د.أحمد خيري العمري
أبريل 2011
(في التاسع من نيسان 2003، مثل هذا اليوم قبل ثمان سنوات، سقطت بغداد بأيدي المحتل الأمريكي..ونقل سقوطها بالبث المباشر إلى العالم أجمع..هذا المقطع منقول من كتاب “ليلة سقوط بغداد” للعمري، و نقله هنا ليس مجرد استذكار للواقعة التي هزت العالم ،بل للتمييز بالفرق كبير بين أن يزيح الشعب صنمه بنفسه..وبين أن يزاح بقوة احتلال..)
.. عندما استيقظت، حوالي الرابعة عصراً، هرولت لأشغل المولد الكهربائي.. لأعرف ماذا يدور..
عندما فتحت التلفاز على الجزيرة طبعاً، كان هناك على الشاشة ذلك المشهد الذي أعدت أدواته بدقة وحذق.. لقد قصف الغزاة مكاتب الصحفيين المتفرقة أمس من أجل هذا المشهد، من أجل أن يأتوا جميعاً إلى هنا بالذات، وليس مهماً من يموت من يموت، وأن ييتم من ييتم، ليس مهماً إن سالت دماء أو دموع.. المهم فقط أن يتم المشهد بإرشادات المخرج الأمريكي..
ساحة الفردوس أمام فندق فلسطين، بالضبط حيث كنت صباحاً.. من أجل القميص!
في المشهد كان هناك الجنود الأمريكان ودباباتهم وقد انتشروا في محيط الفندق والساحة، وكانوا يتصرفون كما لو أنهم قد فتحوا عكا، على الرغم من عدم وجود أي قطعات عسكرية، أي متاريس، أي أكياس رمل حتى..
.. وعلى الرغم من أن المسافة بين المكان الذي “فتحــوه” والمكان الذي كانوا فيه أمسعلى الرغم من كرشـي– في عشر دقائق.. عند جسر الجمهورية هي مسافة بسيطة جداً، وأستطيع اجتيازها ركضاً –
كانت المسافة قصيرة، وخالية من أي مظاهر عسكرية، مع ذلك انتظر الغزاة يوماً كاملاً قبل أن يقتحموا المكان..
كانوا يريدون أن يتجمع الصحفيون والمراسلون كلهم هنا، في هذا المكان.. كانوا يريدون من كل الشاشات – فـي العالــم– أن تتوحد لتنقل صورة واحدة موحدة..
..(كنتم أنتم الهدف في ذلك كله أكثر مما كنا نحن، كانوا يريدونكم أنتم، كانوا يقصدون إذلالكم أنتم، لقد أسرونا وأذلونا وانتهى الأمر، لكن هذا المشهد كان يستهدف إذلالكم أنتم طيلة الأسابيع الثلاثة الماضية كانت عيونكم مصوبة نحونا، كانت قلوبكم مصوبة نحونا، كانت دعواتكم، وآمالكم وأحلامكم تنصب علينا، لم تكونوا تتوقعون النصر المطلق طبعاً، لكنكم، مثلنا تماماً، كنتم على الأقل تودون رؤية الوحش الكاسر وقد كسر صلفه، وتحطم أنفه..
كنتم قد حلقتم عالياً عندما رأيتم المقاومة، وكبرتم عندما سقطت طائرة، وهللتم عندما طلب الغزاة المزيد من الإمدادات، وبدا عليهم الترنح والتخبط لعدة مرّات..
كان لديكم أمل بأنه هناك ثمة أمل.
.. وحتى ذلك كان كثيراً على ما يبدو، ويجب –حسب الخطة– ألا يكون لديكم أي شيء منه..
لقد خفقت قلوبكم عندما رأيتم نقطة – مجرد نقطة- على الحدود تصمد لمدة أسبوعين، وانتشيتم عندما رأيتم البصرة تقاوم، والناصرية تضمد جراحها وتظل تحارب..
صار لديكم خلال ثلاثة الأسابيع الماضية أحلام وآمال وتوقعات.. وصلتم إلى قمة عالية.. وحبستم أنفاسكم ترقباً، عندما وصل الغزاة إلى بغداد وصلتم أنتم إلى أعلى نقطة من الترقب، لقد صمدت نقطة الحدود ولقنت الغزاة درساً، لا بد أن بغداد –بغــداد !- ستقاوم أكثر، وستلقن الغزاة درساً أكبر..
وحبستــم أنفاسكــم..
حسناً. إليكم الآن هذا المشهد، وكلما كانت القمة التي وصلتم إليها مرتفعة أكثر، كان ارتطامكم أشد إيلاماً.. وأكثر إيذاءً..
