د.أحمد خيري العمري – القدس العربي
يونيو 2010
http://www.quran4nahda.com/?p=1575
كنت طفلا في الابتدائية عندما حدثت مجزرة صبرا و شاتيلا ..لا أزال أذكر غلاف مجلة عربية كانت حديثة الصدور آنذاك ( انقرضت لاحقا لظروف قاهرة ألمت بالنظام العربي الممول لها) و كان غلاف العدد يصور كومة من جثث الشهداء الفلسطينيين مع عنوان مستفز:”كل مجزرة و أنتم بخير”..
أقل من 30 عاما تفصل بيننا و بين المجزرة، لكنها كانت حافلة بمجازر و كوارث من العيار الثقيل ، لم يكن أولها مذبحة الحرم الإبراهيمي و لا آخرها احتلال بلد عربي بأسره مرورا بمذابح مثل جنين ، قانا الأولى و الثانية ، ملجأ العامرية ،..الخ .
القائمة تطول و التعليق المستفز لا يزال قائما :كل مجزرة و انتم بخير ، و رد الفعل لا يزال هو نفسه ، بتغييرات طفيفة تمس الشعارات المستخدمة و اللغة المستخدمة في رد الفعل، و لكن لا تمس جوهر رد الفعل نفسه : أو اللا فعل بالأحرى..
كل أزمة تمر بمجتمع أو شعب ما، يمكن أن لها أن تكون بمثابة “نداء يقظة”، تستفز هذا المجتمع و تحثه على تجاوز الأسباب و العوامل التي قادت أو سهّلت الوصول إلى هذه الأزمة..
هل هناك فرصة أكثر من كل ما مررنا به للاستيقاظ ؟ هل يمكن تخيل كم هي من الأفعال التي كان يجب أن تنتج ردود أفعال توقف استمرار هذه الأفعال..؟
لكن لا شيء من هذا حدث معنا، دوما رد الفعل يركز على أي شيء إلا الفعل-إلا في القليل النادر..
هناك بعض الأفعال التي ما أنزل الله بها من سلطان و التي توهم فاعلها ( حسن النية غالبا) إنه يفعل شيئا ما، و هكذا كان هناك الصيام من أجل العراق و الصيام من أجل غزة و قيام الليل من أجل غزة..و الرسائل النصية القصيرة التي تتداول ذلك كله..الخ..
هذه الأفعال تضع الشعائر عموما في غير السياق الذي فرضت فيه هذه الشعائر (بل و بسياق بدعي أحيانا، إن شئتم !)..و تركز في أحسن الأحوال على الدعاء باعتباره هو الحل!..و هي نظرة متعسفة و سلبية لمفهوم استجابة الدعاء المرتبط قرآنيا باستجابة الداعي أولا لله عز و جل قبل أن يستجيب الله لدعائه : (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ )..أي أن استجابة الدعاء ترتبط بمنظومة متكاملة و متداخلة من الأسباب و المسببات و ليست حدثا اعتباطيا منفصلا عن سياق التغيير الاجتماعي ككل..
حتى ما هو متداول شعبيا من شروط إجابة الدعاء( مثل الإخلاص و ترك المعاصي و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، عدم الاستعجال) ، كلها في الحقيقة تؤيد ارتباط إجابة الدعاء بمنظومة متكاملة ذات جذور اجتماعية و ثقافية واضحة ، لكن العقل الجمعي بمكرساته التقليدية -التي تفضل التعايش مع الأمر الواقع -استطاع ترويض هذه الشروط و ضمها إلى منظومته الفردية ، فالإخلاص يبالغ في تقديمه كما لو أنه قضية شخصية جدا لا يمكن قياسها أو معرفتها ، رغم أنه مرتبط أصلا بوجود “عمل” ، و بعدها قد تكون مخلصا و قد لا تكون، أما عندما تكون امتهنت بطالتك و احترفت كونك عاطلا مزمنا عن العمل،فالإخلاص ليس قضية هنا، لأنك لم تنجز شيئا أصلا لكي يمتحن إخلاصك فيه ، كيف يمكن لك أن تكون مخلصا أو غير مخلص و أنت تدعو لغزة إذا كنت لم تفعل شيئا يختبر هذا الإخلاص؟..هل دعاؤك هو العمل؟..هل دموعك أثناء الدعاء هي هذا العمل؟ أبدا. الأمر أعقد من ذلك و هو يتطلب حتما عمل مباشر يختبر هذا الإخلاص في الموضوع بعينه..
الأمر ذاته بخصوص ترك المعاصي و إجابة الدعاء:لم نتصور هنا أن المعاصي هي تلك المعاصي إياها فقط ( والتي لم تترك بكل الأحوال!)، و لكن ماذا عن خطيئة أن لا تفعل شيئا في حياتك؟ ..ماذا عن معصية اقترفتها عندما أحجمت عن طاعة كل فعل أمر بالعمل و السعي و الجهاد ورد في القرآن؟..
