د.أحمد خيري العمري- العرب القطرية
نوفمبر 2010
الكل يتحدث الآن عن “قبول الآخر”، كما لو أنه صرعة الموسم، وكما لو أنه الحل السحري لكل مشاكلنا، وكما لو أن عدم قبول الآخر، هو السبب في كل ما نحن فيه، فواحد يشدد على ضرورة “قبول الآخر”، وآخر ينادي بنشر ثقافة “قبول الآخر”، وثالث يقيم دورة تدريبية لتعليم “قبول الآخر” وسط حضور وسائل الإعلام احتفاءً بالحدث الجلل، وهنا كاتبة تروج لروايتها الجديدة فتقول إنها تتحدث عن “قبول الآخر”، وهنا تربوي يتحدث عن ضرورة غرس “قبول الآخر” عند الأطفال، وهنا ممثلة ناشئة يسألها محاورها عن أهم ما تعلمته في تجربتها الفنية، فترد عليه بما يناسب كل الأسئلة هذه الأيام: إنه قبول الآخر!
حتى بعض المشايخ، هداهم الله وإيانا، انتقلت العدوى لهم، أو أنهم خافوا أن يعد سكوتهم عن الأمر “رفضا” للآخر والعياذ بالله، فانطلقوا يعظوننا عن القبول بالآخر، وكيف أنه أساس من أسس الإسلام، وكيف أن القرآن حثنا عليه، وكيف أن القبول بالآخر هو واجب أساسي من واجباتنا تجاه العالم، مستخدمين في خضم ذلك، نصوص قرآنية وأحاديث نبوية لا علاقة لها بالأمر لا من قريب ولا من بعيد، ولكن لا يهم ما دام الاستشهاد يضعها في موضع قبول الآخر، حتى أننا لن نستبعد أن يتحدث واحد منهم عن القبول بالآخر، باعتباره” رضي الله عنه”!.
“قبول الآخر” مصطلح فضفاض ومطاط، وهو خطر ليس لأنه كذلك فحسب، فكثير من المصطلحات تكون فضفاضة ومطاطة، ولكن خطورته في أنه يكاد يفرض على الجميع بطريقة تجعل اعتناقه بديهة، دون أي توضيح حقيقي لهذا المفهوم، مجرد ترويج للقبول بالآخر دون توضيح من هو هذا الآخر، أو ما هو هذا الآخر، ودون توضيح نوعية هذا القبول، وهل هو قبول مشروط بضوابط، أم أنه مفتوح بلا حدود واضحة. وهذا هو أخطر ما في الموضوع وأكثره تأثيراً وسلبية. ولو أن المقصود بقبول الآخر هو التعايش (وهو مقصد الآيات القرآنية الكريمة التي تستخدم غالبا في سياق الترويج لقبول الآخر) لكان ذلك ليس أمراً مقبولاً فحسب، بل مطلوباً بشدة، لأنه بالفعل يمثل أساساً من أساسات التعامل وضرورة من ضرورات الاستمرار. لكن “التعايش” له حدود، وله ضوابط، تكون بمثابة عقد ما بين المتعايشين، وتكون هوية كل منهم واضحة، بدون أي تخطٍّ لخطوط معينة، من قبل أي طرف..
حتى “التسامح”، وهو المصطلح الأقرب لمصطلح “قبول الآخر”، وربما يكون أساسه ومصدره، حتى “التسامح” يمثل معنى أكثر تحديداً ووضوحاً، وبالتالي قبولاً، من مصطلح ” قبول الآخر” هذا مع العلم أن هناك خلطاً في ترجمة العبارتين، فكثيراً ما تستخدم (tolerance) في النصوص الأجنبية، لكنها تترجم إلى ” قبول الآخر” بدلاً من التسامح، رغم أن الإيحاءات الداخلية لبنية الكلمتين مختلفة..
الجذر التأسيسي لمصطلح التسامح ولد في القرنين السادس عشر والسابع عشر في خضم الإصلاح البروتستانتي والحروب الدينية (المذهبية في حقيقتها) وتقسيم الكنيسة، وكرد فعل للاضطهاد و القتل و التنظير الكنسيين لهما، نشأ الجدل والنقاش حول أهمية التسامح، أهم ما أنتج في تلك الفترة حدث في بريطانية بعد الحرب الأهلية الإنكليزية، وأنتج مفهوماً للتسامح يخص من اعتبرهم المسيحيين واليهود، (ولم يعتبر أن ذلك يخص الكاثوليك، ولا الملحدين)، تطورت نظرية التسامح لاحقا وأدخلت فيها فكرة فصل (الكنيسة عن الدولة)، التي سيكون لها لاحقاً ما يكون من أثر، وكان قانون التسامح الذي صدر عام 1689م مثالاً على ذلك كله، حيث قدم القانون عفواً للبروتستانت البريطانيين الذين انشقوا عن كنيسة إنكلترا، ولكن ليس للكاثوليك الذين كرَّس القانون عزلهم الاجتماعي والسياسي، ومنعهم حتى من التعليم. فلاسفة التنوير (مثل فولتير) قدموا إضافات أخرى وسعت من مفهوم التسامح. لكن علينا أن ننتبه إلى نقطتين مهمتين هنا؛ الأولى: أن فكرة التسامح في جذرها الأصلي أسست من أجل الخروج بالمجتمع من حرب أهلية داخلية، و وجهت من أجل إحداث تماسك اجتماعي داخلي بين فئات مجتمع واحد.اي إن الأساس في كل ذلك كان لترسيخ و تقوية التعايش مع “الآخر ضمن المجتمع نفسه” و ليس مع الآخر الهلامي الذي قد يمثل كل الأمم الاخرى.
