د.أحمد خيري العمري
ديسمبر 2014
لا تفكر
سنة بعد سنة، منذ ثلاث أو أربع سنوات، وأنا أضع منشوراً واحداً عن مولده عليه الصلاة والسلام، هذا هو نصه:
(عندما ولد عليه الصلاة والسلام..
لم يحدث شيء استثنائي قط
لم يحدث شيء مما قيل لنا على المنابر وحشوا رؤوسنا به.
لم يولد عليه الصلاة والسلام مختوناً.
لم تنطفئ نار المجوس.
لم ينشق إيوان كسرى ولم تسقط أربع عشرة شرفة منه.
لم تجف بحيرة ساوة.
ولم تنتكس الأصنام في مكة.
كل ما قيل لنا، عبر الأجيال، وما تناثر في قصائد المديح التي تقال في المناسبات، وتسلل إلى وعينا حتى صار من بديهيات (المناسبة)، كله لا يستند إلى دليل شرعي صحيح، واستند إلى أحاديث موضوعة أو لا أصل لها أو ضعيفة في أحسن أحوالها..
كلها تسللت إلى وعينا الجمعي في مطلع عصور التدهور، عندما بدأ المسلمون يفقدون (وعيهم) بالمكانة الحقيقية لنبيهم الكريم، خاتم النبيين وصاحب المعجزة الوحيدة المستمرة، المعجزة الوحيدة التي اعتمدت على (إعمال) العقل، بدلا من (إعجازه) كما حدث في المعجزات السابقة..
عندما بدأ المسلمون يفقدون استشعارهم لاستمرار هذه المعجزة، بدؤوا يبحثون عن (معجزات) أخرى.. بدؤوا يأخذون من الأمم الأخرى والديانات السابقة مبالغاتهم وغلوهم تجاه أنبيائهم..
وكان أن تسربت كل تلك الخرافات المحيطة بمولد النبي الكريم، البعض منشغل بالبحث عن كون الاحتفال بدعة أو غير ذلك ، لكن هناك بدعة أخطر من الاحتفال ، هي (بدعة) الرؤية السائدة التي تخرج الرسول الكريم عن أعظم ما فيه: عن كونه قد فعل كل ما فعل بجهد بشري استحق التأييد الإلهي.. عن كونه (القدوة) التي يمكنك أن تقتدي بها، لا الرجل الخارق الذي لن تفكر أصلا بتقليده..
لم تنطفئ نار المجوس بمولده عليه الصلاة والسلام..
ولم ينشق إيوان كسرى.
ولا حتى انتكست الأصنام..
كل ذلك حدث فعلاً، لاحقاً، وأدت له سيرة حياته الكريمة المليئة بالجهد والعمل والفعل..
نعم، لقد أطفئت نار المجوس..
وشق إيوان كسرى..
وانتكست الأصنام على يديه
لكن ذلك لم يحدث قط بمولده
بل عبر حياته كلها.. بمجملها
حياته التي علينا أن نتبع خطواتها..
خطواته التي تقول لنا:
قوموا من خرافاتكم إلى نهضتكم، يرحمكم الله)..
انتهى المنشور.
******
أنشر هذا المنشور منذ ثلاثة أعوام، هذه هي السنة الرابعة على ما أظن..
وفي كل سنة، تزيد نسبة المؤيدين لمجمل المنشور، ولكن تزيد حدة المعترضين على نحو غريب، كلمة (الحدة) هنا غير دقيقة، ففي ذهني شيء آخر تماما.. خاصة أن المنشور في السنة السابقة قد أتاح لي أن أتعرف على الخلفية العامة التي جاء منها بعض أكثر المعارضين حدة وعداء.
للوهلة الأولى، تتخيل أن من يرفض هذا الطرح، أي من يتمسك بهذه الخرافات، قادم من خلفية متواضعة التعليم، وأنه لم ينل قسطاً مهماً من الدراسة والعلم.. وأن دفاعه هنا هو من باب تبعيته لما تربى عليه.
لا شك في وجود هذا النوع، لكن المثير هو أن رأس الحربة في العداء والرفض، وأولئك الذين بلغوا حدوداً هستيرية في الرفض، هم أشخاص نالوا قسطاً كبيراً من التعليم في الغرب، وبعضهم يعمل أصلاً في الغرب.. أكرر: شهاداتهم علمية، ومن الغرب، وموقفهم العدائي هنا ليس دفاعاً عن ثوابت الإسلام أو فروضه (لم أر منهم شخصياً أي موقف تجاه هذا) لكنهم يتخذون موقفاً متشدداً جداً للدفاع عن خرافات منسوبة للرسول عليه الصلاة والسلام، أو على الأقل للدفاع عن ما لم تثبت صحته..
