غيرة 2
من غار حراء إلى “بارنز أند نوبلز “..
د.أحمد خيري العمري
غيرتي الثانية من أمريكا كانت غيرة يجب أن يشعر بها كل كاتب عربي…. ويمكنني أن أضيف فأقول: كل كاتب مسلم.. وأستدرك فأقول: كل مسلم… ثم أستدرك مجدداً فأقول: إن كلمة غيرة مخففة أكثر من اللزوم.. ربما كلمة قرحة هي الأنسب.. أو ربما كانت كلمة جلطة “كامنة” أكثر تعبيراً عن الأمر.
نعرف جميعا الأرقام الكارثية لمعدلات القراءة في الوطن العربي، وكما مع كلّ ما هو كارثي عندنا، فإن الإحصاءات لا تحرّك فينا قيد أنملة من رد الفعل.. نعتبرها دوما تخصّ أشخاصاً آخرين ونتجاهل مدلولاتها… لكن هذه الأرقام ستصبح مثل أشباح تطاردنا عندما نرى الفرق الكبير بين أرقامنا وأرقامهم مجسّداً في أشخاص نراهم يتحركون قربنا، ويمشون في الشوارع، ويأكلون الطعام في الأسواق.
طاردتني تلك الأشباح في كلّ مكان في واشنطن العاصمة.. في المترو.. في الحافلة.. في الشارع.. في كلّ مكان.. أشباح لا يراها غيري ولا تخيف أحداً سواي.. لكنها كانت تخيفني لأنها كانت تقول لي كم نحن بعيدون عما يجب أن نكونه!.. وكم هم قريبون- ولو شكلياً- من بعض ما كان يجب أن يكون جزءاً أساسياً من عاداتنا اليومية!.. فإذا بالواقع يكون بعيداً لدرجة أن من يفعلها عندنا قد يبدو غريباً وقد يوصم بكلمات من نوع “معقّد” أو حتى “مجنون”..
أتحدث عن عادات القراءة عند الأمريكيين، رغم أنهم قلقون أيضاً على انحسارها مقارنة بمعدلاتها قبل عقود، ولكنها لا تزال كفيلة بإثارة الغيرة واستنبات القرحة والحسرة عند كاتب عربي يعرف أن كلمة كتاب ناجح في بلاده تعني خمسة آلاف نسخة، وكلمة كتاب ناجح في أمريكا تعني خمسة آلاف نسخة في اليوم!
يقرأ الأمريكيون في كل مكان.. ليس في انتظارهم فقط بل حتى أثناء مسيرهم لمكان ما.. بمعنى أنك قد تصادف في طريقك شخصاً ما يسير مسرعاً وهو يذهب لعمله أو جامعته، وبدلا من أن يركز في الطريق، أو يتأمل في المارة (والمارات!)؛ فهو يحمل كتاباً في يده ويقرأ فيه (كما يفعل الطلاب عندنا مع كتبهم الدراسية في مواسم الامتحانات).. وتكون متأكدا من أن هذا الكتاب لا علاقة له بامتحان على الإطلاق.
هل أحتاج إلى أن أقول إن ما تسبّب في غيرتي الأولى (النظام والانتظام) قد نتج أصلاً عن عادات القراءة.. هل أحتاج إلى أن أصرّح أن القراءة وإن عوملت كعادة أو هواية –مثل الرياضة والتسوق وغيرها مما يملأ وقت فراغ الأمريكيين- إلا أنها كانت سبباً أساسياً في نشوء أمريكا القوية.. كما كانت وستكون دوماً سبباً في نشوء أي مجتمع قوي بغض النظر عن رأينا في ثوابت هذا المجتمع وفي قيمه..