إليكم هذا المشهد، سيحبطكم مائة عام أو أكثر.
إليكم هذا المشهد، إنه معدٌّ بإتقان من أجلكم ومن أجل آمالكم..)
*****************************
جمعوا الصحفيين والمراسلين هنا، وجمعوكم أنتم حول الشاشات، وانتظروا حتى الساعة الرابعة عصراً –الواحدة بتوقيت غرينتش– حيث عدتم جميعاً من أماكن عملكم وكلياتكم ومدارسكم إلى بيوتكم، ولم تخرجوا بعد منها..
نعم.. جمعوكم من أجل هذا المشهد.. فراقبوه جيداً..
افتحوا عيونكم جيداً، واستسلموا للمشهد.. ولحقائق المشهد، هل قلتم: إن لديكم أمل؟ هل قلتم: إن لديكم حلم؟..
هذا المشهد سيتكفل بكم، مرّة واحدة وإلى الأبد.
انظروا ما ستفعله بغــداد الآن، بغـدادكم، بغــداد عاصمة خلافتكم، بغـداد الرشيد والمأمون..
انظروا إليها جيداً، الحقيقة هي ما ترون لا ما تسمعون، وما سترون هو هذا المشهد الذي يغطي كل الشاشات، كل القنوات..
انظروا إلى ما سيفعله العراقيون، هؤلاء هم، هؤلاء هم الذين وضعتم آمالكم إليهم، فانظروا إليهم جيداً.
.. وموتوا بعدها لألــف عــام..
**************************
.. كان هناك في الساحة بعض العراقيين، ظهروا فجأة لا أدري من أين..
أود كثيراً لو أصدق أنهم ليسوا عراقيين، أود لو أصدق أنهم مجرد كومبارس مأجورين من أجل متطلبات المشهد، مثل أولئك الأطفال المغاربة الذين أجروا من قبل البريطانيين من أجل أن يقوموا بدور أطفال عراقين وهم يلوحون بأيديهم للمحررين..
أود لو أصدق أنهم جاؤوا أصلاً مع قوات الغزو – عراقيين أو غير عراقيين– كما هو شائع ومتداول كمسكّن للألم يتناوله الذين يؤلمهم ما حصل..
.. أتمنى لو أستطيع تناوله أنا أيضاً، أصدق وأنهي الأمر..
.. أصدق أنهم عراقيون، وأسجل تحفظي فقط على تجمعهم هناك، المنطقة ليست سكنية أصلاً، والكثافة السكانية فيها –مســاء– قليلة أصلاً حتى في الأوقات العادية، فكيف والوقت حرب؟ وكيف وقد كانت المنطقة خالية صباحاً؟..
.. من أين جاء هؤلاء؟ كيف علموا بما يدور وجاؤوا؟ لا أدري.. المهم أنهم جاؤوا، إلى هنا إلى ساحة الفردوس في قلب بغداد..
.. في طرف الساحة نصب، تمثال، قلت لكم: إني طالما تحاشيت النظر إليه.. وأقول لكم الآن: إني قبل شهر واحد فقط –شهر واحد بالضبط 9/3– وقفت أنا وبعض الأصدقاء والتقطنا الصور هناك في الساحة، كنا حريصين تماماً على ألا يظهر التمثال في الصور، لم يكن يمثل بالنسبة لنا إلا كل ما نكره، كل ما نريد أن نتحاشى، كل ما نريد أن نزيل، ونحطم..
لكــن أبداً أبداً ليس تحت مظلة الغزاة….
***********************************
كل ذلك الضغط النفسي الذي مارسته الحرب الإعلامية كان هدفه أن ننزلق جميعاً إلى واحد من خيارين: إما إلى جانب التمثال، الوثــن، الطاغية المنصوب في كل مكان، وإما إلى جانب الغزاة..
كان الغزاة يروّجون لخيار كهذا، من أجل أن ينتصر خيارهم على الخيار الآخر..
وكان هو أيضاً، الطاغية وبطانته وجهاز إعلامه، يروجون لخيار مماثل، يختلط فيه الوثن بالوطن، والتمثال بالعراق، من أجل أن ينتصر خيار الوطن – المشـوش بالصنـم– على خيار الغزاة.. كانا معاً يسيران بخط واحد، باتجــاه واحد.. اتجاه يشغلنا عن خيار ثالث – خيـار آخر..
لا غــزاة ولا طغــاة..
خيـار يتجـه نحـو الوطــن..
للأسف، كثيرون وقعوا في المطب وتصوروا الخيار محصوراً بين ذلك التمثال القبيحوأولئك الغزاة القبيحين..
وكثيرون تحرجوا من الاختيار عندما رأوه كذلك، وفضّلوا الانتظار السلبي على الاختيار المر..