الأمر ينسحب تلقائيا على الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر: تم توجيه المعنى إلى معروف و منكر محددين و جزئيين و بمعزل عن سياق أكبر: هل هناك منكر أكثر من الواقع الذي نرضخ له بكل تفاصيله؟ هل هناك منكر أكثر من أن تكون أمة محمد بهذا الهوان..هل هناك منكر أكثر من أن تكون امة اقرأ هي الأمة التي لا تقرأ..و التي هي في ذيل الأمم على أغلب الأصعدة..هل يمكن حقا اختزال كل هذا المنكر الذي يجب إزالته إلى سجائر و سماع أغاني..؟..
حتى “عدم الاستعجال” الذي يشترط لقبول الدعاء، يشير ضمنا إلى ارتباط الاستجابة بمنظومة متكاملة من التخطيط للعمل و العمل و الجهد الذي يمثل عمليا “الاستجابة لأوامر الله”.. و التي تتطلب وقتا لكي تؤتي ثمارها بطبيعة الحال..لا يعني هذا انه عز و جل غير قادر على الاستجابة للدعاء فورا، هو الذي نؤمن إن أمره بين الكاف و النون،لكنه لم يستخلفنا في الأرض لكي يستجيب لنا، بل كي نستجيب له!..
العقل الجمعي و لأسباب كثيرة –تاريخية غالبا ولا يمكن الخوض فيها الآن- فضل أن يختصر العمل إلى الشعائر، و هكذا صارت الشعائر هدفا مستقلا معزولا عن معانيها الاجتماعية بدلا من أن تكون وسيلة يومية ننخرط فيها لتساعدنا في أن نكون أفضل.. في أن نتقن، في أن نحدد أهدافنا بدقة، و نحققها بدقة أيضا..
كل المفردات الايجابية التي كانت سببا في نشأة الأمة و نهضتها تم إعادة تأهيلها و هضمها و توظيفها من قبل العقل الجمعي لتكون سببا مساعدا في التعايش مع الواقع المنكر ، في الاستمرار فيما لا يمكن الاستمرار فيه..
على سبيل المثال :الصبر ، المفردة القرآنية التي تحمل إيحاءات مستمدة من تحدي نبتة الصبار لجدب الصحراء و إصرارها على الحياة، صبر أولي العزم من الرسل الذين أعادوا بناء مجتمعاتهم و أممهم،هذه المفردة صارت تستدعي عبر العقل الجمعي مفاهيم مضادة و مناقضة للصبر بمعناه القرآني..صار الصبر يعني محض تحمل لما يجب أن لا تتحمله ، بدلا من أن يكون الصبر على العمل من اجل التغيير..
قد يقول قائل إن أنظمة الحكم مسئولة عن قمع أي عمل أو مبادرة لتغيير الوضع القائم، وهذا صحيح حتما، لكن ما هو صحيح أيضا أن هذه الأنظمة تستمد مقومات بقائها لا من أجهزتها الأمنية فحسب، بل من العقل الجمعي الذي أوصلها أصلا إلى السلطة، في العقل الجمعي الذي روض الجماهير على الرضوخ و الاستكانة لكل متغلب في مباراة الوصول إلى الحكم و من ثم التصفيق و التهليل و الدعاء له..(إلا من رحم ربي و أستطاع أن يفلت من عقال العقل الجمعي)..
علاقة الأنظمة و العقل الجمعي هنا ليست متداخلة كعلاقة البيضة بالدجاجة فحسب، بل هي معقدة كعلاقة التوائم الملتصقة ببعض، موت واحد منها سيكون موت الثاني حتما..العقل الجمعي وفر البيئة الثقافية المناسبة اجتماعيا لهذه الأنظمة، و الأنظمة بدورها كانت الحارس الوفي لبقاء العقل الجمعي على وضعه، فاستمرارها من استمراره و بقاؤها من بقائه..
و هكذا تبدلت أنظمة الحكم و شعاراتها و أيدلوجياتها دون أن يتغير شيء حقا في جوهر النظام.ذهب اليمين و جاء اليسار. ذهب الرجعيون و جاء التقدميون. ذهب أولاد الذوات و جاء أولاد الشعب و الطبقات الكادحة.ذهب الاشتراكيون و جاء رجال الأعمال .و لا شيء حقا يتغير، لا شيء سوى الشعارات..
هذا العقل الجمعي لا يسكن تيارا واحدا كما قد يبدو للوهلة الأولى، أي انه لا يتمثل فقط في التيار الذي يبدو أكثر قربا للتراث بكل ما فيه من سلبيات و إيجابيات، و الذي يستخدم هذا التراث كمرجعية له، العقل الجمعي يتمثل أيضا في مختلف التيارات التي تبدو بعيدة بل و متناقضة ظاهريا مع مسلمات هذا العقل..كل التيارات تلف و تدور و تناور على كل شيء باستثناء الشيء الوحيد الذي يجب فعله:الفعل..في السابق كان العقل الجمعي ينفس عن غيظ الجماهير عبر خطابات “العنتريات التي ما قتلت ذبابة”..أما اليوم فنحن نسمعه يحاضر عن جريمة قتل الذبابة..و النتيجة واحدة في الحالتين:لا فعل!