الانفصام الموجود، بين التخصص العلمي والإيمان بخرافات ليس جديداً، وهو أمر يستحق التوقف والدراسة بلا شك، وكلما فتح هذا الموضوع، أو كلما رأيت ممارسة خرافية بحتة، من شخص يفترض أنه علمي (طبيب، مهندس، أكاديمي… إلخ) تذكرت طبيباً مختصاً من الولايات المتحدة في عاصمة عربية، وعمله المهني ناجح تماماً، وهو خطيب جمعة في أحد المساجد، وخطبه تشهد له بأنه يؤمن بأن الأولياء يحيون الموتى!
والطبيب المذكور يمثل حالة متقدمة من الفصام، وربما يكون لانتمائه لطريقة صوفية شديدة الغلو بعض التفسير، لكن هذا أيضاً جزء من الفصام في نهاية المطاف.
المعترضون بشدة لم يكونوا ينتمون بوضوح لطريقة صوفية، كانوا قد تربوا فحسب في رعاية المؤسسة الدينية التقليدية، وهي تحتوي على قدر من التصوف لا يمكن إنكاره، ولكن موقفهم كان في حدته يوحي بشيء آخر. بشيء أعمق من مجرد الوفاء لما تربوا عليه، كان هناك نوع من الهلع، كان اعتراضهم يوحي بوجود نوع ضمني من (الإنكار)، أحدهم وضع صفحات من كتاب معروف يناقش فيه مؤلفه أحاديث المولد ويضعها في موضعها الحقيقي بين الضعيف والموضوع وما لا أصل له أصلا.. وكان يصر أن المؤلف يثبت صحة الحديث، عكس ما هو موجود في الصفحة التي وضعها بنفسه، كما لو كان عاجزاً عن قراءة ما كتب حقاً..
الوضع غريب، أغرب بكثير من مجرد تناقض لا يسلم منه بشر..
كان ثمة عاطفة مشبوبة في دفاع البعض..
حرارتهم في الدفاع عن خرافات المولد كانت نابعة من خوف حقيقي على الدين..
أو حتى أكثر من مجرد خوف.
***************
تعاملت المؤسسة الدينية التقليدية، مع هذه القصص (الخرافية بطبيعتها) كما لو كانت تتعامل مع (معجزات) للرسول عليه الصلاة والسلام.
أي أنها تعاملت معها، في موسم المولد النبوي واحتفالياته، كما لو أنها تتعامل مع براهين نبوته عليه الصلاة والسلام.
والمعجزة بالتعريف هي (برهان نبوة)، والفرق بين معجزات ما قبل القرآن، ومعجزة القرآن، هو أن هذا البرهان كان ذا طبيعة حسية في أنبياء ما قبل القرآن (عصا موسى، إحياء الموتى… إلخ) ، وهي في غالبها موجهة نحو (غير المؤمنين)، والهدف منها هو خضوعهم أمام هذا البرهان الذي يجعلهم يسلمون بنبوة النبي صاحب المعجزة، ومن ثم يؤمنون به ويتبعونه.
معجزة القرآن كانت مختلفة بطبيعتها، فهي لم تكن خارقة حسية مثل عصا موسى أو إحياء الموتى، لم تكن تخاطب الحس في الإنسان، بل كانت تخاطب العقل فيه، كانت تطلب منه التفكير فيما يقول هذا القرآن..
بعبارة أخرى: معجزة الحس، كانت تطلب إيقاف العقل: ترى شيئا خارقاً، فتتوقف عن الجدال، توقف عقلك عن الرفض، وتتبع صاحب المعجزة.
معجزة القرآن على العكس من ذلك، كانت تطلب إعمال العقل.. كانت معجزة من طرفين، طرفها الثاني هو المتلقي الذي يتفاعل معها فيعمل عقله في آيات هذا القرآن، وبعدها يبدأ سلسلة تفاعلات تغير كل ما فيه.
هذا بالذات هو ما يجعل معجزة القرآن مستمرة.
لا أحد يعلم أين هي عصا موسى، والميت الذي أحياه السيد المسيح مات مجدداً..
لكن معجزة القرآن مستمرة.
