د.أحمد خيري العمري- العرب القطرية كانون الأول 2007/بتعديل على المقدمة
يونيو 2010
قديما قيل عن أصحاب البدع أنهم يتبعون منهج “الاعتقاد ثم الاستدلال”..أي أن لديهم فكرة آو عقيدة مسبقة، و هم يحاولون تأصيلها عبر البحث عن دليل يسندها عبر إسقاطها عليه..قد يبدو الدليل متماسكا للوهلة الأولى..لكن التفحص العميق لهذا الدليل يكشف عكس ذلك..
مبتدعة اليوم من أدعياء التجديد و سواهم يتبعون نفس المنهج، بمهارات متفاوتة، بعضهم يختار قضايا فقهية شائكة و يستدل عليها بدليل من “المتشابه” فيثير زوبعة من النقد الذي يجعل تقبل فكرته صعبا..
البعض الآخر يختار قضايا أقل إثارة للزوابع، بعيدة عن الفقه الذي يجد دوما من يتصدى له،و تمكنوا بذلك من التسلل إلى أذهان الناس تدريجيا..حتى و إن كانت القضية المطروحة أكثر خطورة على المدى البعيد لارتباطها ببعد عقائدي..
من الأمثلة الواضحة على ذلك القراءة السائدة حاليا لآية الزبد:{فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض} [الرعد/ 17] و هي التي يسميها البعض “نظرية الزبد” وهي قراءة تمرر عقيدة “الداروينية الاجتماعية” بامتداداتها ذات الجذور العميقة في الفكر الغربي المادي..
و الداروينية الاجتماعية اتجاه فكري يربط بين نظرية داروين في علم الأحياء و العلوم الاجتماعية، داروين نفسه لا علاقة له بها من قريب أو بعيد،لكن هربرت سبنسر (صاحب الفكرة الأساسية ) حاول أن يجد في نظرية داروين دليلا يستند عليه في الربط بين عالم الأحياء و بين القيم الأخلاقية، فكما هو الحال مع الطبيعة التي “تقصي” الكائنات الضعيفة و تقضي عليها لصالح الكائنات الأقوى، فكذلك الأمر مع كل شيء في الحياة الإنسانية: من حق الشعوب و الدول القوية أن تستأثر بالثروات و تستعمر أو تسير الشعوب الضعيفة،و من حق الطبقات الأقوى أن تفعل الشيء ذاته بالطبقات الأدنى..
انتشرت هذه النظرية في عهد صعود الفكرة الاستعمارية والامبريالية كما إنها احتضنت و بقوة من قبل “النخب” في المجتمعين البريطاني و الأمريكي ( صعود و نجاح رجل رأسمالي مثل كارينجي صار حقيقة علمية و أخلاقية كما قال له سبنسر شخصيا!)..كما أن “الداروينية الاجتماعية” ساهمت في دعم نظرية “دعه يعمل،دعه يمر” laissez fair التي تهدف إلى استقلال الصناعة عن الدولة بإلغاء الضرائب و التعرفة الكمركية، و التي تجد و منذ سبعينات القرن الماضي رواجا مع رواج اقتصاد السوق المفتوح.. و هذا يعني إن النظرية رغم انحسارها في بعض الجوانب، إلا أنها لا تزال فاعلة في جوانب أخرى، كما أنها صارت جزءا من اللاوعي الجمعي الغربي خاصة بارتباطها بمبدأ البرغماتية..
كيف يرتبط كل ذلك بآية سورة الرعد؟..، كما أسلفنا، منهج (اعتقد ثم استدل) يفعل ذلك و أكثر..فبعض من تأثر بالفكر المادي و حتمياته التاريخية( لا فرق في ذلك بين شقيه الغربي أو الشرقي) يبحث عن دليل لأسلمة الفكر الذي تأثر به حتى لو كان ذلك بشكل غير متعمد..
