مارس 2012
“إذا مات والدك، ندفنه في الحديقة..”
قالت لي والدتي، بعد صمت قصير..
كنا نتدارس احتياجاتنا واستعداداتنا للحرب.. بالذات استعدادات الطوارئ، طعام الطوارئ، “كمامات” الطوارئ، وقود الطوارئ.. أدوية الطوارئ..
ووصلنا تدريجياً إلى ما كان الأمر سيقودنا إليه.. الموت..
كان والدي قد تدهورت صحته بشكل كبير في السنوات الأخيرة، بحيث إن خروجه من البيت صار أمراً غير وارد على الإطلاق، حتى ولو كان سبب الخروج الذهاب إلى الطبيب مثلاً، ناهيك عن أن يكون الخروج خروجاً حقيقياً من المكان الذي توافرت له بالتراكم وسائل الراحة التي تناسب وضعه الصحي..
وكان موضوع وفاته أمراً محتملاً منذ أكثر من عشرين سنة، أي منذ أن خضع لجراحة دماغية بنسب نجاح ضئيلة، لكن هذه الاحتمالات زادت طبعاً مع الوقت، خاصة أنه كان قد وصل إلى أواخر عقده الثامن..
قالت أمي جملتها بعد صمت قصير.. وتلى جملتها صمت أيضاً.. لكنه صمت مختلف.. كصمت القبور..لا. ليس كصمت القبور.. بل أكثر رهبة.. بالضبط أكثر رعباً.. صمت القبور هو وضعها الطبيعي.. أما صمت تلك الجملة فقد كان يشبه صمت المعتقلين واستسلامهم لحظة الاعتقال..
ها أنت تصل باستعدادك للحرب إلى تلك الجملة.. وبدلاً من أن تخطط لتجديد حشيش الحديقة، أو زراعة صف من الزهور، أو جلب فسيلة نخل جديدة، ها أنت تقرر أنك قد تدفن والدك في الحديقة..!
بدلاً من أن تهيئ حديقة المنزل لتكون ملعباً أفضل لأولادك، ها أنت تخطط لكي تكون مقبرة تضم رفات جدهم، لأن نقله إلى المقبرة سيكون “مخاطرة كبيرة”..
لم أرد.. فقط هززت برأسي موافقاً.. بينما كنت أحاول التذكر في رأسي أين وضعت أدوات الحفر..
وكنت أفكر إن كنت سأجد من سيساعدني في ذلك.. في حالة حدوثه..
الحرب بعيداً عن كل ما يقال في الأخبار ..تجعلنا في مواجهة احتمالات كهذه.. على الرغم من قسوتها..
* * *
بالنسبة إلي، أفتتح عقد الثمانينات من القرن المنصرم بسقوط والدي مشلولاً.. وكنت تقريباً في العاشرة من العمر..
عُدَّ ذلك وقتها نكبة عائلية كبيرة، خاصة لوالدتي، التي امتحنت في إدارة الأمر كله، بين تمريض والدي الذي لم يشف قط، وبين الإشراف على الأسرة التي كانت تضم أعماراً صعبة.. لم يكن والدي قد “شل” بمعنى الحركة بالضبط، وإن كانت حركته قد أعيقت نسبياً، لكن الضرر البالغ كان قد لحق بقدرته على النطق، وهو أمر كان بلا شك أصعب وأشد وطأة على رجل مثل والدي، العضو الدائم في المجالس والمنتديات والندوات الثقافية، وكان الكلام بالنسبة له يعني أكثر من مجرد الكلام، كما أن الضرر لم يقتصر على القدرة اللسانية على النطق، أي على التعبير بالصوت، بل على القدرة على التعبير نفسها، ولهذا فإن والدي الذي كانت له مؤلفات مطبوعة مهمة وأخرى كانت قيد الطباعة وأخرى قيد الكتابة( والذي كان بالمناسبة يتميز بأسلوب سلس وممتع دون أن يسقط في الاسترسال الذي أنا فريسة مزمنة له!) لم يفقد القدرة على النطق فحسب، بل على الكتابة أيضاً.. وهذا أمر جعله عملياً “رهين المحبسين” .. أو حتى المحابس الثلاثة..
