصية و لم يكدرها “واقع معاش”..تذكارات رمضانية خاصة لا يمكن أن تستحضر في غير رمضان : لمة الإفطار ،..التراويح، البشر المقبلون على الله أفواجا، ..القيام جماعة في المسجد ،و الناس يتركون أسرتهم في منتصف الليل..حرقة الدعاء..كلها “متاع قليل من حبيب مفارق”…كلها متع من نوع مختلف تفتح لنا أبعادا أخرى من الحياة غير الدنيا ، (أقول ذلك بالرغم من أن “كِن جنوا” و “جنون التسوق” تحاول إفساد ذلك و تعكيره)..
انه درس آخر من دروس رمضان : كل شيء “جميل” في الحياة ، لا بد أن يحول عليه حول و ينتهي..وكل ما نملكه إزاء هذا هو التمسك بمحاولة جعلها أفضل ريثما تنتهي..
نعم ، متاع قليل من حبيب مفارق..،لكنه متاع مهم و مثمر عندما نخرجه من خانة الذكريات و إطارها الزجاجي..عندما نحاول استثماره على الوجه الصحيح في الأشهر المتبقية من السنة..
متاع قليل و لكنه أكثر مما نحتاج ، أو فلنقل إنه بالضبط بقدر ما نحتاج بالنظر إلى كرم العاطي و طمع المعطى إليه…المهم هو وضع هذه التجربة في إطار الاستثمار و إعادة الإنتاج..لا في انتظار تكرارها عام تلو آخر دون أن تترك أثرها- الذي كان سبب تشريعها أصلا- على مجمل حياتنا ، شهر تلو آخر و عام تلو آخر..
نعم ، متاع قليل ، و من حبيب مفارق..و بعضنا قد يفارقه فلا يلاقيه مجددا..لكن ذلك لا يجب أن يكون سببا للتعلق بالذكريات و التذكارات..بل في العمل على أن نترك أثرا..نترك ما يكون تذكارا لغيرنا ..علامة على الطريق لما هو أفضل..
*************
قبل رمضان بأيام ،أتصل بي الأخ أحمد خليل ، الأسكندراني الجميل الذي تحول من قارئ عزيز أعتز به إلى صديق قريب أستشيره في الكثير من الأمور.. ( أشفق على ميزانية بيته من فواتير مكالماته الدولية لي)..قال لي بلهجته المحببة “بالله عليك يا دكتور عاوزين أفكار جديدة لرمضان!”..
حمّلني أحمد حملا فوق حملي ، لكني فكرت طويلا فيما قال..أولا للتملص من الحمل بأي حجة! ، و ثانيا لأن ما قاله أثر في بطريقة ربما لم يدركها..تخيلوا إن رمضان لا يزال منتجا و مثمرا و ولآدا بعد كل هذه القرون..تخيلوا أننا لا نزال ننقب فيه و لا يزال يعطينا..
لست واثقا إن هذه الرمضانيات كانت بالضبط ما يريده أحمد..و لم أكن انوي أن تكون كذلك..لكني كلي ثقة إن هذا الشهر سيظل يرفدنا بمعان طالما بحثنا عنها فيه..و الأهم أن نستطيع “تحقيق المعاني” و إسقاطها على أرض الواقع..
*************
..أتمنى للكل عاما جديدا قد استفاد من تجربة رمضان..و اعتذر ممن كان يجب أن أذكره بقلمي و قصرت في ذلك..اعتذر بلا عذر حقيقة، سوى إن المصائب عندنا تتنوع و تختلف أشكالها (فيضانات و سيول ، احتلال ، استبداد ..الخ) لكن جذور كل ذلك تلتقي في مرض واحد متعدد الأعراض..و علاجه يبقى في نهضة لا يمكن أن تقوم إلا بالقرآن..
أقدم أيضا “لا اعتذار ” لكل من أزعجته في رمضان عبر مقالات “اللا قرآنيون”..لم أقصد الإزعاج قطعا لكنه لم يسوؤني أيضا..للأسف ، تمسكي بما أراه صوابا أهم عندي من محبة الناس وقبولهم ..
يتبع إن شاء الله، بطريقة ما …مختلفة هذه المرة..