ولدت أمريكا كأمة مستقلة في منحنى تاريخي مهم، شهد انتشار واحدة من أهم مخترعات البشرية: الطباعة… لا أقول اختراع.. بل انتشار هذا الاختراع .. وقد كان لانتشاره في أوروبا أولاً وأمريكا ثانيا –قبل استقلالها- أثرٌ كبيرٌ يفوق بكثير أثر الكهرباء والانترنت على حياتنا اليومية.. قبل الطباعة كانت الكلمة المكتوبة محتكرة من قبل فئة معينة تمتلك المال، وتتمكن من القراءة.. الطباعة حررت الكلمة من هذا الاحتكار، صارت الكتب أكثر انتشارا وأقل كلفة.. ولولا الطباعة لما كان يمكن للإصلاح الديني الذي قاده لوثر أن ينتج ما أنتجه.. قبل لوثر كانت الكنيسة تحتكر فهم الكتاب المقدس، وكان عموم الناس ملزمين بهذا الفهم لأنهم ببساطة لا يملكون الكتاب المقدس ولا يستطيعون قراءته.. الطباعة –التي بدأت قبل خمسين سنة من حركة لوثر الإصلاحية مهدت للحركة، ما كان يمكن لأفكار لوثر أن تهزم الكنيسة لو كان الكتاب المقدس لا يزال محتكراً من قبلها.. لكن خمسين عاماً من الانتشار للكتاب المقدس بين عموم الناس كانت رصيداً إضافياً للوثر.. (يشبه ذلك إلى حد بعيد ما يحدث من نتائج كبرى بسبب ثورة التواصل الاجتماعي كالفيس بوك والتويتر والانترنت عموما.. فقد تحررت المعلومة هنا من قيد المؤسسات الرسمية.. فكان أن أحدثت أثراً مختلفاً جداً)
ولدت أمريكا في خضم هذا الغليان.. الكلمة المطبوعة تنتشر، الأمية تقلّ، ولأن أمريكا كانت بعيدة جداً عن كل أشكال السلطات السائدة والمتناحرة في أوروبا، فقد كان هناك نوع من الحرية سهّل من طباعة ونشر الكتب التي كانت تعاني من القيود في العالم القديم..
“الكلمة المطبوعة” و أمريكا ولدا في وقت واحد تقريبا.. وهذا جعل ارتباطهما وثيقاً للغاية..
كانت الدولة الناشئة تستورد من الكتب أكثر مما تستورد من أي شيء آخر.. وسرعان ما صارت مبيعات الكتب فيها تفوق مبيعاتها في الدولة -الأم: بريطانيا.. وكذلك صارت معدلات الأمية أقل من مثيلاتها في العالم آنذاك.. كانت تجمعات المستوطنين الجدد تناقش كتباً عميقة مثل “المنطق العام” لتوماس بين… وكان تشارلز ديكنز-على سبيل المثال- يعامل كما يعامل اليوم نجوم السينما والاستعراض…
دخلت القراءة في صلب الأمة الناشئة ، فصارت جزءاً من “عقل جمعي” جديد كان يتشكّل بالتدريج.. هل كان محض صدفة أن حق التصويت والانتخاب في الانتخابات منذ مرحلة ما بعد الاستقلال قد اقتصر على القادرين على القراءة والكتابة فحسب أولا؟ .. أليس ذلك تحديداً لمواطن تلك الدولة الجديدة بكونه ذلك القادر على القراءة؟.. هل يمكن إلا أن ينتج ذلك شعباً يقدر القراءة و يعتبرها من أساسات حياته اليومية؟.. صحيح أن منع الأميين من التصويت عُدَّ إقصاءً ضد السود وسكان أمريكا الأصليين (وهو أمر صحيح إلى حدّ بعيد) لكنه في الوقت نفسه شكّل ولابد دافعاً لهؤلاء لتقييم أنفسهم من جديد بناء على هذا المعيار..