وتجاوز الأمر ذلك كله، مع نوبات الصرع التي صارت تأتيه، نتيجة للتداخل الجراحي الذي أنقذ حياته، وهي نوبات كانت من الحدة أو الخطورة بحيث إنها قيدت حركته المحددة أصلاً، ذلك أن النوبة كانت تأتيه بلا مقدمات، وكانت تطرحه أرضاً، وكثيراً ما كانت تكسر نظارتيه في عينيه، وفي مرة في السنين الأخيرة، تسببت واحدة من النوبات في كسر حوضه..
كان ذلك كله كثير جداً عليه بالدرجة الأولى، وعلى الجميع أيضاً. باختصار عندما تكون في العاشرة، وترى والدك مصروعاً على الأرض، وقد كان قبلها بأشهر فقط شخصاً موفور الصحة بوظيفة مرموقة، فإن عليك أن تجاهد، أن تصارع، مع نفسك، لتنجو من أثر ذلك على نفسك..هذا إن نجوت أصلاً!
* * *
بعيداً عن الألم الشخصي للتجربة بأسرها، صرت الآن أفهم مرض والدي بدلالاته الرمزية..
ما كان يمكن لمرض ما أن يعبر عما جرى للمثقفين، بالذات للتيار الذي انتمى له والدي، كما عبَّر عنه المرض الذي أفقده النطق..
كان والدي ابناً مخلصاً للطبقة الوسطى التي أنتجته، وكان والده – الذي كان رئيساً لأركان الجيش العراقي في فترة ما – من أولئك الذين فهموا الوظيفة على أنها تكليف حقيقي، فكان يعيش في المعسكر – وليس في قصر ما – وكان على جميع أولاده وبناته أن ينهضوا مع بوق الصباح كل فجر، كما ينهض الجنود.. ورافقهم ذلك طيلة حياتهم، كما رافقهم الانضباط والجدية..
انتمى والدي لاحقاً إلى تيار سياسي استقطب مثقفي جيله من أبناء الطبقة الوسطى، تيار صريح العلمانية دون أن ينجر إلى الهجوم على الدين، اشتراكي الميول دون أن ينجر إلى الشيوعية..
كان ببساطة تيار المثقفين “البورجوازيين”، إن شئتم.. ولست بصدد الدفاع عن حزب سياسي انقرض تماماً اليوم، ولا عن البورجوازية وقيمها، لكني أحب أن أشيد هنا بشيء ربما لا يرتبط بالحزب أو بالتيار، بل بالخلفية العامة التي أمكن لهذا التيار أن ينشأ وينمو فيها، وأقصد تلك الخلفية “المدنية” بطبعها، التي جعلت من والدي ومن سواه قادرين على الانتماء إلى فكر معين، لكن دون أن يجعلهم انتماؤهم هذا “يقطع” علاقتهم بالآخرين.. دون أن يجعل التعايش مع الأفكار الأخرى عملية مرفوضة..
كان التعايش صفة “مدنية” بالتأكيد، فالمدن الكبرى وعبر التاريخ تقوم على التعايش، تصبغ سكانها، أو بالأحرى أولئك الذين يتجذرون في تربة المدينة، بصفة التعايش والقبول للآخر، حتى لو كان هذا الآخر يملك عقيدة مخالفة ومناقضة تماماً لما تؤمن به..
المدن تحتضن الجميع، والجميع يتسرب فيهم ذلك بالتدريج..
كان هذا التيار مدنياً بالتعريف، لذلك كانت معارضته السياسية معارضة تنتمي لثقافة المدنية، مقالات في الصحف، اجتماعات، اعتصامات، إضرابات، خطب.. إلخ.
لم يكن من “المفكَّر فيه” أن يقوم هذا التيار بانقلاب عسكري لإقصاء أعدائه، واحتكار السلطة.. لا لعجز عن امتلاك الأدوات، ولكن لأن ذلك سيكون خارج “السياق” المدني.. الذي أنتج التيار أصلاً..
أما التيارات الأخرى التي ازدهرت في “غير المدن”، أو مدن صغيرة لا تمتلك صفة التعايش لأنها لا تملك غير نوع واحد من السكان، ينتمون غالباً لعشيرة واحدة أو طائفة واحدة.. وبالكاد رأوا الآخر وتعرَّفوا عليه لكي يتجاوزوا التعارف إلى التعايش.. التيارات الأخرى، التي وجدت في الريف، وفي وارد الريف، تربتها الخصبة ما كان يمكن لها إلا أن تنحو المنحى الذي اتخذته لاحقاً..