بتعبير أدق: الاستمرارية كامنة فيه، لكن أغلب التعامل السائد مع القرآن لا يحقق ذلك، ولكن هذا موضوع آخر.
ماذا عن المعجزات الأخرى للرسول عليه الصلاة والسلام، ذات الطابع الحسي الأقرب إلى طبيعة معجزات ما قبل القرآن؟
هناك حوادث كثيرة (خارقة للعادة) ولكنها حصلت أمام المؤمنين وليس أمام الكفار، وهذا يخرجها عن تعريف المعجزة..
وهناك حادثة واحدة فعلاً يمكن أن تقترب من ذلك، وهي (انشقاق القمر)، ولكن سيبقى القرآن هو المعجزة المستمرة.
******
المؤسسة الدينية التقليدية، بحكم تقادمها وتراكم التكلسات عليها، عاجزة عن إخراج جوانب إعجازية مستمرة من القرآن، ببساطة هي تعيد وتصقل ما كرره الأولون والمتقدمون، ونادراً ما يكون هناك جديد فيما تطرحه.
بعبارة أخرى: جمهور المؤسسة الدينية التقليدية، لا يستشعر معجزة القرآن حقاً، لا يستشعرها من حيث أنه يجب أن يكون الطرف الآخر للتفاعل مع القرآن الذي يغيره ويقوده إلى حيث يجب أن يكون.
لذا فالمؤسسة لها آليات أخرى تعوض هذا الفراغ في العلاقة مع القرآن.. آليات لا داعي حقاً لذكرها الآن ولكن قليلاً من التفكر فيما حولنا من (نشاطات)، سيجعلنا نفهم ذلك.
ضمن ذلك، يأتي دور المؤسسة الدينية في التعامل مع خرافات المولد كما لو كانت معجزات للرسول عليه الصلاة والسلام.
يتم التعامل مع هذه القصص كما لو كانت حقائق مطلقة محسومة، ولأن بعضها على الأقل له طابع (ملحمي) فإنها تقع في نفوس وعقول الأطفال الذين يحضرون هذه المناسبات موقعاً مختلفاً جداً، بطريقة ما تلعب هذه القصص دوراً تأسيسياً في إيمان هؤلاء الأطفال.. لقد انشق إيوان كسرى يوم ولد، لقد جفت بحيرة ساوة يوم ولد، لقد ارتكست الأصنام في مكة، لقد ولد مختوناً.. لا بد أن يكون نبياً إذن.. لا شك في ذلك..
هناك جيل من الصغار، بني إيمانه على هذه القصص.
لا أقول إن الأمر كان مقصوداً.. ولكن هناك طبيعة خيالية في هذه القصص لا بد أن تكون جاذبة للأطفال.
كبر الأطفال لاحقاً، بعضهم تفوق ونجح في مجال تخصصه، وبقي محافظاً على التزامه وإيمانه، لم يجد الوقت لتتقية إيمانه مما يتعارض مع ما درس، أو أنه فصل بين الأمرين تماماً، وأبقى كلاً منهما في خانته..
وكانت خانة الإيمان، ترتكز، بطريقة ما، ضمن ما ترتكز عليه، على قصص المولد..
حتى وإن لم يكن ذلك واضحاً..
لكنه بقي بعمق في إيمان طفل متشبث بما صدقه.
*******
باختصار، دفاع هؤلاء عن هذه الخرافات هو دفاع عن إيمانهم.
لقد بني إيمانهم على هذه القصص..
وإيمانهم هو هويتهم، طوق نجاتهم وطوق نجاة عوائلهم..
ثم يأتي من يقول إن هذه القصص أكاذيب وخرافات!
ذلك بالنسبة لهم يهدد كل شيء..
كل شيء..
لذا فالدفاع عن هذه القصص (الخرافية) قد يبدو في لحظة ما كما لو أنه دفاع عن الإيمان والإسلام، بل إن بعضهم، في حمية الدفاع، يقول معترضاً على الربط بين التصديق بالخرافات والواقع المتخلف الذي نعيشه، يقول: انظروا إلى الهند وأوثانها، رغم ذلك فيها نهضة.. عملياً هم يقرون أن الخرافات التي يدافعون عنها يمكن أن تكون في تصنيف واحد مع ( وثنية) الهند!..
الدفاع يتخذ عدة مستويات ومراحل، كل مستوى منها يمثل مشكلة متأصلة في العقل الجمعي:
أولا – الدفاع التقليدي المزمن عن الأحاديث الضعيفة! علما أن بعض هذه القصص ليست ضعيفة أصلاً، بل هي موضوعة، أو لا أصل لها (كما سيأتي تفصيل ذلك لاحقا).