الثانية: أن الترويج للتسامح في تلك الفترة كان ناضجاً وواقعياً بما فيه الكفايةليسمي الأشياء بأسمائها، دون أن ينجر إلى التعميم والمجاملة، فقانون التسامح البريطاني، صنف المنشقين عن الكنيسة بتصنيفات قريبة من تصنيفات الكفر و الايمان وليست هذه دعوى من أي نوع لاستيحاء أي تصنيف كان، لكنه تذكير بأن المواجهة الحقيقية للمشاكل تتطلب هذا النوع من تسمية الأشياء الذي يوضح ضمناً حدود العلاقات وطبيعتها..
وقد انتبه بعض المفكرين إلى أن هذا يشكل فرقاً أساسياً بين فكرة “التسامح”، وفكرة “الحرية الدينية” التي تطورت لاحقاً، فالتسامح يقدم من قبل الفئة الأكثر هيمنة، تجاه الفئات الأقل، وهو موقف قد ينطوي ضمناً على “رفض” لأفكار هذه الفئة أو عقائدها أو سلوكياتها، ولكنه ينطوي أيضاً على “السماح” لهذه الفئة باعتناق عقائدها وممارسة سلوكياتها، وهو موقف مختلف تماماً عن مبدأ “الحرية الدينية” اللاحق، الذي يتضمن نوعاً من المساواة بين كل العقائد، أو على الأقل اللامبالاة تجاهها جميعاً. ومن الواضح أن مبدأ “السماح” لا يتساوى أبداً مع “القبول”.. فهو ينطوي على تقييم معين، فيه سلبية نوعاً ما، ولكن فيه أيضاً تجاوز، وعفو، فالتسامح هنا يمتلك شروطه الداخلية، قد تختلف هذه الشروط من مجتمع إلى آخر، إلا أنه ليس في وارد الدخول إلى خانة المطلق، وقد انتبه فيلسوف مهم مثل كارل بوبر إلى أن هناك حدوداً للتسامحيجب الانتباه إليها، وإلا فإنها ستقود المجتمع الذي تسود فيه ثقافة التسامح إلى الانهيار، بالذات فإن عدم التسامح، مع أولئك الذين لا يؤمنون بالتسامح (النازية مثلاً في مثال بوبر) يدل على وجود “حدود” افتراضية لفكرة التسامح، وكارل بوبر ليس سلفياً، ولا هو ممن يسمونهم المتشددين، لكنه ينبه هنا إلى وجود شفرة اجتماعية داخلية لا ينبغي التضحية بها تحت شعار التسامح، علماً أنه هنا يتحدث عن “التسامح”، وليس عن “القبول” بالشكل المفتوح الذي يروج له عندنا.. والحقيقة أن فهم السياق التاريخي لنشوء فكرة التسامح بمفهومها الغربي، والجدل الدائر حتى ضمن المنظومة الغربية، يجعلنا أكثر تشككاً تجاه ما يروج لقبول الآخر، فموكب الزفة الإعلامية المصاحبة للمفهوم لا يجعلنا نفكر أو حتى نتساءل من هو هذا الآخر ؟ هل هو الآخر الذي احتل بلدي؟ هل هو الآخر الذي يتربص بي وبأولادي وبقيمي؟ ؟ هل هو الذي شرد الملايين؟ هل هو الآخر الذي انتخب رئيساً فعل كل كله؟ هل هذا الآخر هو منظومة القيم التي شرعنت ذلك كله؟ هل هو الآخر الذي وقف معي ضد هذا كله، وخرج بالملايين محاولاً منع ما وقع فعلاً؟ أم هل هو الآخر الذي وجد نفسه محايداً تماماً كما لو أن الأمر لا يعنيه؟ هل المقصود بالآخر هو إيجابيات العلم والتنمية والرفاهية التي أنتجتها؟ لكن ماذا عن التفاعلات الثانوية لذلك؟ ماذا عن سلبيات الحداثة؟
لا أستطيع إلا أن أقرّ بوجود إيجابيات للآخر، إيجابيات مهمة ويمكن أن تساعدني في مشروعي ونهضتي وفهمي وأدائي لهما، لكن هذا يجب ألا يغيب عن بالي وجود“سلبيات” لهذا الآخر، والتمييز بين ما هو إيجابي وما هو سلبي لا ينتج عن “قبول الآخر“، بل عن “معرفته“، وفرق كبير بين “معرفة الآخر” التي تتضمن رؤية نقدية متفحصة للآخر بإيجابياته وسلبياته، وهي هنا جزء من إشارة الآية إلى “ جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا” –الحجرات 13- وبين قبول للآخر كما هو، وتقبله دون تقييم كما توحي النغمة المروجة للقبول..
