حوار مع مجلة الرائد البغدادية …
مايو 2014
http://www.alraeed.net/uploads/101/index.html
الرائد :هناك الكثير من المناهج التي ظهرت مؤخراً للتعامل مع القرآن الكريم، منها الخرائط القرآنية، ومدرسة العودة إلى القرآن التي يثقّف لها د.مجدي الهلالي، ما الجديد الذي حمله كتاب البوصلة القرآنية؟؟ وما هي ملامح الاختلاف عن المناهج السابقة الذكر؟
العمري :لم أطلع الحقيقة على ما ذكرت من مناهج على نحو يكفي للمقارنة ، لكن كتاب البوصلة القرآنية يشير إلى وجود هوة هائلة بين الفهم السائد التقليدي للخطاب القرآني وبين الخطاب القرآني كما هو عبر القرآن ، يشير إلى عمق الهوة التي أحدثتها تراكمات الأفهام عبر العصور على النص ، الكتاب يشير أيضا إلى ما أعتقد أنه السبب “التاريخي” في بدء هذه الهوة.
الرائد :الحديث عن (إقرأ) وأولويتها على أطوار الخلق التي مرّ بها الإنسان أمر جميل ورائع، لكن كيف يمكن الانتقال بهذا الحديث من الإطار النظري إلى الإطار العملي لاسيما في ظل عزوفٍ عن القراءة بشكلٍ مخيف؟
العمري :هذا العزوف المخيف عن القراءة –كما تسميه- هو نتيجة نهائية لسلسلة طويلة من أنواع أخرى من العزوف ، عزوف الكتاب عن تقديم ما هو جديد ومبدع ، عزوف من يجب أن يروج لهذه الكتب عن الترويج لها ، عزوف من يملكون منابر الإعلام عن رفع مستوى حديثهم بحيث لا يتقولب المتلقي في قالب شديد السطحية والضيق يجعله أميا من الناحية العملية في فهم أي شيء خارج ما كان يعرفه مسبقا ..إلى آخره ، إلى آخره.
شخصيا لا أشكو من عزوف القراء ولم تكن هذه مشكلتي قط.إن كان لا بد من إشارة بأصبع الاتهام فسيكون لبعض موزعي الكتاب ، الحلقة الأشد جشعا في عملية نشر الكتاب ، والتي يؤدي جشعها غالبا إلى عدم وصول الكتاب للقارئ.
الرائد :بالحديث عن الأجيال الحالية وعزوفها عن القراءة أو ضعف تعاملها مع القرآن الكريم، وتداخل الأمور بالنسبة لها، هل من الممكن تقليل دائرة الاهتمام في مشروع التغيير الإسلامي والانتقال لمفهوم الثلّة أو النخبة لإعادة الحياة لهم ومن ثم الأمة؟
العمري :مشروع التغيير الإسلامي عليه أن يتغير أولا!
عليه أولا أن يكون “مشروعا” حقا ، لأنني شخصيا لم أر أي مشروع حقيقي ، رأيت مشاريع هي في حقيقتها “ردود أفعال عابرة” لم ترق لمستوى الفعل الأصلي (وهذا طبيعي في أي رد فعل آني لكنه يجب أن يمر بالنضوج اللازم في مرحلة ما).
على المشروع الإسلامي أيضا أن يكف عن الشعارات البراقة التي تجذب الجماهير ومن ثم تحبطها عندما تكتشف أن ما يروج حقا هو سراب بقيعة. أدبيات ما يعرف بالمشروع الإسلامي مليئة بشعارات ووعود تسحر ألباب الجماهير وخيالاتها دون أن تحرك فيهم وعيهم أو عقولهم..بل دون أن تحفزهم حقا على العمل..باستثناء العمل العابر الذي هو مجرد رد فعل.
وجد المشروع الإسلامي في العموم ضالته في “جمع الجماهير” –كيفما كان- بدلا من رفع وعي هذه الجماهير..تصور العاملون في هذا المشروع أن جمع الناس حولهم سيوصلهم إلى حيث يريدون حتى لو كانت هذه الجماهير ترزح تحت قيود تخلف وجهل ( على فرض أن العاملين في المشروع أفضل حالا!)..النتائج كانت سيئة جدا كما لا يمكن لأي مراقب إلا أن يرى.