هذا الدفاع التقليدي لا يجد غضاضة في أن يقول: العلماء يجيزون الأخذ بالأحاديث الضعيفة في فضائل الأعمال! والسؤال هنا: أي عمل فضيل هذا الذي يمكن أن يتأتى من التصديق بخرافة؟! وأي عمل فضيل هذا الذي يكمن في إخراجه عليه الصلاة والسلام عن بشريته؟! هذا الحديث الضعيف يعبر عن عقيدة! وهي عقيدة خاطئة ولا تنسجم مع عقيدتنا في الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام أجمعين.
القول يقال بتلقائية من تعود أن يدافع عن الحديث الضعيف مهما كان نوع هذا الحديث، وبمعزل عن جوهره، سيأتي هنا من يبكي ويتباكى ويدافع عن أثر الحديث الضعيف بكونه (سيحبب الناس فيه عليه الصلاة والسلام)، هل عدمنا الأحاديث الصحيحة التي تحببهم فيه حتى صرنا نلجأ إلى الأحاديث الضعيفة والقصص الخرافية حتى يحبه الناس؟! هل الأمر سيئ لهذه الدرجة؟
أليست محبة الرسول عليه الصلاة والسلام حسب القرآن هي باتباعه؟ فهل كان في منهجه وحياته ما يدل على هذه القصص أو يقترب منها؟ هل تحبيب الناس به عليه الصلاة والسلام يكون عبر تقديمه بصورة هي أقرب إلى أفلام الرسوم المتحركة والخيال العلمي، بدلاً من تقديم منهجه والقيم التي جاء بها وشمولية أخلاقه وبشريته عليه الصلاة والسلام، هو الذي كان يقول عن نفسه: إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد ببطن مكة ، وليس (أنا الذي انشق إيوان كسرى يوم ولدت!)، هو الذي يوم أراد أن يعرف عن نفسه ويجمع قومه عليه يوم حنين قال بأعلى صوت: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب ، وهو الذي كان يخصف نعله ويخيط ثوبه ويعمل في بيته كما يعمل أي شخص..
هذا هو النبي الذي يمكن أن يكون قدوة، لا يمكنك أن تقتدي برجل خارق قادم من قصص الخرافة والخيال اللاعلمي، القدوة بالتعريف يجب أن تكون (بشرية)، تملك ما هو مشترك معها بحيث يمكنك أن تبني على هذا المشترك لتطوير ذاتك عبر الاقتداء بها، إما أن تبني العلاقة معه على أساس قصص لا أساس لها، فهذا يمكن أن يقود إلى أي شيء غير الاقتداء.
ثانيا – الدفاع عن هذه الأحاديث بمعزل عن صحتها أو ضعفها أو محتواها لمجرد أنها وردت في كتب الأولين وسلف الأمة. والأولون وسلف الأمة، لقبان مطاطان جداً يمكن أن يمتدا ليشملا عصور انهيار الأمة ودخولها في عصور انحطاطها.
الدفاع هنا ليس فقط عن (حديث) أو قصة، بل عن قدسية الماضي كله، قدسية كل من انتسب إلى الماضي سواء كان من القرن الثامن أو القرن التاسع الهجري أو كان من القرون الأولى الأقرب لعصر النبوة.
الكل يكرر: كل يُؤخذ من كلامه ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر!.. نظرياً نعم، الكل متفقون على هذا، لكن عندما تدق ساعة الحقيقة ويكون لا بد من تطبيق هذا، فإن كل أدوات الشرط والاستثناء واللف والدوران ستكون جاهزة للاستعمال من قبل البعض على الأقل، المهم أن لا نرد قول فلان الفلاني من أعلام الأمة!.. لا أتحدث هنا عن قصص وخرافات المولد فحسب، لكن هذا النمط من التفكير الذي يقدس الماضي ويخرجه عن بشريته سائد جداً، وهو يشكل عقبة أمام أي تطور طبيعي أو أي نهوض أو حتى محاولة نهوض.. مجرد وجود حادثة في (الكتب القديمة) كافٍ لكي يجعل البعض يدخلوننا في متسلسلة: تقبلتها الأمة بالقبول و (لا تجتمع أمتي على ضلالة) إذن هذه القصة ليست ضلالة! علماً أن (لا تجتمع أمتي على ضلالة) ليس صحيحاً بإطلاقه، وأنه لم يحصل اجتماع أصلاً على هذه (الضلالة) لأن من ضعَّف هذه القصص ورفضها هم أيضاً من هذه الأمة ولم يأتوا من أمة أخرى.