البعض أنجرّ إلى الدفاع عن الوثن متصوراً أنه يدافع عن الـوطــن..
والبعض سقط إلى جانب الغزاة مهاجماً الوثن، جاهلاً، أو متجاهــلاً أو لا مباليـاً أنه سيخسر الوطن..
هذهِ هي حقيقة المشهد.. يوم السقوط..
أغلبية صامتة، مكممة، سالبة، تفضل الانتظار على الاختيار.. متجنبة عبء الاختيار،لأنها تعرف أن خيارها الأصلــي والحقيقــي غير مطــروح..
.. وأقلية جاهلة خلطت بين الوطن والوثن تماماً، واندفعت تدافع عن التمثال – الصنم..
.. وأقلية جاهلة أخرى، أقر أنها أكبر عدداً من سابقتها، كانت قد اختارت أولئك الذين نصبوا الوثن وسلطوه، واختاروا الآن لسبب أو لآخر أن يزيحوه، أو يستبدلوه..
على هذهِ الأقلية، التي أشدد أني لا أدري كيف علم بعض أفرادها وجاؤوا إلى ساحة الفردوس على هؤلاء ستركّز العدسات وتصوب الأنظار.. يوم السقوط، وسيقولون لكم معممين: هؤلاء العراقيــون..
******************
كان من المفترض، حسب السيناريو المرسوم بدقة، أن الصورة ستُغني عن التعليق..
وكان من المفترض أن يكون السيناريو صامتاً، فقط بعض الهتافات التشجيعية من الكومبارس – الأجيــر أو المتطــوع– (لا فـرق كبير في النهايــة..).
.. وإذا كان لا بد من تعليق، فلا بد أن يكون على نمط التعليق على مباريات البيسبول الأمريكية، مجرد تشجيع..
.. لكن، كان لا بد للجزيرة أن تشاغب.. كعادتها..
*****************
يقال: إن الصحفيين ساديون بالفطرة.
أقول: خصوصاً إذا كانوا من”الجزيرة”.
وعلى تفاصيل ذلك المشهد انطلق ماهر ليعلق بسادية مفرطة الحنان، مفرطة الفهم، مفرطة الهدوء..
انطلق ماهر، وصوته يعمل كمعول هدم، لا، بل كحفّار يغوص في أعماقك، ينكأ الجروح، ينكش الوساوس.. ويعرضها عليك في عمق عينيك – في عين الشمس– في قلب العراء..
.. كان ذلك المشهد سريالياً جداً، غريباً جداً، مليئاً بالرموز والدلالات.. وكان ماهر يعمل مرشداً سياحياً، يفسر، ويؤرخ، وينظر..
.. كان سادياً بالفطرة.
.. وسادياً بالخبــرة…
*******************
.. في تفاصيل السيناريو يقوم أفراد من الكومبارس (الأجير أو المتطوع، قلنا: لا فرق) بتسلق ذلك التمثال.. لغرض تحطيمه.. أو لغرض آخر غير معروف بعد.
.. الهدف من هذا التفصيل هنا هو أن تعلموا أنتم، كم هم أغبياء العراقيون..
.. إنهم يحاولون تسلق التمثال الشاهق الارتفاع، الذي من الواضح تماماً أنهم لن يستطيعوا تسلقه..
لكن سيأتي الحل من الغزاة.. بالصـدفة!
كان عندهم بالصدفة طبعاً – ولا شيء غير الصـدفة– سلماً عالياً ليتسلق عليه أولئك العراقيون الذين لا يعرفون ماذا يفعلون.
ماذا كانوا سيفعلون لولا أمريكة؟ وحــده الله يعلـم، لكن ماذا يفعل هذا السلم عند الأفراد الأوائل من قوات الغزو؟
أوه ! لعلهم فكروا أنهم سيحتاجونه في هذا العمل أو ذاك، ربما فكروا أنهم سيبدؤون بإصلاح أعمدة النور المعطوبة فور دخولهم إلى بغداد، أو ربما تصوروا أنهم سيجدون قطاً، أو كلباً أو طفلاً – فـي أسوء الحـالات– عالقاً في الطابق الثالث من عمارة ما، وسيساعدهم السلم هذا على إنقاذه..
نعم، هذهِ هي الأغراض التي من أجلها يوجد سلَّم مع تلك الكتيبة التي اقتحمت وسط بغـداد..
ربما لهم فيه مآرب أخرى..
نعــم. ربما. لكن لا تسرحوا بعيداً في خيالاتكم التآمرية التقليدية، تفرجوا فقط وكونوا مهذَّبين وتستطيعون أن تخفضوا الصوت إذا كان ماهر يشوش عليكم بتعليقاته..