مواجهة وعي الجماهير عملية أصعب وأكثر تعقيدا من جمعهم على شعارات براقة. بل هي صعبة حتى بالنسبة للعاملين في هذا المشروع لأنهم في النهاية يحملون نفس الوعي ونفس الأمراض الحضارية…لكن الطرق الأسهل ليست هي الأصح بالضرورة.
الرائد :طريقة السؤال كمنهج قرآني عزف عنه المسلمون اليوم، كيف نحييه في ظل عقولٍ أسّست وفق مفهوم التلقي؟
العمري :لا يمكن أن نعيد الحياة إلى منهجية التساؤل دون أن نواجه أولا ما عبرت عنه بـ “مفهوم التلقي”. ولعل كلمة “التلقين” تعبر عن مقصدك أكثر . لا بد من ضرب هذه الطريقة “قرآنيا”.لا بد من بيان كونها مخالفة للقرآن ونزع شرعيتها وتأصيل مخالفتها للقرآن.
عندها ، سيكون هناك مجال لنمو بذرة التساؤل.
الرائد :العقيدة قبل السلاح.. كيف نبرمج عقولاً بنيت بطريقة معاكسة على هذا المفهوم؟ بل أن أفكارها في انتشار بحكم سوء الواقع؟
العمري :لا يمكن إعادة البرمجة دون الصدام المباشر مع هذا الفهم المعاكس المعكوس ، والصدام المباشر سيتطلب استجواب كل ما أدى إلى هذا الفهم الخاطئ ، سواء كان هذا أقوال وتفسيرات علماء لنصوص قرآنية وأحاديث نبوية ، أو كان معطيات تاريخية فرضت فهما معينا.
بعبارة أخرى : لكي نعيد برمجة مفهوم معين (كما في مثال العقيدة والسلاح الذي تفضلت به) علينا أن نعيد برمجة تعاملنا مع كل ما ورثناه ، بل بالضبط علينا أن نعيد اكتشاف البرنامج الأمثل لهذا التعامل.البرنامج الأقرب روحا إلى القرآن ومنهجيته.
الرائد :هل إيجاد (مدارس قرآنية) مغلقة على عدد من الدارسين يعيدون برمجة عقولهم بتوافق مع القرآن، ومن ثم ينشرون فهمهم له بين الناس عبر مدارس أخرى أمر يتوافق مع ما تتحدث عنه في البوصلة القرآنية؟
العمري :لا أؤمن بإمكانية وجود مدارس قرآنية “مغلقة”.
أجد أن وضع الكلمتين في جملة واحدة أمر عسير على الفهم. قرآن وانغلاق؟ كيف وهو قد بدأ باقرأ؟ كيف وهو يناقش الكفار وغير المؤمنين به ؟ كيف لمدرسة قرآنية أن تغلق على نفسها ومن ثم تتوهم أنها قرآنية.
لا يمكن برمجة “عقلك” قرآنيا في انبوبة مفرغة من الهواء…الطريقة الأمثل والأكثر ناجحا هي أن تبرمج عقلك على القرآن أثناء تفاعلك مع المجتمع من حولك ومع معطيات التغيير ومع الأفهام المضادة ومع المفاهيم السلبية التي تراكمت على نصوص القرآن.
الرائد : هل تعتقد أن إعادة التعامل مع القرآن مسألة مؤسسيّة أم أنها تحتمل الجهود الشخصيّة؟
العمري :لا يمكن لمؤسسة أن “تعيد التعامل مع القرآن” دون جهد فكري شخصي سابق.
المسألة تبدأ بجهود شخصية ، لمفكرين فدائيين يدخلون في ألغام الفكر التقليدي الذي يعزلنا عن القرآن ، ولكن هذه الجهود ستكون ضائعة ما لم تجد مؤسسة تحملها إلى أفق الانتشار والرواج.
ما يحدث لدينا هو العكس ، جهود فكرية لا تجد مؤسسة تنقلها إلى أفق آخر.
ومؤسسات لا فكر لها ، تعيد انتاج نفس الأفكار المكررة منذ قرون.
الرائد :ألا تعتقد أن بذور الشخصية العمرية قبل الإسلام كان لها دورها في انطلاقة عمر الزعيم المسلم وهو يجعل من الفهم العمري للقرآن أمراً خاصاً بشخصيات تمتلك العمق التاريخي العمري؟
العمري :قبل أن ندخل في علاقة “شخصية عمر قبل الإسلام” بفهمه ، أود أن أذكر أن الفهم العمري للقرآن ، هو الذي مكنه من أن يمتلك ذلك العدد من الموافقات مع القرآن الذي لم يمتلكه أي من الصحابة ، إذن الفهم العمري للقرآن هو الفهم البشري الأقرب للفهم القرآني ، هو الذي جعل من القرآن عقلا له ، عمر جعل من القرآن عقلا له ، نظاما لتشغيل عقله ـ وهذا ما أنتج “الموافقات”أثناء فترة نزول الوحي ، وأنتج ، بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام ،كل ذلك الفهم المثمر الذي حقق كل ما حققه عمر ..