ثالثا – رفض توقيت الحديث عن هذا بسبب الأزمات التي تمر بها الأمة: هناك العويل المعتاد الذي أسمعه شخصياً من عقود، وهو مستمر قبلها بكثير، الفكرة هنا هي رفض الحديث عن أمور معينة بحجة أنها قد تفرق الأمة، بعبارة أخرى: نميع المشكلة بانتظار أن يجتمع الصف ويقوى ومن ثم يمكننا لاحقاً مواجهة هذه القصص كلها… إلخ.
لدي خبر سيئ لأصحاب هذه الحجة: الأمة تفرقت منذ ألف وأربعمائة سنة تقريباً!
لا أعرف إن كان قد وصلهم هذا أو لم يصلهم باعتبارهم يدفنون رؤوسهم في رمل مستورد من كوكب آخر، لكن الأمة تفرقت فعلاً منذ مدة طويلة، وأغلب اصطفافاتنا الحالية قائمة على هذا التفرق الذي ظل يولد تفرقات متجددة دوماً..
سيقولون لا، لا نقصد هذا التفرق، نقصد الظروف الحالية التي نمر بها حالياً..
عمري تجاوز الأربعين بسنوات، ولا أذكر أي فترة كان يمكن أن نتحدث فيها عن هذه الأمور حسب هذا المنطق، دوماً ثمة مصيبة تحدث في الأمة، دوماً ثمة ظروف دقيقة تحتم السكوت والصمت ومراعاة هذا الجانب أو ذاك..
هل ستبقى هذه القضايا مؤجلة بسبب مصائب الأمة المستمرة منذ قرون وبنجاح ساحق؟
ماذا لو كان الأمر معكوساً؟! ماذا لو كانت دوامة المصائب المستمرة هي النتيجة الطبيعية الحتمية لهروبنا المستمر من مواجهة مشاكلنا على نحو جذري؟!
لن أدعي هنا أن فتح ملف المولد النبوي ورفض الخرافات المنتشرة فيه سيحل كل مشاكلنا تلقائياً، لكن رفض خرافات المولد هو جزء من تغير نمط التفكير السائد الذي أزعم أنه سبب أساسي من أسباب مشاكلنا وأزماتنا..
أن ترفض خرافات المولد لأنها لم تثبت ولأنها تعارض جوهر العقيدة الإسلامية في نبوته عليه الصلاة والسلام، فهذا يعني حتماً أنك قادر على مواجهة مشاكل أخرى بنفس الطريقة، بل يعني أنك قادر أيضاً على تنقية الموروث الديني من السلبيات التي تراكمت عليه سواء كانت هذه السلبيات ناتجة عن أحاديث ضعيفة أو موضوعة كما في خرافات المولد، أو عن فهم سلبي خاطئ لأحاديث صحيحة ونصوص ثابتة.
رابعاً – الدفاع عبر الهجوم المضاد: هناك نمط من الردود تتعمد الرد على شيء آخر لم يرد أصلاً لا تصريحاً ولا تلميحاً في أمر رفض خرافات المولد، هذا الهجوم المضاد صادر عن نوعين غالباً: نوع يحاول أن يستنتج ويدافع عما يتوقع حدوثه (دون دليل) ونوع آخر يطلق قنابل دخانية بقصد التشويش على الجمهور وإلهائه عن الموضوع الأصلي، فمن السهل جداً أن تجد من يرد على خرافات المولد بالربط بين رفضها وبين رفض (المعجزات) بشكل عام، وخاصة حادثة انشقاق القمر (التي لا علاقة لها بالمولد من قريب أو بعيد)، علماً أن خرافات المولد وردت في أحاديث لم تصح، بينما انشقاق القمر جاء في القرآن الكريم! والربط بينهما يدل على مشكلة عميقة في التمييز والتصنيف بين أهمية المصدرين.
من أمثلة الهجوم المضاد أيضاً: الدفاع عن هذه الخرافات التي وردت فيما لم يصح ولم يثبت، عبر القول إن هذا الهجوم هو مقدمة للهجوم على الأحاديث الصحيحة، بل وإنها مقدمة للهجوم على صحيح البخاري شخصياً (والبخاري بريء تماماً من أي من خرافات المولد لكنه يستخدم هنا لإثارة التعاطف والمبالغة في خطورة الموقف!)، هذا الربط لا سند عليه ولكنه يضع المتلقي في موقف محرج حائر بين رفض الخرافات، وبين التصور بأن هذا الرفض سيفتح أبواباً أخرى تتجاوز الخطوط الحمر.