لا أقصد هنا الحديث عن أصدقائنا من اللاعنفيين فحسب، فالجميع حاليا يبدو حريصا جدا على معاقبة إسرائيل عبر عدم معاقبتها!…الجميع يحاضر اليوم عن استثمار الخطأ الإسرائيلي هذه المرة بعدم الرد عليه..كما لو أنه كان هناك رد في كل مرة سابقة.الجميع يقول لنا إن دعم إسرائيل سيضعف نتيجة هذه المجزرة و يراهنون على المجتمع الدولي في معاقبة إسرائيل، المجتمع الدولي الذي أوجد إسرائيل ظلما و بهتانا بالمناسبة، فلتبشر إسرائيل إذن بطول سلامة!..(إحدى الكاتبات أخذتها الحماسة و أقسمت انه لن يحرر فلسطين إلا….احبسوا أنفاسكم!..اليسار الإسرائيلي!!!)..
المراهنة على المجتمع الدولي في الحقيقة أقل واقعية بكثير من الدعاء و انتظار الاستجابة دون تنفيذ متطلبات استجابة الدعاء..استفتاءات الرأي -في أوروبا تحديدا-تظهر تعاطفا متزايدا نحو القضية الفلسطينية، لكن هذا لن يؤثر على سياسة الحكومات هناك إلا بمقدار ضئيل جدا….العملية الديمقراطية و تداول السلطة تتأثر بالعوامل الداخلية (الاقتصاد،البطالة،قوانين الهجرة..الخ) و نادرا ما تتأثر بقضايا خارجية مثل القضية الفلسطينية..و إسرائيل غالبا تجيد شرح هذا التعاطف المتزايد مع الفلسطينيين على انه عداء قديم للسامية عانى منه اليهود في أوروبا ، و هذا يجند النسبة العالية من المحايدين في الاستطلاع لصالح إسرائيل (أي ممن لا يملكون تعاطفا محددا مع أي من الجهتين و هم لا يقلون عن الخمس و يصلون للنصف أحيانا ) كما أن الاستطلاعات ذاتها لا تزال في أعلى مستويات دعمها لإسرائيل في الولايات المتحدة،بل إنها وصلت إلى أرقام دعم تاريخية في هذه السنة بالذات 2010 كما يشير لذلك إحصاء غالوب (شباط 2010)(63% دعم لإسرائيل مقابل 15% للفلسطينيين و 22% محايدين) .
التعاطف مع القضية الفلسطينية موجود، و لكنه كان موجودا أيضا في فترات سابقة و بأرقام أعلى–فترة مجزرة صبرا و شاتيلا مثلا-و لم يؤد إلى شيء أيضا..التعاطف الإحصائي الموجود لن يغير من حقيقة أهم و تمس صميم العلاقة بين الغرب و إسرائيل:إسرائيل هي جزء من المنظومة الحضارية الغربية،يمكن للغرب أن يعتب على تمادي إسرائيل و يضيق بها ذرعا هنا أو هناك، لكنها ستبقى جزءا منه، و سنبقى نحن خارج هذه العلاقة.
(دعاة التغريب لديهم حل طريف هنا، فهم يعتقدون أننا يمكن لنا أن نكسب معركة التعاطف معنا عبر التغريب الكامل و تقليد الغرب في كل شيء ، من مناهج تعليمنا إلى فهمنا لديننا،مرورا بمسابقات جمال نسائنا، و حتى تفتيح لون بشرتنا..و عندها نتمكن من إثبات تمدننا و تحضرنا للغرب، و بالتالي ربما –فقط ربما-سينحاز الغرب لنا…)
في النهاية:قطيع الخراف المستسلم للذبح قد يثير الشفقة و التعاطف، لكن أحدا لن يقف من أجل القطيع ما لم يكف القطيع نفسه عن استسلامه .. ما لم يكف هذا القطيع عن كونه قطيعا..
لا أنفي هنا إن المجزرة الأخيرة قد تساهم في المزيد من التكريس للهوية الإسلامية في تركيا، و هو أمر نحتاجه نحن بقدر ما يحتاجه الأتراك..
و لا أنفي أيضا أملي أن تساهم “الضجة الإعلامية” في تكريس شيء ما في أطفال اليوم، عسى أن يجعلهم هذا الشيء جزءا من ذلك الجيل الآخر القادم لا محالة..
كل خوفي أنهم سيقلبون القناة على “نيكلوديون[i]” و ستلقنهم هذه القناة كيف أن “نيكلوديون تشبههم”..
تلك مجزرة أخرى، ليس هذا مجالها…
[i] قناة نيكلوديون:قناة فضائية للأطفال تقدم برامج أمريكية 100% مع دوبلاج عربي.