ما كان يمكن لتلك التيارات إلا أن تفعل ما فعلته الدبابة، الإذاعة، البيان رقم واحد.. وربما المشانق..
* * *
من أمثلة التعايش التي لا يمكنني شخصياً أن أتجاوزها أن والدي أعد في العهد الجمهوري الأول محضر دفاع عن مناضلة معروفة كانت تحاكم في محكمة” الشعب” التي كانت تبث على الهواء مباشرة آنذاك، وكانت المتهمة المنتمية لحزب معروف وأخوها أيضاً يحاكمان بتهمة التأمر على السلطة، وهي تهمة لا أشك أنها صحيحة، بفارق أن السلطة كانت تتأمر عليهما أيضاً، و أن الدبابة التي جاءت عبرها السلطة لا تمنح شرعية لأحد..
كانت “يسرى” – وهذا هو اسمها – تمتلك من الصلابة وقوة الشخصية ما يجعلها تقف أمام المحكمة دون الحاجة إلى محامٍ، ولكنها كانت تحتاج إلى شخص يرتب لها دفاعها بشكل قانوني.. مدعماً بالمواد والقوانين والأرقام.. إلخ..
لم يكن والدي ينتمي إلى ذات الحزب.. وكانت له “رأي” يستصغر هذا الحزب منذ البداية المبكرة، لكن ذلك لم يمنعه من “إعداد” دفاع “يسرى” ..
لم يقل: “إلى جهنم..”، لم يقل: “بأسهم بينهم شديد”، باعتبار أنه لم يكن مع السلطة ولا معهم.. على السطح ستبدو تلك مجرد شهامة، مجرد “حقوقي” شهم أسدى خدمة لأمرأة في حاجة إلى مساعدة، لكن الأمر أعمق من ذلك، إنها القدرة على التعايش مع مختلف الاختلافات الفكرية دون النزوع إلى القطيعة، كان ذلك واضحاً جداً، في حضوره منتديات يحضرها الجميع، وفي علاقات مميزة جمعته بالجميع..
لم يكن التيار الديني ظاهراً في تلك الفترة بطبيعة الحال، لكني أقول عن تجربة: أنه على الرغم من علمنته الصريحة، وعلى الرغم من “بعده” عن التيار الديني، إلا أنه كان يمكن أن “يتعايش”..
بعد كل شيء، كان هو الذي ابتاع تذكرة فلم الرسالة، الذي كان نقطة التحول في حياتي.. وكل الكتب الدينية التي كنت قرأتها مبكراً، قبل أن يسقطه المرض، كان قد ابتاعها، عملياً، هو دون أن يحاول منعي، ودون أن يكون قد حصل كبير تحول في موقفه الشخصي..
لم يكن ذلك عدم اكتراث، أو لا مبالاة، بل كان تلك القدرة المدنية الأصيلة على التعايش..
وهي قدرة فقدتها المدينة، وفقدها المجتمع بالتدريج.. وهو الأمر الذي جعل من والدي ومن أمثاله يفقدون موقعهم بالتدريج.. يصابون بالشلل..
معنوياً، كما أصيبت الطبقة كلها..
وحرفياً، كما أصاب والدي..
* * *
تؤرخ يوميات والدي لكل تلك التحولات التي أصابت تلك الطبقة، عبر تغير أسلوبه في الكتابة عن السلطة..
كان والدي قد انكب بدأب على كتابة يومياته، منذ أواخر الأربعينات من القرن الماضي، وكان وقتها لا يزال طالباً في الكلية، ويومياته لتلك الفترة تكشفه لاعباً محترفاً لكرة القدم، بل وحكماً فيها، على العكس من ابنه الذي كان دوماً “خيبة” كبيرة في هذه الأمور، كان والدي يكتب عن السلطة في العهد الملكي كما يشاء في يومياته، كان في الحقيقة يكتب ما يشاء على صفحات الجرائد، لذلك ومن باب أولى كان يكتب ما يشاء في يومياته..
