د.أحمد خيري العمري
سبتمبر 2011
قيل لنا إن أول مطعم عراقي سيفتتح في العاصمة التي نعيش فيها..ولم يبد ذلك خبرا كبيرا..فهناك مدن قريبة فيها جالية عراقية أكبر وفيها مطاعم مزدهرة تقدم الطعام العراقي…وقد زرناها على ما تيسر عدة مرات.
لكن في أول جمعة تلي الافتتاح، وجدنا أنفسنا نفتعل سببا للذهاب ، تشجيعا للمطعم وأهله، أو فضولا، أو رغبة في معرفة من سيكون هناك.
قابلتني “الذكريات” في اللحظة التي دخلت فيها المطعم، كنت لم أفق بعد من صدمة “الحصول على موقف للسيارة” عندما سمعت صوتا يقول بدهشة : أحمد ؟..معقول..؟
كانت زميلة لي في الجامعة،لا أريد أن أحسب لكم السنوات التي مضت منذ آخر مرة رأيتها ورأتني فيها ، ولا هي تريد ذلك حتما، ولا أنكر سعادتي ودهشتي لأنها عرفتني على الفور رغم تضاعف حجمي خلال هذه الفترة( تضاعف فعلا، إلا بضعة كيلوات!)أما هي فقد بقيت على حالها ..تفاجئت أيضا بأنها تزوجت صديقا حميما لي في أيام الثانوية ، لم أره هو الاخر منذ سنوات الثانوية ، ولقد نزل وزنه للأسف!..مرا معا على ما يبدو بالدورة التي صرنا نعرفها بـ”دورة العراقي في الطبيعة” منذ الحصار..الخروج من العراق إلى الأردن للذهاب إلى : اليمن أو ليبيا..ومن ثم الذهاب إلى كندا ، للحصول على جواز، بعدها العودة إلى الخليج لكي يتربى الأولاد في بيئة عربية وإسلامية (على أساس!)..لكنهم غالبا ما يضعون أولادهم في مدارس أجنبية .فلا يكون للابتعاد عن كندا أي معنى تقريبا…
هبطت درجات السلالم إلى حيث صالة العوائل..ولم أعرف إن كل درجة تأخذني إلى المزيد من الذكريات، بحلوها وبمرها ..بطيبها وعلقمها..بالدموع في سرائها وضرائها..
قائمة الطعام أثارت ذاكرتي أكثر مما أسالت لعابي..الناس تذهب إلى المطاعم من هذا النوع لتأكل الكباب العراقي أو السمك المسكوف أو القوزي..أي الأطباق الرئيسية التي تقدم للضيوف مثلا في المناسبات…لكن قائمة الطعام ضمت إضافة إلى ذلك قائمة الطعام “البيتية”..الطعام الذي تطبخه أمك بصورة روتينية والذي قد تتأفف أحيانا من تكراره( ثم ياتي وقت عليك تتمنى لو تشم ريحه فقط)….
خطفني طبق “اليابسة والتمن”..من بين كل أطباق الـ (ما لذ وطاب) ، طلبت “اليابسة والتمن”.. وهو طبق رز مع مرقة الفاصولياء البيضاء لا أكثر..(بلا لحم ! وهذا يعد عيبا في تقاليد الأكل العراقية!) وسعره أقل من ربع سعر كل الأطباق الرئيسية..بل حتى أقل من طبق المقبلات، وأكثر قليلا من سعر قنينة الماء..لم أختره لسعره صدقوني!.ولا حتى لموازنة القائمة والأطباق الأخرى..لكن لا أظن إن هناك طبقا آخرا يمكن أن ينبش الذاكرة مثل “اليابسة والتمن”..ليس الفاصوليا التي تطبخ في المنزل، بل اليابسة والتمن..”أكل السوق”…أكل البسطاء الذين يأخذون طعامهم معهم في “السفرطاس” ( لا أعرف كيف تترجم هذه)..أكل الجنود في المطاعم القريبة من كراجات السيارات ، وطلبة المحافظات الذين يدرسون بعيدا عن طبخ أمهاتهم..ويضطرون غالبا للتقتير على أنفسهم..وشراء ما يشبع بأرخص ثمن.
أن تطلب اليابسة والتمن في مطعم كهذا هو كأن تطلب الفلافل في مطعم راقي في دمشق أو الكشري في هيلتون القاهرة أو الهمبرغر في مطعم خمس نجوم في عاصمة غربية..