لا أقول كل هذا لتمجيد أمريكا.. فالقراءة وسيلة وليست غاية بحدّ ذاتها.. صحيح أنني ككاتب أفضّل القراءة على سواها، وأقول في نفسي “ونعمت الغاية!”.. ولكن ذلك محض تحيز فلا تلقوا له بالاً.. أود من خلال كل ذلك أن أنوّه إلى أن هذه الوسيلة لعبت دوراً في قوة أمريكا وفي نشر وتكريس أفكارها ومبادئها و ثوابتها الأساسية (بغضّ النظر عن توافقنا أو اختلافنا مع هذه الثوابت) إلا أن انتشار القراءة في أمريكا ساهم في تكريس ما قامت أمريكا عليه من قيم ومبادئ.. كانت القراءة هي “الحقنة” التي تم من خلالها نقل كل ما يجب نقله من معايير وقيم للأمريكان.. ولعل الانحسار –النسبي- لمعدلات القراءة (تبقى عالية جدا بالمقارنة معنا!) وتغير نوعية الكتب المقروءة يعكس تغير المرحلة الحضارية.. فعندما كانت أمريكا في مرحلة النمو، كانت الكتب الرائجة تعكس القيم التي ستكون سبباً في قوتها ( وهو ما لا يشترط أن يكون سبباً في قوة غيرها بالضرورة): المنطق العام لتوماس بين (الذي قيل إنه لولاه لما كانت هناك أمريكا )، الكتاب المقدس (الذي قُدم دوما بقراءة مختلفة جعلت من أمريكا هي أرض الميعاد التي تحدث عنها الكتاب المقدس)، سيرة بنجامين فرانكلين، مستوطنة بلايموث (يوميات المهاجرين الأوائل)، أوراق الاتحادي (الذي يحكي قصة الدستور الأمريكي)..، حتى الروايات مثل: كوخ العم توم، ذهب مع الريح، كلها شكّلت أمريكا على النحو الذي جعل منها قوة عظمى بكل ما لها من إيجابيات وسلبيات… وكلها عكست قيماً معينة استندت عليها أمريكا في نهضتها..
أما اليوم فالكتب الرائجة تعكس طوراً مختلفا جداً من أطوار الحضارة الأمريكية.. طور الترف والانهيار (لا يعني ذلك أن أمريكا ستنهار غداً ولكنه يعني أنها استنفذت الكثير من قيمها الأساسية).. الآن الرائج من الكتب يرتكز غالباً على الإثارة (هاري بوتر) والتشويق(دان براون) والصرعات الفكرية العابرة التي لن تصمد لعقد قادم، والتي يصل البعض منها لحدود الدجل الصريح ( كتاب السر مثلا).. والكثير من الترهات التي تعامل عندنا كما لو كانت علماً محسوماً، وهي مجرد صنعة يغلب عليها الحيل والحذق أكثر من أي شيء آخر…
طبعا لا ينفي ذلك كله وجود كتب مهمة فكرياً وأدبياً لها قراؤها ولها جمهورها.. لكن الرائج أو ما يعرف بأفضل المبيعات حالياً يكون في خانة “التسلية” بتنوع تصنيفاتها.. وهو نتيجة نهائية لخضوع النتاج المطبوع لمتطلبات صناعة التسلية التي سيطرت على كافة وسائل الإعلام في الولايات المتحدة والعالم تباعاً..
أين نحن من كل ذلك؟ نحن أسوأ بكثير. لقد مروا هم على الأقل بمراحلهم من القوة والنمو إلى الترف والضعف، وهذا شأنهم.. فما بالنا نحن نحرق المراحل ونتجه فوراً إلى “ثقافة التسلية” والدجل المعاصر مثل “أستطيع أن أجعلك مليونيرا”.. ..الخ.. كما لو أننا تخلصنا من كتب الدجل والشعوذة الخاصة بنا ( تراثية و معاصرة!).. وحتى هذه تبقى أرقامها هزيلة بالمقارنة مع عدد المتحدثين بالعربية.. مصطلح “الأفضل مبيعاً” عندنا قد لا يعني أكثر من بضعة آلاف نسخة، وعندما يتجاوز كتاب ما هذه الآلاف فإن هذا هو الاستثناء الذي يوضع غالباً في خانة “كتب الجنس وأدب الفراش” أو “تفسير المنامات” أو “كتب الطبخ” أو “الغرائب والعجائب والنوادر” التي تلهي القارئ عن واقع غريب عجيب لكننا تعودنا عليه لدرجة التبلد وموت الإحساس…
إذا كانت أمريكا قد ولدت مع ولادة الكلمة المطبوعة، وحملت بصمة ذلك معها.. فإن أمتنا (أقصد الأمة التي كنا ذات يوم ننتمي لها) قد ولدت تحديدا مع الكلمة المقروءة.. ولدت عبر الكلمة المقروءة وليس بالتزامن معها.. لا يوجد أمة في التاريخ تماهت مع كتاب ما كما حدث مع أمتنا.. لا يوجد دين في تاريخ الأديان كانت كلمته الأولى هي “اقرأ”.. لا يوجد تجربة إنسانية حررت الأسرى لقاء تعليمهم القراءة والكتابة.. (هل من معنى أعمق من هذا لفكّ الرقبة؟…أن تفكّ رأسك وعقلك من ما يمنعه من الحركة؟ أن يكون فكّ الحرف مقدمة لفتح العالم ..).