ولكن الأخطر من هذا كله، هو أن الاستخدام الفلسفي لمصطلح” الآخر“، الذي تأسس على يد “هيغل”، كان يؤسس ضمناً لنظرة أخرى أكثر قرباً من الحقيقة، وأبعد عن نغمة الترويج الوردية، فالآخر عند هيغل، في (ديالكتيك السيد – العبد) كان يرمز للعبد، بينما كانت الذات تمثل السيد، المنتصر، صحيح أن استسلام العبد للسيد، حسب هيغل، هو الذي جعل من السيد سيداً، وإن الخادم صار جزءاً من السيد، أي إن السيد يحتاج الخادم، وإن الآخر هنا صار جزءاً من الذات، لكن اللحظة الهيغلية هنا هيلحظة ما قبل الاستعمار، والسيد الهيغلي كان مهذباً بالمقارنة مع ما حدث بعدها، والمقارنة هي للمفكر الفرنسي فرانز فانون، فديالكتيك الذات والآخر، عند هيغل هو في تكامل حتى لو كان بين السيد والعبد، أما ديالكتيك الذات والآخر في لحظة الاستعمار التي حللها فانون فهو قائم على الهيمنة والتسلط. و في الحالتين فأن استخدام المصطلح يشير إلى مغايرة نسبية، فإذا كان “الآخر” بالنسبة لهيغل ممثلاً في الخادم، و بالنسبة لفانون “العبد المستعمر”، فإن “الآخر” بالنسبة لهذا الخادم والعبد، هو “السيد” وهو “المستعمر”، والعلاقة بينهما، من موقعه على الأقل، هي علاقةالخضوع لهذا الآخرـ خضوع قد يجمّل بأسماء أخرى، ويروج تحت شعارات براقة لتخفيف الذل ووطأة الكلمة الصريحة..و هو أمر يذكر ايضا بمقولة هيغل الأساسية “كل وعي بالذات يطارد موت الآخر”.. فهل قبول الآخر بهذا المعنى هو تجاوز مرحلة الذوبان في الآخر الى التماهي فيه وصولا إلى انتحار الذات؟
لا أستطيع إلا أن أتذكر كل هذا ، وأنا أشاهد هذا الترويج للقبول للآخر، الذي يصر منذ لحظة الاستعمار صعوداً على تقمص الدور الفرعوني،” أنا ربكم الأعلى” و”ما أريكم إلا ما أرى”، هل سيكون قبول هذا الآخر ألا تدريباً للعبيد على أن يكونوا أكثر طاعة وتهذيباً وعبودية. أستطيع أن أفهم التعايش، التعارف، المعرفة – عندما تكون أساساً للعلاقة مع الآخر، لكن هذا القبول المفتوح بلا حدود واضحة لا أراه إلااستسلاماً غير مشروط وغير محدود الأجل حتى لو كان يروج بحسن الظن والنية من قبل البعض..وعلى ذكر حسن الظن والنية، هناك بعض الكتاب، يحاولون الترويج لثقافة قبول الآخر عبر تأصيلها قرآنياً. ويحاولون أن (يخوفوننا) من مصير رفض الآخر، باعتبار أن إبليس كان أول من رفض الآخر!! وعلينا أن نتخلص من كل مظهر من مظاهر رفض الآخر باعتبارها أثراً إبليسياً لعيناً.
المشكلة في هذه الرؤية، أنها تظهر، دون أن ينتبه المروجون إلى أنها تعتبر أنالتعبير الحقيقي عن قبول الآخر هو السجود له!..(حيث إن إبليس رفض السجود والملائكة الذين قبلوا الآخر-!-حسب هذا التفسير قد سجدوا له!!)
ومن حيثيات كل ما سبق، أعتقد أن الكثير من مروجي (قبول الآخر) يهدفون فعلا إلى ترسيخ فكرة السجود للآخر، مع تنزيه الآية القرآنية عن أن يكون لها أي ربط بذلك..
وبالمناسبة: أتمنى من ظرفاء (قبول الآخر)، أن يعتبروا إني أنا الآخر (هذه المرة فقط)، وأن يحاولوا قبولي بنفس الطريقة اللامحدودة، أم أن هذا الشرف محصور بمن هو أشقر فقط؟!..