مع العهد الجمهوري الأول لا يمكن أن تلاحظ تغييراً ما في اليوميات، كان لا يزال يكتب كما يشاء، دون خوف من رجل أمن سيأتي ليبحث في أوراقه، لكن التغير الذي حدث أنه لم يعد يكتب كما يشاء في الصحف، بل صار يكتب بأسماء مستعارة.. تارة باسم مستعار ثابت، وتارة بأسماء مستعارة عابرة.. وكان ذلك له دلالة لا تخفى..
في العهد الجمهوري الثاني استمرت يومياته كما هي، لكنه انقطع تماماً عن الكتابة للصحف، على الأقل لم تعد كتاباته تتناول الشأن العام، بل تتناول التاريخ القريب، باعتباره “ميت ودفناه”، وباعتبار أن العهد الجمهوري قد طوى تلك الصفحة إلى الأبد، ولم يعد هناك كبير مشكلة في الخوض في هذا التاريخ، طالما لم تمس الواقع المعاصر..على الأقل هكذا راهن والدي على قلة وعي العسكر الذي تسلموا السلطة ..
ولكن يومياته بما احتوت من “حديث المجالس” وأحياناً نكات عن السلطة ورموزها عدا عن الشائعات المتداولة، يومياته تلك، لم تكن تعكس خوفه المباشر من “زائر فجر” يصادر أوراقه..
مع العهد الجمهوري الثالث، بالذات في السبعينات، تغير كل ذلك، وصارت هناك أسماء مشفرة ترمز لهذا الشخص وذاك، على قمة السلطة وأجهزتها الأمنية، وكانت هناك أيضاً أشياء كتبها، ثم ارتأى أنها أخطر مما يجب، فحذفها بالحبر الغامق حتى أصبح لم يعد ممكنا قراءتها..وكانت هناك ثغرات واضحة فيما كتب، كما لو أنه يبدأ موضوعاً، ثم يقرر أن زائر الفجر – الذي أصبح متوقعاً أكثر من أي وقت مضى – لن يعجبه هذا.. كثرت الصفحات البيضاء.. كما لو أنه أصبح أقل فأقل إيمانا بجدوى الكتابة.. حتى ولو كانت فقط من أجل التنفيس أو الأرشفة..
كان من الواضح أن الوضع قد سرق منه صوته.. سرق منه قدرته على النطق والكتابة، قبل أن يقعده المرض عنهما..
كان الشلل الذي أصابه استعارة فسلجية للشلل الذي أصاب ذلك التيار المثقف، الذي كان انتماؤه المدني أقوى وأهم صفاته.
* * *
وفي حيثيات المرض وأسبابه غير المباشرة تفاصيل أكثر ذات دلالة..
كان والدي، كما هو واضح من يومياته، لا يكترث في اعتراضاته القانونية على ما كان بدأ يصدر من قرارات “مجلس قيادة الثورة”، كان والدي ينتمي لجيل نشأ في ظل ظروف، كانت الانتقادات يمكنها أن تسقط وزارة.. لذلك، كان وهو يحسب أنه يمارس واجبه، ينتقد الثغرات التي كانت تتكشف هنا وهناك، من قوانين كان يصدرها مجلس لا علاقة له، ولو من بعيد، بالقضاء.. كان أكثر من هذا يصحح “الأخطاء اللغوية” التي كانت ترشح من تلك القرارات، التي لم يكن مقرروها يمتلكون علاقة باللغة العربية، إلا بقدر ما يمتلكون علاقة بشعارات القومية التي ادّعوها..
وكان ذلك كله، مع أسباب شخصية أخرى، يغيظ “الوزير” – المزمن كعادة وزراء تلك الحقبة – ولأن غيظ الوزراء لا يشبه غيظ الناس العاديين من أولئك الذين يبتلعون غيظهم ويكتفون بمحاولة إثارة غيظ من أغاظهم.. فقد عمد إلى نقل والدي من ديوان الوزارة إلى محافظة أخرى، وفي محكمة “جنائية” تعد عادة أقل درجة من كل المراكز التي تبوأها في مسيرته المهنية..
لم يكن الأمر فقط اضطراره اليومي إلى الذهاب إلى مركز تلك المحافظة، حيث يبدأ صغار القضاة حياتهم المهنية عادة، ولم يكن الأمر مرتبطاً بالإهانة المباشرة التي لحقت به جراء عملية النقل، ولكن تراكب ذلك مع أول حكم إعدام كان عليه أن يوقعه في حياته المهنية..