.. السلَّم إذن من تلك الدبابة التي ستبدو فجأة مثل قبعة الساحر فيها كل ما يحتاجه المرء عندما يكون في قلب مشهد سينمائي كهذا.
يتسلق على السلم اثنان من العراقيين، ثم يكملان تسلقهما بالصعود واحد فوق الآخروصولاً إلى القمة، إلى الهاويــة .. إلى أدنى درجة في أدنى درك في الهاويـة..
رأس الطاغيــة..
ستحبسون أنفاسكم ترقباً كما لو كنتم تشاهدون فلماً من أفلام السيرك في اللحظة الحاسمة، عندما يتعلق اللاعبان بعضهما ببعض –عنـد ذلك الحبـل الرفيـع– والأسود تحت قد فتحت أفواهها..
.. لكن، لماذا الترقب؟.. ماذا عساه أن يحدث؟.. وماذا سيفعل هؤلاء وأيديهم عزلاء..
سيقول هنا ماهر ما لن تنساه، على الرغم من قسوته، ستصادق على قوله، ستهز برأسك موافقاً..
سيقول بطريقة أقسى ما فيها برودها، بسادية أذكى ما فيها هدوءها، بطريقة عادية تماماً.. عن هذين المتعلّقَين بعنق الصنم، إنهما الآن وحالاً لو مرَّ الطاغيـة بشحمــه ولحمــه أمامهما، أمام الحشود، لهتفا له وناديا بحياته، وأكدا عبر الهتافات والأهازيج أنهما سيفديانه.. بالــروح .. وبالــدم ..
كان ذلك صحيحاً إلى حد بعيد جداً، إنها النفسية التي نعرفها جيداً، التي خبرناها جيداً.. إنها نفسية التصفيق لكل منتصر.. ونفسية الهتاف لكل غالب، نفسية النعيق مع كل ناعق..
لكن الطاغية لم يمر، لا بشحمه ولا بلحمه.. ولا بظله.. لم يكن ذلك جزءاً من خطة السيناريو المرسوم بدقة..
لكن السيناريو كان يتجه باتجاه آخر..
ففي اللحظة الحاسمة، عندما وصل أحد المتسلقين إلى رأس التمثال، وحبسَ المشاهدون من أمثالكم أنفاسهم ترقباً لما سيحدث.. ستمتد يد من أيدي الجنود الغزاة، وهي تحمل العلم الأمريكي، هناك قريباً من رأس الطاغية..
ووضعها على رأس التمثال…
سيذهلك المشهد، قد يجرحك، قد يصدمك، وقد يسيل دموعك..
لكن، عندما يلتف رأس الطاغية بذلك العلم الأمريكي، ويقف الصنم مشدوداً قائماً وقد غطى العلم الأمريكي ملامح وجهه.. ستفهم للمرّة الأولى، الحقيقة في كل ما جرى..
ستفهم –ربما– للمرّة الأولى، أن كل تلك الوجوه التي ارتداها الطاغية لم تكن سوى أقنعة، وأنه للمرة الأولى يستعيد وجهه الحقيقي الذي لم تظن قط أنك ستراه بهذه الصراحة، بهذا الوضوح.
ستتذكر أن تقاليد الغزاة في مراسيم دفن قتلاهم وشهدائهم تقضي بأن يلتفوا بالعلم الأمريكي..
وستحاول أن تذكر، هل رأيت مرّة أخرى أحداً آخر يلتف بالعلم الأمريكي، ما لم يكن عسكرياً أمريكياً قضى حياته في خدمة ذلك العلم؟
أبداً، إنها طريقتهم في التعامل باحترام وتوقير وتبجيل مع موتاهم مع شهدائهم..
لماذا العلم يلف تمثال الطاغية إذن، وقد كان عدواً صريحا لهم؟
لا غرابة، إنه شهيدهم أيضاً بطريقة ما، ولم يحدث قط أن خدم هذا العلم جنرال، كما فعل هذا الطاغية.. لقد أوصلهم إلى هنا، إلى قلب بغداد، إلى عاصمة الخلافة، حيث تنظرون، حيث كنتم تنتظرون..
لكنه لم يمت بعد.. لماذا يعاملونه كشهيد؟
نعم، إنه شهيد أيضاً بطريقة ما، لقد انتهى دوره بعدما وصلوا إلى هنا، من الصعب جداً أن يجدوا له دوراً آخر في السيناريو.. سواء كان عميلاً مباشراً، أو عميلاً قديماً تمرد عليهم، أو كانوا قد درّسوه جيداً وعرفوا كيف يقودونه إلى ما يريدون..