الهجومان المضادان على بعدهما عن الواقع وعن العلمية حدثا من قبل أشخاص لديهم حرف الدال يسبق أسماءهم الأولى، علماً أن كاتب المقال قد سبق له أن تصدى لهجمة منكري السنة النبوية بمجموعة مقالات، وموقفه واضح جداً من الأحاديث الصحيحة.
خامساً – الربط بين رفض الخرافات وبين تحريم الاحتفال بالمولد النبوي: لا علاقة بين الأمرين من قريب أو بعيد، لكن الكثير من المعارضين لرفض خرافات المولد يوردون أدلة الاحتفال بالمولد النبوي وأهمية أسماء العلماء المجيزين له وعدم حرمته أو تبديعه، بعض هذه الردود تكون من باب (التلقائية)، حيث تشبع البعض بالجدل حول هذه النقطة حتى صار كل ما يتعلق بالمولد النبوي يستلزم بالضرورة (تنزيل) جدال مشروعية الاحتفال أو عدم مشروعيته.
كذلك ربما كان هذا الربط غير المنطقي يهدف إلى وضع رافضي خرافات المولد في خانة واحدة مع القائلين بحرمة الاحتفال بالمولد، وهؤلاء بدورهم ينتمون إلى تيار يكاد يحرم حتى التنفس، وهم رغم اختلافهم عن تيار الخرافات، إلا أن أثرهم النهائي لا يقل سلبية عن أثر الخرافيين، ويمكن اعتبارهم معاً من مصائب العقل الجمعي وكوارثه التي اجتمعت على أمتنا دون أن يقلل أحدهما من خطر الآخر.
سادساً – القول بأن من يروج للرفض يهدف للشهرة أو ما شابه: الكل يقول دعونا في الفكرة واتركوا الشخص، وغالباً يسقط من يقول هذا تحديداً في فخ ما ينهى عنه: فلان (يعمل بلوكات)، فلان فظ، فلان لا يرد على أسئلة المتابعين، فلان لم يعلن موقفاً من كذا أو كذا، فلان موقفه السياسي كذا، هذه جملة من الأوصاف الشخصية التي لا تمس من قريب أو بعيد جوهر الكثير من موضوعات الخلاف السائدة.
ما دام موضوع الخلاف الفكري ليس عن (السلوك) وليس عن (حسن الخلق) فأي كلام عن سلوكيات أي من طرفي الخلاف لا معنى له، وأبعد من ذلك هو الكلام عن نية أي شخص من الطرفين، كيف يمكن معرفة نية اي منهم أصلاً، ولماذا من يرفض الخرافات هو صاحب نية الشهرة وليس من يدافع عنها مثلاً، بنفس المنطق.
***********
هذه جملة من مستويات الدفاع عن خرافات المولد والحرص على إبقائها كما هي ، وكلها تعبر عن أمراض عميقة في العقل الجمعي ويمكن متابعتها ذاتها في الكثير من الموضوعات الأخرى، نفس آلية التفكير تظهر في كل مناسبة، وتظهر معها عورات العقل الجمعي التي تعرقل النهوض وطرق التفكير السليمة، بل تعرقل حتى النظر إلى جوهر الإسلام ومقاصده وآلياته..
ولكن فلننظر الآن إلى التحقيق الحديثي (النقلي) حول هذه الخرافات، واحدة واحدة.
أولاً – تذكر أحياناً أساطير غريبة وركيكة عن زواج والدي الرسول عليه الصلاة والسلام، فيذكر منها أن عبد الله في طريقه للزواج من آمنة مر بكاهنة يهودية عرضت نفسها عليه مقابل مائة من الإبل فامتنع وقال قصيدة في التعفف عن الحرام، ثم ذهب فتزوج من آمنة بنت وهب، ولما رجع مر بالكاهنة فدعته نفسه أن يفعل ما امتنع عنه أول مرة! فقالت له (إنها لا تفعل ذلك عادة!!) ولكن كانت رأت فيه نور النبوة (!) فأرادت أن يكون فيها ولكن شاء الله أن يكون حيث أراد.. (رواه ابن عساكر). والرواية كما يقول د. أكرم ضياء العمري (منكرة سندا ومتناً) علماً أن الكثير من الوعاظ المعاصرين يستخدمونها على ما فيها من علل قادحة، ولو كان هناك إعمال لأبسط آليات العقل، لكان هناك سؤال: ومن الذي عرف أصلاً ما دار من حوار بين الكاهنة ووالد النبي؟! والسند كله لا يصل إلى الكاهنة وبالتأكيد ليس إلى والد النبي!