يمكن أن تأكل الفاصولياء في البيت دوما…لكن أكل المطاعم في هذه الأكلات دوما أطيب لسبب مجهول،يعلله البعض بأن أكل البيت أنظف مما هو في المطاعم، وإن لوساخة المطاعم طعم مميز !…
تلك اليابسة والتمن ، أقسم لكم، أعادت لي حوارات سمعتها بالصدفة، من الطاولة المجاورة في كافتيريا الكلية قبل عشرين عاما، بين طلبة محافظات يتأففون من تكرار اليابسة كل يوم..طلبة لا أعرفهم وكانوا على الأغلب من مرحلة أخرى وربما كانوا من طلبة الطب الذين أعتادوا على المجيء إلى كافتيريا الأسنان (لأن بنات الأسنان أحلى)!
أكاد أسمع حسنين، في مناسبة أخرى، وهو طالب محافظات من الحلة، ينعى حظه، لأنه عندما ذهب إلى بيت جمال ليتناول الغذاء معه، وجد إن والدة جمال، طبخت في هذا اليوم بالذات، يابسة وتمن..بدلا مما تشهاه وحلم به من البرياني أو الدولمة !
نبشت اليابسة والتمن كل ذكرياتي، و سأصدقكم، لم “تيبس” دموعي لحظة واحدة، كل الجو كان عراقيا أكثر مما كنت مهيئا له، بحسنات العراقيين وسيئاتهم، بنزقهم وسموهم..بأعصابهم الفائرة،وقلوبهم الطيبة..
كنت طيلة الوقت، أمدح الطعام، وأمسح دموعي، وأذكر زميلتي الأمريكية التي طالما استهزأت بها لأنها قالت مرة عن طعام أحبته “هذا طعام يستحق أن يموت المرء من أجله”
*****************
قال شاعر يوناني مرة…
لا سفن هناك تجليك عن نفسك…..
وغنى سعدون جابر : اللي مضيع ذهب ، بسوق الذهب يلقاه،.. واللي مفارق محب ،يمكن سنة وينساه ..بس اللي مضيع وطن…وين الوطن يلقاه؟
لذلك لا شيء عندي مهم لأضيفه..غير إني اكتشفت إن الوطن يطلع لنا حتى في المرقة (حرفيا)..
تشتهى طبقا معينا فإذا بالوطن مخزونا في “مونته”…يطاردك في نومك فينبش لك أشخاصا توهمت إنك نسيتهم، ويأخذك إلى قاعة امتحانات مررت بها قبل عقدين، ولا تزال تمتحن فيها بين الحين والآخر في أحلامك..
يطاردك في شريط الأخبار…في ذلك الإحساس المزمن المرير الذي يتملك العراقيين بإنهم “أهم عزيز قوم ذل على الكرة الأرضية”..(والتعبير ليس لي بل للشاعرة ريم قيس كبة)…
يطاردك في كلمة عراقية قديمة تخرج فجأة على لسانك من دهاليز ذاكرتك وقد كان يستعملها معك راحلون أعزاء من أهلك.. ولم تستخدمها مرة في حياتك. لكن هاهي تظهر فجأة دون سابق إنذار..فتجد أبنك يهز رأسه أمامك ..إنه لا يفهمها..رغما عن رائحة أهلك التي تفوح من تلك الكلمات “البغدادية”القديمة..
يطاردك في كل رقم تراه على الشاشة لعدد القتلى الذين سقطوا عبثا..في دوامة عنف لا تزال تشعر بتأنيب ضمير لأنك تركت غيرك يكون حصادا لها….
يطاردك أكثر وأكثر وآنت ترى الشعوب الشقيقة تثور وتحصل على حريتها….
***********
لا سفن هناك تجليك عن نفسك..
ولا حتى جواز سفر جديد لدولة من العالم الأول!..
ستبقى أسيرا دوما “لأستكان” الشاي العراقي…الذي لا يشبه أي من تلك السوائل الأخرى التي يسمونها شاي تجاوزا في بقية البلدان! ..
و لن يكون فك أسرك عملية يسيرة!..
***********************
بخصوص الشاي : كان رائعا أيضا ، رائحة الهيل تكاد تنبش أطنانا أخرى من الذكريات..طبعا لا يمكن لشاي “البيت” ان يضاهي شاي السوق..
اللهم إلا شاي “العمة ناهدة”..عمة زوجتي..
ملحوظة 1 : لست بصدد الدعاية للمطعم. فالطعام كان ممتازا لكن التكييف كان سيئا..فليفرح أولئك الذين يقولون إني “ثورجي” تحت التكييف..
ملحوظة 2 : على ذكر الشاي، أرجو ممن لا يزال في العراق ، ويمكنه الذهاب إلى المنصور،تقاطع الرواد ، أن يوصل سلامي لبائع الشاي “أبو أياد”، الذي كنت أهبط من العيادة ومعي كوبي أحيانا لأملئه منه ،إن كان لا يزال هناك..كشكه كان في مدخل عمارة ميسلون، التي كانت فيها عيادة الدكتور علاء بشير..أمام محلات “بابيت”..وأمام صيدلية ميسون أحمد، وسلامي لها أيضا وللدكتور عماد.