لقد انتهى، احترق، وريثما يجدون له تصريفاً مناسباً، سيعاملونه –أمامكم، أمام أعينكم، واثقين من غبائكم– كشهيد..
لكن للحظات فقط.
بعدها، ستمتد يد لتزيل العلم الأمريكي، إنهم يعرفون حساسيتكم المفرطة من الأعلام، يعرفون أهميتها بالنسبة لكم، أنكم مولعون بإحراقها في التظاهرات، ومن ثم تقومون بسحقها بأقدامكم كما لو كنتم تصدقون أنكم سحقتم الدول التي تمثلها..
الأعلام مهمة بالنسبة لكم، ولا داعي لرفع العلم الأمريكي الآن، لقد جاؤوا محررين لا محتلين كما تعلمون، وهذا العلم المرفوع قد يشوه ويشوش على هذهِ المعلومـة.. فلا داعي له..
سيقولون عن رفع العلم الأمريكي فوق التمثال: إنه خطأ غير مقصود –كما قالوا سابقاً عندما صرحوا أنها “حــرب صليبيــة!” – إنهم واثقون أنكم طيبون وستصدقون تفسيراتهم بأنها مجرد زلة لسان، بأنه مجرد خطأ غير مقصود، في الحقيقة إنهم واثقون أكثر بأنكم لا تقرؤون ولا تفهمون ولا تعلمون أن زلات اللسان، والأخطـاء غير المقصودة، هي في حقيقتها دلالات نفسية جوانية شديدة العمق.. شديدة العمد.. وشديدة الصراحة..
إنه خطأ غير مقصود.. لكن لا بأس أن تفهموا، إن فهمتم، وأن تعوا، إن وعيتم، أنه العصر الجديد وقد جاء إليكم، وأن عصر الطغاة المستبدين قد انتهى،هو عصر الاستبداد الأمريكي قد جاء، وهذا –للحظات– صنمه.. ورمزه.. وتمثاله.. وأن عصراً آخر،
للحظات سيبدو التمثال-بوجهه الجديد –الحقيقي، وهو يتحدث أليكم، يقول لكم: أنا أمريكة، أنا ربكم الأعلى..
للحظات فقط، تكفيكم أن تفهموا، إذا كنتم ستفهمون..
وإذا لم تفهموا وقتها، فلديكم متسع من الوقت لتفهموا.. (أعماركم كلها..)
***********************************
أُزيل العلم الأمريكي إذن..
وأنت غارقٌ في الدهشة، سيخرج واحد من المتسلقين العراقيين علماً عراقياً من جيبه، وسط التصفيق والتهليل الجماهيري..
حسناً! ستتفهم أن الغزاة يحملون علمهم عندما يقتحمون عاصمة ما، لقد حملوه معهم حتى عندما وصلوا القمر، وعملوا على أداء بعض الخدع من أجل أن يبدو كما لو كان يرفرف هناك، مع العلم أن لا هواء في القمر كان سيجعله يرفرف، لكن ضرورات جماهيرية سينمائية جعلت العلم الأمريكي يرفرف بشدة على القمر..
نفهــم ذلـك..
لكن ماذا يفعل العلم العراقي بنسخته القديمة في جيب هذا المواطن العراقي، الذي يُفترض أنه جاء بطريقة عفوية إلى هنا؟..
علم بلادك قد يكون في قلبك، في عقلك، قد يكون في ضميرك وفي دفاتر أولادك، لكن أن يكون في جيبك؟ وبنسخته القديمة التي مضى عليها أكثر من عشر سنوات؟
إنه أمر لم يحدث معي ولا معكم على ما أظن..
لكن دعونا نصدق أنه قد حدث، وأن هذا المواطن قد خرج ليتمشى من منزله، ربما بعدما شرب الشاي عصر ذلك اليوم، وفي تلك الحالة شديدة الحراجة من الناحية الأمنية، وقبل أن يخرج، تذكر أن يضع ذلك العلم – بنسخته القديمة– في جيبه.. لعله ينفع..
هل تصدق ذلك؟ ولم لا؟. مصادفات كهذهِ تحدث في الحياة، كما تحدث في الأفلام الهندية والأفلام العربية، وأيضاً الأفلام الأمريكية. وحياتنا اليوم فلم أمريكي، فلم لا نصدق؟..
هل تشمون رائحة مؤامرة ما؟ بالتأكيد. المشكلة في أنوفكم، إنها تشم المؤامرة في كل شيء، تشم المؤامرة خلف كل حدث، وماذا لو كان هذا المواطن لديه بالصدفة علم في جيبه، وبالصدفة كان هذا العلم بالنسخة القديمة دونما تلك الإضافة التي أضافها الطاغية قبل أكثر من عشر سنوات.. لا تصدقون ذلك، تلك مشكلتكم، وسواء صدقتم أم لا، فهذا ما يحدث..