ظل يؤجل ذلك.. مرة تلو أخرى.. لا أعرف حقاً إن كان يشك في صواب القرار، أو في استحقاق المتهم له.. أو في شكه في واحدة من الأدلة التي أدت إلى القرار..
كل ذلك، بكل ثقله العام والخاص، شكل تلك الجلطة.. التي لم تكن مجرد نزيفاً دموياً في دماغ والدي..
كانت صراعاً ثقافياً، بالأحرى سياقاً لثقافة قوامها القمع والإقصاء والانتقام، سيطرت على المدينة وجاءت من خارجها، وأبعدت ثقافة المدينة الأصلية.. هجرتها.. وجعلتها تبدو كما لو أنها ثقافة عهد بائد..
واتخذ ذلك كله، شكل تلك الجلطة الدماغية.. التي غيرت حياتنا إلى الأبد..
* * *
يمكن طبعاً أن تنصب هنا “مناحة” الاضطهاد التي تعرضت لها عائلتي على أيدي أزلام النظام السابق.. فذلك هو هاجس الجميع على ما يبدو، حتى أولئك الذين استفادوا وأثروا من النظام في فترة من الفترات..
كان يمكن أن أبرهن خلال هذا السياق على أن طائفة والدي اضطهدت أيضاً في العهد السابق، كما صار هذا ديدن الجميع.. في ذلك التراشق الطائفي المحموم الذي صار ميزة من ميزات عهد ما بعد الاحتلال..
صرت أسمع بعض مناحات الاضطهاد من أشخاص عرفت مدى استفادتهم بالإيفادات إلى خارج القطر، بقطع الأراضي، وأمور حصلوا عليها عبر انتمائهم “للحزب” ..”مع مؤهلات كمؤهلاتي كان يجب أن أصير وزيراً.. لكني ” شيعي “، ولذلك لم أنل الوزارة” ، الآخر تواضع في قوله واستبدل الوزارة بالسفارة، وقال: إنه كان يمكن أن يصبح سفيراً لولا أنه “شيعي .. ” !!..
وهكذا، صار عدم الحصول على منصب الوزير اضطهاداً في الرؤية الطائفية الضيقة التي تفسر كل الأمور حسب هذا المنظار..
مع والدي، ومع ما تعرض له، كان الأمر أبعد بكثير من الطائفة، كان الأمر أكبر بكثير من ذلك، كانت قيم المدينة في صراعها اليائس ضد قيم “غير المدينة”..
كان الوزير، إن كان الأمر يهم، من طائفة والدي نفسها، وهو أمر لم يؤثر في حسن تعامله معه، كما أن حرم “الوزير” كانت ترتبط بقرابة بعيدة مع والدي.. وكان لوالدي أصدقاء مقربين جداً في الوزارة، ينتمون إلى الطائفة الأخرى، واستمروا بالترقي في المناصب، ولم يمنعهم انتماءهم الطائفي من ذلك.. كل ما في الأمر أنهم كانوا أكثر مرونة مع الثقافة الوافدة..
ولا يمكن لوم واحد منهم أنه لم يصب بجلطة دماغية!..
* * *
قالت لي والدتي إذن، في ذلك المساء الشتوي، ونحن نناقش استعداداتنا للحرب: إننا سندفن والدي في الحديقة، فيما لو مات في أثناء الحرب..
كان ذلك مرة أخرى رمزاً معبراً عما آل إليه كل ما كان يمثله والدي.. أن يموت في الحرب، ويدفن خلسة، بالحد الأدنى من المراسيم..
على الأقل، كان ذلك احتمالاً وارداً..
لكنه لم يحدث..
* * *
لم يمت والدي خلال الحرب.. بل بعدها ببضعة أشهر فقط.. كما لو أنه كان عليه وعلى كل ما انتمى إليه أن يشاهد بأم عينيه السقوط بتفاصيله..
كما لو أنه كان عليه أن يشهد سقوط “المدينة”، بعدما عانى، ودفع ثمناً باهظاً لهزيمة “المدنية”..
كان بث سقوط بغداد قد استغرق بالبث المباشر بضعة ساعات لا أكثر..
أما حكاية السقوط الحقيقية فقد استغرقت حياة كاملة بالمعاناة المباشرة.