ثانياً – كما رويت قصص وأخبار حول صفة حمل آمنة به، وأنها لم تر أخفَّ ولا أيسرّ منه، وأنها كانت تلبس التعاويذ من حديد فيتقطع، وأنها رأت في منامها بشارة بجليل مقامه، وأمرت بتسميته بمحمد، ورأت عند استيقاظها صحيفة من ذهب فيها أشعار لتدعو له بها، وكل هذه الحكايات فيها متروك هو الواقدي، وفيها مجاهيل آخرون لا يعرف حالهم.
ثالثاً – وأنه عليه الصلاة والسلام وقع حين ولدته وقوعاً ما يقعه المولود معتمداً على يديه، رافعاً رأسه إلى السماء، والرواية في ذلك ذكرها ابن اسحاق عن حليمة السعدية في قصة الرضاع وهي رواية ضعيفة ولا تشدها رواية الواقدي لأنه متروك.
رابعاً – وأنه وضع تحت قدر من حجر، فانفلقت عنه ليبقى بصره شاخصاً إلى السماء، والأحاديث في ذلك بين مرسلة إلى عكرمة، وبين السند المعضل، وبين سند فيه مجاهيل ولا تشد بعضها بعضاً لهذا.
خامساً – أنه ولد مختوناً (كل أسانيدها لا تخلو من وضاع أو متهم بالوضع على نحو لا يمكن أن يشد بعضها بعضاً).
سادساً – أن جبريل قد ختنه بعد ولادته! (بإسناد فيه مجهولان وليس مجهول واحد!) وقال ابن كثير هذا غريب جداً وقال الذهبي منكر.
سابعاً – هواتف الجان ليلة مولده عليه الصلاة والسلام وتبشيرها به وانتكاس بعض الأصنام في مكة في ذات الليلة، والحديث في ذلك موضوع فيه وضاعان.
ثامناً – ارتجاس إيوان كسرى وسقوط شرفاته وخمود نيران المجوس وغَيض بحيرة ساوة ورؤيا الموبذان الخيل العربية تقطع دجلة وتنتشر في بلاد الفرس (كلها دفعة واحدة في سند واحد)، والسند فيه مجهولان، أحدهما راوي الحديث عن والده أو مجموعة الأخبار هذه، وهو مخزوم بن هانئ المخزومي، ووالده أيضاً لا تعرف له صحبة أو حال، وقد ذكر الذهبي هذه الأخبار في السيرة النبوية وقال (منكر غريب) كما ذكرها ابن كثير في البداية وقال (هذا الحديث لا أصل له من كتب الإسلام المعهودة).
تاسعاً – روايات تفيد بإخبار اليهود بليلة مولده (السند فيه تدليس من دون تصريح بسماع، وتوجد أسانيد أخرى تتضمن متروكين).
عاشراً – قول العباس عم الرسول عليه الصلاة والسلام أنه رآه في المهد يناغي القمر (قال ابن كثير فيه غرابة، وقال الذهبي هذا إسناد ساقط)، وفيه أحد المتروكين.
علما أن العباس يكبره عليه الصلاة والسلام بعامين فقط!
في العموم لم يصح من أحاديث المولد غير أن السيدة آمنة بنت وهب قد (رأت) نوراً يخرج منها ليضيء قصور بصرى من أرض الشام، والرؤية هنا تحتمل أن تكون مناماً، خاصة أن بعض الروايات تذكر المنام أصلاً، ولم يأت ذكر أن هناك من رأى النور غير السيدة آمنة.
للمزيد من التحقق حول الموضوع يمكن مراجعة كتاب الدكتور أكرم ضياء العمري (عمري آخر أتشرف بقرابته)، وهو كتاب (صحيح السيرة النبوية)، وفيه مراجعة علمية وافية لهذه الأحاديث وأسانيدها، وقد اعتمدته مصدراً فيما نقلت آنفا.
***********
بعد أن انتهى النقل، ما رأيكم أن نحاول إعمال العقل (العقل والعياذ بالله، أخشى أن يأتي يوم يذكر فيه العقل، فيقول البعض: “سَلَامٌ قَوْلًا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ”، كما يفعلون عند ذكر السرطان).