اقرأ –الكلمة الأولى- وهي أيضا جذر للفظ “القرآن ” – الكتاب الخاتم.. كانت بمثابة فكّ لرقبة الإنسان الجديد قيد التكوين من كل ما يمكن أن يقيّد هذه الرقبة – وما فوق هذه الرقبة- لصالح مؤسسات الاستغلال والملأ الحاكم التي يمكن لها أن تقنع هذه الرقبة بأن حريتها هي في عبوديتها لأهوائها الشخصية في سبيل أن تزيد أرباحها وتمتلئ جيوبها…
اقرأ التي هبطت في الغار كانت قراءة جديدة للعالم، رؤية جديدة للعالم و لكل ما فيه عبر أبجدية جديدة.. أبجدية تمنحك الحصانة والمناعة، فلا تخاف من أفكار جديدة أو أيدلوجيات غازية.. لأنك لن تقرأها إلا من خلال “اقرأ” القرآنية.. لن تقرأها إلا لتجعل تفاعلك مع هذا الجديد يزيدك قوة وتأخذ ما يفيدك وتلفظ ما يضرك..
“اقرأ” التي نزلت في الغار، كانت عدسة جديدة وضعها الوحي الخاتم على عين الأمة الجديدة قيد التكوين..
صار القرآن هو العين الذي ترى هذه الأمة من خلالها كل شيء.. تقيّم من خلالها كل شيء..
وبعدها يصبح كل شيء مختلفاً..
*******
حدث هذا في “غار حراء”..
فماذا عن بارنز أند نوبلز؟؟؟
أغلب القراء العرب لن يعرفوا “بارنز أند نوبلز” إلا إذا كانوا قد زاروا أمريكا. الأمر ليس سواء مع ماكدونالد أو بيرغر كنغ أو هارديز أو سب واي أو كي أف سي.. أو تيفاني أو سيفواي .. أو غيرها من المتاجر والمطاعم الأمريكية المنشأ التي نتعثر بها في بلداننا أكثر مما نجدها في أمريكا.. لكن لا “بارنز أند نوبلز” في بلادنا..
بارنز أند نوبلز هو المكان الوحيد الذي أفتقده حقا في أمريكا. أفتقد خفق قلبي عندما أدخله فأجد تلك الصفوف اللامعة البراقة مما يثير لعاب ديدان الكتب وقوارضها من أمثالي..
بارنز أند نوبلز هي أكبر سلسلة مكتبات في الولايات المتحدة، بما يزيد عن 1500 فرع في عموم الولايات المتحدة.. يمكنك أن تذهب وتقرأ وتتصفح الكتب، وتقرض فيها كما تشاء من الصباح حتى المساء دون أن يأتي الموظف المختص وهو يسألك “أية خدمة؟” ويقصد: إما إن تشتري أو تخرج من هنا قبل أن أطردك.
تستطيع أيضا أن تحصل على عروض تفاوضية بأسعار مخفضة.. وأن تشترك لتحصل على تخفيض.. وأن تحصل على عروض خاصة..
لا أريد أن أتمادى أكثر في الدعاية لبارنز أند نوبلز.. ولا أن أبين افتقادي الكبير لفرعه في أرلنغتون حيث كنت أسكن وأقضي أغلب أوقات فراغي.. (ورصيد حسابي!!)..
كل ما أريد أن أقوله هو أن هذا كان يجب أن يكون عندنا..عندنا.. وليس عندهم.. أو على الأقل عندنا كما عندهم.. عندنا قبل عندهم.. نحن من ابتدأ ديننا باقرأ.. نحن من ولدنا باقرأ.
كان يجب أن يكون و لكن.. ولكن.. ولكن…
جواب “لكن” لن يمر دون أن يفجّر تلك القرحة.. وأؤكد لكم أن هذا أمر لا تريدون مشاهدة (أو قراءة) نتائجه..