بالنسبة لبذور الشخصية العمرية قبل الإسلام ، هي نفسها بذور أبي جهل ، ولهذا فقد قال عليه الصلاة والسلام “اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين” ، مالذي يجمع بين الأثنين ؟ ثباتهما على ما يؤمنان به ، أبو جهل ثبت على ما يؤمن به حتى اللحظة الأخيرة ، وعمر ثبت على ما آمن به ..ولكن شتان بين نتائج ثبات كل منهما…الأمر ليس بما تملكه من مواهب وقدرات ، بل أين تضع هذه المواهب والقدرات.
الرائد :كيف نصل عملياً لمرحلة الفهم العمري للقرآن؟
العمري :بتبني الفهم القرآني للقرآن.والفهم القرآني للسنة.وليس العكس.وهذا يستوجب التخلي (مبدئيا)عن الفهم السائد للقرآن لأنه في أحيان كثيرة الفهم السائد يخلط الفهم البشري الذي تكون في عصور لاحقة ، بالنص وبفهمنا للنص نفسه.
علينا أن نرجع إلى المنبع الأول للنصوص..ونعيد فهمها منطلقين منها ، وليس من فهم بشري ينتمي لأحتياجات ومتطلبات عصر آخر ولكننا قدسناه لأننا اعتبرنا الفهم الأفضل.
الرائد :هل تجد أن ملامح الاسترداد موجودة في الأمة؟ أم لازال البحث عنها جارٍ؟
العمري :ملامح الاسترداد لا يتم البحث عنها.
بل يجب أن نحفر في الصخر لننحتها.ملامح الاسترداد هي مثل ذلك الكنز في القصة المعروفة ،..الكنز الذي سيكون في وصية أب محتضر ، يقول لأولاده الكسالى أن الكنز في مكان ما في الحقل المهمل ، ولا يحدد المكان ، فيقومون بالبحث والتنقيب عن الكنز في كل شبر من الحقل ، ولا يجدونه ، لكن ما فعلوه في الأرض يعيد لها الحياة ويقتل أدغالها…ثم يفهمون الدرس:ما فعلوه هو الكنز الحقيقي..
الرائد :بعد البوصلة القرآنية كان إسترداد عمر، ثم سيرة خليفة قادم.. ماذا يعد د.أحمد العمري لقرّاءه؟
العمري :بين البوصلة والاسترداد عشر سنوات ! وفيها العناوين التالية : ليلة سقوط بغداد ، الفردوس المستعار والفردوس المستعاد ،سلسلة ضوء في المجرة بست عناوين ، رواية أبي اسمه ابراهيم ، سلسلة كيمياء الصلاة بخمس عناوين ، رواية ألواح ودسر !
سؤالك يعني ضمنا أن الكتب لم تصل للعراق!…هل سنقول أن عزوف القارئ العراقي هو السبب؟! قطعا لا..ليس هذا هو السبب ،رغم كل الظروف السيئة التي مر بها العراق في هذه السنوات العشر.
الرائد:هل هناك كتاب يروقون للدكتور أحمد العمري؟ وما هو آخر كتاب قرأته؟
العمري :بالتأكيد هناك كتاب كثر يروقون لي.آخر كتاب قرأته هو رواية الحفيدة الأمريكية للعراقية المبدعة إنعام كجه جي.
الرائد :كلمة أخيرة من وحي كتاباتك توجهها لقارئ مجلة الرائد العراقيّة؟
العمري :أقول للعراقي الذي أنا منه وهو مني : لقد غسلوا دماغك بمقولتي “أهل الشقاق والنفاق” و”قرن الشيطان”..حتى جعلوك تقتنع بذلك ، وصرت تقول “ميصير لنا چارة “.
آن الأوان أن تقتنع أنك جمجة العرب!
وأنه “أكو چارة “، ولكن ثمنها باهظ جدا ، يتمثل في “فرمتة” كل ما علموك إياه سابقا.