مفتاح كل ذلك هو الإيمان بأن كل ما يسود و يظهر هو بالضرورة أفضل هو مما سبقه ما دام قد انتصر فعلا، مسألة صلاحيته مرتبطة بهزيمته و حلول بديل آخر عنه بمعزل عن أي ثوابت أخلاقية او عقائدية..بل أن مروجي هذه القراءة يحولونها عمليا إلى عقيدة جبر معاصرة، إذ إنها تروج للاستسلام للوقائع والأحداث والمتغيرات،..إنهم يرون عدم التصدي (و لو بكلمة أو مقالة ) لكل ما يمكن أن يكون مخالفا للعقيدة و ثوابت الشريعة، و لم التصدي أصلا ما دام الزبد سيذهب من تلقاء نفسه كما يزعمون..؟
عقيدة الجبر المعاصرة تتنكر خلف النص القرآني لسورة الرعد، لترسخ فكرة أن كل شيء مخالف للمشروع الإلهي، سيذوب ويختفي ويذهب مع الزبد، أما ما ينفع الناس (أي إنه موافق للمشروع الإلهي) فهو سيمكث في الأرض .. ونحن مطمئنين إلى النتيجتين طبعاً لكن المشكلة في هذه القراءة أنها توحي أن ذلك يحدث “بشكل تلقائي”.. دون تدخل من أحد .. وهذا يرسخ حتماً فكرة “أن لا داعي لعمل أي شيء”، لا داعي حتى للقلق أحياناً، نظرية الزبد كفيلة بكل شيء.. وما علينا سوى أن ننتظر.. حتى لو لم نرَ أي تغيير ضمن حياتنا.. لا بأس.. نظرية الزبد تحتاج بعض الوقت.
* * *
يستوي أمام نظرية الزبد كل أنواع التحديات المخالفة للمشروع الإلهي: الأيدلوجيات والأفكار الحديثة وأنماط الحياة كما الجيوش والقوة العسكرية ونتائجها، كل “الباطل” بالنسبة لهم خاضع لنظرية أنه سيذهب تلقائياً..( أو إنه ليس باطلا ما دام لم يذهب..و هو الأخطر..)
إذا قلنا مثلاً: إن الحروب الظالمة تصبغ وجه العالم، وإن الملايين يشردون كل عام، وأن “الرق الجديد” يضم شعوباً كاملة بدأت تفقد حريتها دون أن تدري ذلك، قالوا: لا داعي للقلق، هذا كله مجرد زبد سيزول بينما يسير التاريخ إلى الأمام، وإذا قلنا لهم: إن الفساد الخلقي بدأ يتسلل ليدمر بنية الأسرة والمجتمع سواء، اعترفنا بذلك أو أنكرناه، وإذا ذكرناهم أن تيارات التجديد الديني المزعوم صارت تستخدم النص الديني من أجل إلغاء النص وقتل مقاصده.. وأن وسائل الإعلام بمخالبها الأخطبوطية صارت تقوم بعملية إعادة تشكيل العقول بحيث تنتج تسطيحاً للعقل وتتفيهاً للفكر وتحويلاً للإنسان إلى” إنسان ذي بعد واحد..”
على الرغم من كل ذلك سيقولون: لا بأس، كل ذلك زبد.. كل ذلك سيزول.. كما يذهب الزبد، لا داعي للقلق، فقط اتركوا السيل يأخذ مجراه.
وكل ما نراه هو أن الزبد يربو أكثر وأكثر، ويتكاثر، مثل دغل شيطاني يمنع نمو أي نبات مثمر.. ويقول أصحابنا، و على وجوههم ابتسامة الواثق من النصر: لا شيء يهم، إنه فقط زبد.
مشكلة هذه الرؤية أنها تعتبر أن “المشروع الإلهي” هو مشروع يقصي الإنسان من الفعل ومن البناء، وأن الأحداث تسير وحدها، دون أن يكون في إمكان الإنسان، المكلف أصلاً بالبناء والاستخلاف، أي شيء سوى مراقبة ما يدور، والتنظير له باعتبار الزبد وذهابه.. إلخ.
والحق أن المشروع الإلهي في أصله قائم على استخلاف الإنسان واستخلاف إرادته الحرة على هذه الأرض، والإنسان الذي سيحترف انتظار أن يذهب الزبد لن يكون جزءاً من هذا المشروع.. بل إنه سيكون برؤيته هذه، وربما بحسن نية، ودون قصد، جزءاً من مشروع آخر، ما دام يعوق التفاعل الإنساني، ويحوله إلى محض انتظار سلبي..