هل تقولون: إن وسائل الإعلام نقلت صورة واحد من هؤلاء المتسلقين، وهو يقف كحارس شخصي لواحد من زعماء المعارضة الذين وصلوا العراق قبل يومين فقط..؟
أنتم متطرفون، وتتابعون وسائل إعلام متطرفة..
تقولون: إنها (السي.إن.إن) وليست الجزيرة؟
(السي إن إن) متطرفة أيضاً، وأنتم لا فائدة منكم، شاهدوا وأنصتوا بلا كثير جدل وكلام..
.. ها هو العلم العراقي، بنسخته القديمة، يعلو تمثال الطاغيـة..!
لا. ليس يعلو بالضبط، لسبب ما لن يغطي العلم وجه الطاغية، فقط يلتف حول عنقهبارتخــاء..
سيعلق ماهر عن كون العلم يبدو كما لو كان ربطة عنق!..
سيبدو الأمر هزلياً، الشهيد الأمريكي وقد ارتدى العراق، كربطةٍ في عنقه..
بعدها سيحاول المتسلقون أن يربطوا ذراع التمثال، وجزءاً من جذعه بحبال – لا تدري أية صدفة جلبتها لهم– وسيحاولون جادين.. سحب التمثال..
سيستغرق ذلك وقتاً غير قصير، سيتكالبون، عراقيون على الأغلب أو بدوا أنهم عراقيين، على السحب والربط.. دون جدوى..
سيأتي صوت ماهر ليعلق على نواحي الركاكة والضعف في محاولات الإسقاط اليائسة..
ستنقل الشاشات ذلك بكل تفاصيله: انظروا إلى العراقيين، إنهم غير واقعيين، غير ملمين بالحقائق، إنهم خياليون، غير مدركين لحجم إمكانياتهم ولا لحجم العوائق التي تواجههم.. إنهم جاهلون، يتصورون أن بإمكانهم إزاحة ذلك التمثال الضخم –هائل الحجم- المثبت على منصة عملاقة، بمحض أيديهم.. بمحض حبال مهترئة، لا بد من مساعدتهم، لا بد من القيام عنهم بأعمالهم بدلاً منهم..
ستشاهدون ذلك، وستشهدون على ذلك..
العراقيون لا يمكنهم فعل شيء، لا بد لأحد أن يساعدهم..
وستأتي تلك الرافعة العملاقة –الأمريكيــة طبعاً– خارجة من نفس الدبابة القادرة على أداء كل الحيل السينمائية، لتقوم بما فشل به أولئك الفاشلين..
هل تشككون بتلك الدبابة وبطريقة مجيئها؟ أية صدفة جلبتها في تلك الساعة، مع تلك الكتيبة التي يفترض أنها كانت ستواجه بمقاومة عسكرية ضارية؟
لا تزالون ترون المؤامرة في كل مكان؟! ابقوا كما أنتم، ابقوا بهذهِ العقلية، أنتم أيضاً فاشلون، أنتم أيضاً أغبياء، لا أمل فيكم، لا جدوى منكم، كفوا عن التساؤل والتفكير وتفرجوا على ما تشاهدون، ولا تفسدوا هذا المشهد نادر الحدوث والسيناريو المرسوم بدقة..
سيقول هنا ماهر شيئاً دامياً، شيئاً سادياً مروعاً، سيقول والرافعة الأمريكية تكاد تنجز في لحظات ما عجز عنه العراقيون في عقود:
“يبدو أن العراقيين لم يفشلوا في إسقاط الطاغية وحسب، ولكنهم فشلوا حتى في إسقاط تمثاله، واحتاجوا إلى الأمريكين حتى في إزاحة تمثاله”..
صحيح يا ماهر، صحيح ما قلته، على الرغم من ساديته، على الرغم من صلفه، على الرغم مما يبدو من وقاحته، لكنه صحيح..
ولكن، آه يا ماهر لو تعلم، آه، لو تعلم –وربما كنت تعلم– كيف حصل هذا الفشل، وكم جرَ هذا الفشل، وكم دفع العراقيون ثمناً لهذا الفشل.. آه، يا ماهر.. لعلك كنت تعلم.. أو لعلك لا تعلم.. لكن ذلك الفشل في إزاحة الطاغية كان دوماً –بطريقة أو بأخرى– لأنهم هم أنفسهم، الذين يزيلونه الآن، قامــوا بحمايتـه..