العقل أيها السادة..
ما رأيكم أن نعمله قليلاً، ونحن نتأمل في نص ثبت ضعف سنده، أو حتى ثبت وضعه!
ما رأيكم أن نعمل العقل في النص الذي يحمل تسلسل (ثامناً) وهو النص الأكثر شهرة.. ارتجاس إيوان كسرى وسقوط شرفاته وجفاف البحيرة وخمود النار… إلخ.
نحن الآن في مكة في السنة التي ولد فيها عليه الصلاة والسلام، عام الفيل، وهي موافقة لسنة 570 أو 571 ميلادية..
آمنة بنت وهب، تكاد تضع مولودها الأول الذي مات والده قبل أشهر.
في ليلة مولده، ما كان يمكن لأهل مكة أن يعرفوا ما سيحدث في العراق حيث إيوان كسرى، وحيث نار المجوس في المدائن، وحيث بحيرة ساوة التي جفت فجأة..
ببساطة لم يكن هناك نشرة أخبار في الساعة الثامنة على الجزيرة، تجتمع فيها تلك الأخبار العاجلة الرئيسية، بحيث يمكن أن يقرن أي أحد بينها وبين حادثة ولادة تحدث في الحي المجاور.
لو أن هذه الوقائع حدثت فعلاً، فأهل مكة لن يعرفوا ذلك أصلاً قبل أسابيع، وذلك عندما يأتي التجار من العراق مثلا ناقلين الأخبار العجيبة..
هل سنفترض أنهم سألوا في أي يوم حدث ذلك؟ وأن التجار قالوا: في الثاني عشر من ربيع الأول، وأن القرينة حصلت هنا؟
لكن الثاني عشر من ربيع الأول أصلاً غير مؤكد! فعن أي (حدث في مثل هذا اليوم) نحاول البحث بالضبط؟!
هذا عدا أنه من المنطقي (المنطق والعياذ بالله أيضاً) أن كسرى وحاشيته سيحاولون ترميم الإيوان والشرفات فوراً وسيخفون أمر النار التي خمدت حرصاً على مجد كسرى!! ولن يجعلوا أنفسهم مضغة في أفواه العربان..
أكثر من هذا: لو كانت هذه الأحداث العولمية معروفة الاقتران بولادته عليه الصلاة والسلام، فكيف لم يصلنا أي جدل حول هذا عندما نزل الوحي على الرسول عليه الصلاة والسلام، ألم يكن طبيعياً أن عواجيز مكة سيذكرون ما حدث يوم ولادته، ويربطون ذلك بما يقوله من نزول الوحي؟
العقل، بالمناسبة، ليس مثل السجائر، لا توجد عليه علامة تقول: إعمال العقل قد يسبب السرطان..
**************
عندما تنسب لشخص ما صفات ليست فيه، فهذا يعني أنك في قرارة نفسك، لا تقدر صفاته الحقيقية، ولا تعتبرها تستحق الثناء حقا.. أو أنك عجزت عن معرفتها واكتشافها..
عندما تنسب له، عليه الصلاة والسلام، وقائع لم تحدث، فهذا يعني أن الوقائع التي حدثت لم تكن كافية حقا.. تراها أقل من أن تكفي.. تراها ناقصة وبحاجة إلى المزيد.. إلى البهارات والتوابل..
وعندما تكون هذه التوابل الزائدة من نمط مخالف لكل منهجه عليه الصلاة والسلام، فهذا يعكس مشكلة أكبر.. مشكلة أنك لم تفهم المنهج أصلاً، لذا كان لا بد أن تكون زياداتك معاكسة ومناقضة لجوهر ما جاء به..
كان جوهر معجزته هو إعمال العقل، بدلا من إعجازه، أن ينهض العقل من سباته ليقوم بدوره في تكوين شخص جديد قادر على صنع مجتمع جديد..
لكن تلك الزيادات الخرافية التي نتمسك بها، تدل على أن هناك من يضع أصابعه في آذانه، حتى لا تعمل المعجزة القرآنية.. حتى لو كان يدعي أنه يحرسها ويحافظ عليها..
عاملنا الأمر كما لو كان (مولد وصاحبه غائب)..
الآن، علينا أن ندرك أن صاحب المولد لم يغب قط.. كان حاضراً دوماً بمنهجه.. نحن فقط أدرنا بوجوهنا في الاتجاه الآخر..