* * *
ولأن هذه الرؤية تتحصن خلف نص قرآني مقدس، نؤمن نحن أن الباطل لا يأتيه من أمامه أو من خلفه، فإننا نؤمن أيضاً أن القراءة الإنسانية للنص المقدس، هي قراءة يمكن أن يأتيها الباطل من مختلف الاتجاهات، وإذا كانت قراءة النص تؤدي إلى اتخاذ موقف السلب والانتظار – مخالفة موقع “الفعل الإنساني” الذي هو أصل التكليف بالاستخلاف – فإنها لا يمكن إلا أن تعتبر “قراءة مجانبة للصواب” كائناً من كان مطلقها ودون الدخول في حسن أو سوء نيته.
إنها قراءة “تبريرية” في أحسن أحوالها.. تبرر العجز والكسل وحالة اللافعل.. تبرر أن الزبد هو الرابي، وهو المهيمن، وهو الذي يكاد يغرقنا ويكسحنا.. وتقول لنا: لا داعي للقلق.. إنه سيذهب جفاء.. بينما يقولون لك ذلك، فإن الآية الكريمة بريئة تماماً من ذلك.. فالآية تقول طبعاً إن الزبد يذهب جفاءً، لكنها لا تقول أبداً: إن ذلك يجب أن يمنعنا من الفعل والعمل بحجة “انتظار” ذهابه، ذلك أن الجزء المتمم للآية الذي لا يمكن أبداً أن نفهم الصورة كاملة إلا به، هو أن ما ينفع الناس يمكث في الأرض، وهذا يعني بوضوح أنه يمكث في باطنها، وأن الناس لن ينتفعوا به إلا إذا استخرجوه منها، أي إذا امتلكوا الوعي والإرادة والفعل اللازم للتدخل.. وهكذا فإن الزبد قد يذهب، بعد أن يكون قد علا، لكن زبداً آخر سيأتي، ويأتي .. ويظل يأتي، ما لم يحدث تدخل يخرج ما ينفع الناس من مكوثه في باطن الأرض.
والذي يحدث الآن أن “الباطل” لم يعلُ فحسب، بل إن هناك تدخلاً واضحاً لاستبقاء الزبد وجعله هو الرابي دائماً وهو المهيمن.. أي إن أهل الحق لا يتدخلون باعتبار أن الزبد يذهب جفاءً، أما أهل الباطل فهم يعملون على إبقائه في القمة.. وهذا يفسر تزايد الزبد و علوه طبعاً..
* * *
أكثر من هذا أن الآية الكريمة نفسها توضح أهمية الفعل الإنساني في إذهاب الزبد وإزالته، فما تشير إليه الآية: {ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله} فلفظة: {مما يوقدون عليه} تشير إلى وجود “فاعل” هو الإنسان الذي سيوقد من أجل تنقية المعادن من الحديد أو النحاس أو الذهب أو الفضة، ابتغاء الحلية أو المتاع كما توضح الآية، وكلها يعلوها “زبد” لن يذهب إلا بالفعل الإنساني الملتحم بالمشروع الإلهي وأوامره.
مفهوم الآية إذن، هو العكس والضد التام مما يرونه فيها، الآية تقول: إن الباطل يعلو (يربو) ولو لفترة من الزمن، ويعني ذلك، أن عليك أن تتصدى لكي تفهم الآخرين أن ليس كل ما يعلو التيار هو صحيح، ذلك أن السيل سيأتي بزبد آخر، وآخر، و آخر، كل ذلك سيكون (رابياً)، كذلك فإن كثيرين سيخدعون به..
أما (الحق) {ما ينفع الناس} فهو يحتاج أيضاً إلى فعل وتدخل، لأنه غالباً ما يكون يحتاج إلى إظهار، في باطن الأرض.. يحتاج إلى استخراج وتنقيب وتمحيص وعمليات تنقية..( علما أن نفس التيار الجبري المعاصر يمتلك مشكلة كبيرة في فهم “النفع” فهو يفهمها بمعناها البرغماتي الغربي الذي يفهم المنفعة بمعنى فردي و آني، بينما مفهوم النفع القرآني يتجاوز ذلك الى مفهوم الجماعة و على المدى البعيد)
وفي الحالتين، فإن المؤمنين بنظرية الزبد، ممن يقولون:أن لا داعي للقلق، سيجدون أنفسهم وقد جرفهم السيل، قد يعتري بعضهم بعض القلق، لكنهم سيتهامسون أن لا شيء يهم، إنه فقط الزبد.. بينما الآية الكريمة تقول لنا، في الحقيقة، أن نعمل على إذهاب الزبد..كي لا نذهب كزبد..