آه يا ماهر، هل ستصدق؟ هم الذين زرعوه، وقووه وأسندوه.. هذا الصنم هم الذين نصبوه – وراقبوه من بعيد وهو يدمر البلاد ويستعبد العباد..
ثم لسبب أو لآخر قرروا أن يزيحوه، فأزاحوه.. ودمروا البلاد واستعبدوا العباد في خضم ذلك..
لكنك محق يا ماهر، أنت محق، لقد فشلنا في الإزاحة، الطاغية كذلك.. وتمثاله..
وها نحن مقبلون على دفع ثمن باهظ لهذا الفشل..
*********************
.. في لحظات، كانت تلك الرافعة تنجز العمل..
لن يسقط التمثال، بل سينكسر قرب ساقيه، وسيبدو مجوفاً من الداخل، لن يدهشك ذلك أبداً، لقد كنت تعلم دوماً أنه فارغ من الداخل وأنه هش على الرغم من صلابته المظهرية..
وبينما ستسحب الرافعة جثة التمثال، والجماهير ستنفس عن مشاعرها عبره..
سينبهك ماهر إلى شيء ربما لم تنتبه له بقية الكاميرات.
سينتبه إلى الساقين الغاطستين في المنصة، وسيقول شيئاً سادياً – كالعــادة– سيقول: ربما ستكون جذور الطاغية عميقة في الإسمنت العراقي..
.. إنه ماهر فعلاً، هذا الماهر، ماهر في انتقاء الكلمات، في نكش الجروح، في تعرية السيناريو المرسوم بدقة، كما في الأفلام..
إنه ماهر حتى في انتقائه للصمت.. عندما يكون الصمت أقوى من الكلام.
**************
لكنك مع ذلك مخطئ يا ماهر..
جذور الطاغية لن تكون عميقة في الإسمنت العراقي – كما تتصور– إنها في الحقيقة عميقة فيما هو أعمق بكثير من مجرد الإسمنت..
جذور الطاغية هي جذور أي طاغية سابق ولاحق، هي جذور الطغيان والاستبداد العميقة عبر العصور، العريقة عبر القرون..
جذور الطاغية يا ماهر، هي نفسها دوماً، جوهرها على الأقل ثابت دوماً، تتغير التفاصيل.. تتجدد الأساليب.. لكن الطغيان يبقى محتفظاً بثوابته.. بجوهره..
تستطيع أن تسأل بغــداد عن ذلك يا ماهر، إنها خبيرة بذلك، تاريخها كله يحكي ذلك، لا تصدق أبداً أنه كان هناك عهد بلا طغيان، لا. فقط كانت هناك عهود.. تبدو بالمقارنة مع سابقاتها أو لاحقاتها أقل طغياناً..
.. ولعلك تعرف، يا ماهر، أننا نحن الذين نصنع من طغاتنا ما هم عليه من طغيان..
إنهم يبدؤون عادة طغاة صغاراً، لن أنكر أنهم مؤهلون لذلك، لكن طغيانهم يكبر عندما يواجهون خنوعنا، خضوعنا، استسلامنا وسلبيتنا..
نعم. ليس الطغيان قصة استفراد الطغاة بشعوبهم فقط، لكنه أيضاً قصة استسلام الشعوب لذلك..
تلك هي المعادلــة يا ماهـر..
وتلك هي القصة التي تكررت على مر العصور في تاريخنا، إياك أن تتصورها حكراً على بغداد، إياك أن تتصورها حكراً على اسم الطاغية.
إنها ثابت شديد التكرار، إنها عامل مشترك أكبر.
..وبغــداد –عاصمة الخلافــة– كانت مجرد رمز لكل ذلك، تمر به كل المدن، من المحيط إلى الخليج، من الجرح إلى الجرح.. من الوريد إلى الوريد..
.. ليس الإسمنت العراقي فحسب، ولكن إسمنت التاريخ الذي ورثناه، إسمنت المفاهيم المتراكمة البالية التي أوصلتنا إلى ما وصلنا إليه..
إسمنت الإرث العريض من السلاطين ووعاظهم وفتاواهم ومنابرهم وجرائمهم المبررة طبعاً بفتاوى الاستبداد..
إسمنت الكرب والبلاء.
إسمنت طاعة أولي الأمر مهما كانوا، إسمنت الدعاء لأولي الأمر مهما كانوا، إسمنت الدعاء للسلطان الغالب، والدعاء على السلطان المغلوب..
إسمنت التصفيق للمنتصر، والسحل للمهزوم..
إسمنت الألقاب الرنانة، من ظل الله على الأرض، إلى الحاكم بأمره، إلى الملك المفدى، إلى الزعيم الأوحد، إلى القائد الضرورة..
إنه الإسمنت القابع في نفسياتنا جميعاً.. إنه موجود فيك، كما هو موجود فيّ، كما موجود في المشاهدين، أولئك الذين صدقوا الوثن وآمنوا به، وأولئك الذين آمنوا أنه لن يزيحه إلا الغزاة..
.. الجذور فينا جميعاً يا ماهر.. عميقة فينا، عريقة فينا، وهو أمر لن يغيره إلا شيء في داخلنا، شيء ينبع من أعماقنا، شيء يفهم تاريخنا ويفقه تعقيدات تضاريسنا..
إنه شيء لن تستطيع دبابة – حتى لو كانت أمريكية– أن تفعله، هذا إذا افترضنا جدلاً أنها تكترث أن تفعله..
إنه شيء علينا أن نواجهه بأنفسنا.. ونتحمل نتائجه بأنفسنا..
ولا شيء غير هذا..
*******************
سقط التمثال ؟..
فإلى الجحيم إذن، إلى أسفل درك في غياهب الجحيم، مصحوباً بلعناتنا، مصحوباً بأسوء دعواتنا..
كل ما فعلته من سوء، يا سيدي الطاغية، كان في كفة، لكن ما فعلته الآن، عندما سلمتنا، كان في كفة أخرى..
الناس، يا سيدي الطاغية، في بلدك – أقصد البلد الذي تحكمتَ بمصائر ناسه واستعبدتهم لعقود– ناس طيبون، لقد تعودوا المغفرة، تعودوا النسيان، تعودوا التعود على الطغيان..
أكثر من ذلك، وقد تعتبر جنابك أن تلك بلاهة ما بعدها بلاهة، أنهم تعودوا أن يترحموا على طغاة ليست في قلوبهم ذرة رحمة، وأنهم تعودوا أن يبكوا على طغاة طالما أبكوهم..
ناسك يا سيدي الطاغية، وأنت لم تتسنَ لك أية فرصة لتعرفهم، كانوا مستعدين دوماً لأن يغفروا لك، ولسواك من الطغاة.. لقد تعودوا على ذلك، تقولبوا على ذلك، جبلوا على ذلك..
كان يمكن لرعاياك أن يغفروا ثراءك الفاحش، على الرغم من فقرهم المدقع.. كانوا سيقولون: إنها هيبة الدولة.. وهيبة مسؤولي الدولة..
.. وكان يمكن لرعاياك أن يغضوا النظر ولو بصعوبة عن قوافل المعدومين..المظلوميــن..
أولئك الذين اختطفتهم زبانيتك وأودعوهم قاعات التعذيب من ثم ساحات الإعدام.. أحياناً، من أجل لا شيء، فقط من أجل أنهم –ربمــا– ضحكوا على نكتة تمس قداستك..
نعم، رعاياك كان يمكن أن يغضوا البصر – ولـو بصعوبــة– عن ذلك، كان هناك من سيغص.. ويتجرع العلقم.. ويقول: إنها سياسة دولة..
.. رعاياك كان يمكن أن يتظاهروا أنهم نسوا تلك المقابر الجماعية، وحروب الإبادة التي مارستها ضدهم، كانوا سيفضلون الستر، كانوا سيجزون على أسنانهم ويختارون الستر..
.. نعم، كان يمكن لرعاياك أن يبرروا كل فظائعك وأخطائك، كل حماقاتك.. حتى حروبك الحمقاء التي دفع الملايين حياتهم ثمناً لها.. ستجد من رعاياك بالذات من المكتوين بنارها، من يقول: إنها ظروف دولية جرتك إلى ما فعلت، وإنه فخ نصبوه لك.. الخ.. الخ..
كل شيء كان رعاياك مستعدون لتبرير كل شيء.
لكن الشيء الذي فعلته هو أنك أوغلت في كل شيء، إلى أن أوصلت شعبك إلى ما وصلوا إليه..
الشيء الذي لن تنساه الرعية، ولن تغفره الرعية –أبداً– أنك أوصلتها، أوصلت بعضها على الأقل إلى الترحيب بالغزاة..
.. الشيء الذي لن ينساه الشعب، أبداً، أنك –أنــت– أنت وليس غيرك.. من أوصل الغزاة إلى هنا.. قلــب بغــداد.. ساحة الفردوس..
كل شيء في كفة…
وهذا في كفة أخــرى.
..ولا تــوازن..
***********************
وسنكتشف لاحقاً أن أسوء ما في الأمر أن من بعدك كانوا أسوء منك يا سيدي الطاغية.
.لعل ذلك سيفرحك كثيراً، وسيملؤك وأعوانك بالشماتة.. لكن لا تشمت كثيراً..فكلكم شركاء في الجريمة…