د.أحمد خيري العمري
نوفمبر 2012
على الرغم من إيماننا المطلق بتعالي النص القرآني عن تغيرات الزمان والمكان، إلا أننا نؤمن ولا بد، بأن بشرية القراءة لهذا النص (أو التفسير) ليست منزهة عن تغيرات الزمان والمكان، وأن التفاعل الإنساني مع هذا النص محكوم بشروط تحدد نتائجه وتتحكم بمنطلقاته ومعطياته.. وهي شروط مرتبطة ببوتقة التفاعل وبيئته العامة.. وليس المقصود هنا ببوتقة التفاعل وبيئته تفاصيله الصغيرة، بل الاتجاه المجتمعي العام الذي يتحكم بآليات التفكير واتجاهاته، وبالتالي يتحكم بالتفاعل مع هذا النص.. وبطريقة قراءته.. وهكذا فإن النص القرآني نفسه قد يفسر، في مرحلة معينة ما، مرحلة نهضة وازدهار ونمو حضاري واجتماعي، فإذا بالقراءة الناتجة تتسق مع ما في هذه المرحلة من نهضة ونمو وعقلانية قرآنية، وقد يفسر النص نفسه في مرحلة لاحقة، مرحلة انحدار وجمود وصولاً إلى انحطاط على كافة المستويات، فينتج قراءة تعكس الواقع المتردي الجامد، قراءة قد تصل إلى رفض القراءة الأولى باعتبارها تهمة لا بد أن ترد، وقد تصل إلى الخرافة الممجوجة في بعض الأحيان.. ليس أدلَّ من هذا وجود نص واحد، وقراءات مختلفة بحسب طبيعة المحيط الثقافي، من الآيات الكريمة التي تتحدث عن التجربة الإبراهيمية، أولاً في سورة الأنعام: {فَلَمّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قالَ هَذا رَبِّي فَلَمّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ (*) فَلَمّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هَذا رَبِّي فَلَمّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضّالِّينَ (*) فَلَمّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هَذا رَبِّي هَذا أَكْبَرُ فَلَمّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ (*) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 6/76-79] وثانياً في سورة البقرة: {وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّه
عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 2/260]..
يمكن تمييز خطين تفسيريين في القراءة لهذه الآيات:
التفسير الأول: يتمثل في قراءة أنتجت في عصر ازدهار الحضارة العربية الإسلامية، ممثلة على الأقل في قراءة ابن إسحاق (المتوفى 151هـ) وابن جرير الطبري(المتوفى 224هـ)..
والتفسير الثاني: يتمثل في قراءة أنتجت في عصر تآكل الحضارة العربية الإسلامية وانهيارها ونشوء الدويلات المختلفة، وممثلة في (علماء أجلاء لهم كل الاحترام، لكن الاحترام لن يلغي حقيقة أن قراءاتهم أنتجت في عصر انهيار وتأثرت ولا بد بذلك) هذا الخط ممثلاً في (القرطبي المتوفى 671هـ)، وابن كثير (المتوفى 774هـ).. أي بعد حدوث ما حدث من قواصم للدولة العربية الإسلامية من الصليبيين والمغول وانهيار الدولة المركزية ونشوء الدويلات.. خمس أو ست قرون تفصل بين القراءتين، وهي قرون حدث فيها ما حدث وكان لا بد لذلك أن يؤثر على المناخ الثقافي الفكري الذي يتعامل مع النص..
فلنرَ كيف اختلفت القراءتان بشكل مباشر، خاصة وأن موضع الخلاف الأساسي كان في سورة الأنعام، هو هل كان إبراهيم في موضع (النظر)، أي البحث في الكون عن الإله الحق، أو كان في موضع (المناظرة) مع قومه، حيث كان يؤدي ما يؤديه كي يستدرجهم إلى الإيمان بالله عز وجل؟
التفسير الأول يحسم الأمر بشكل واضح باتجاه “النظر”، أي إن إبراهيم عليه السلام كان يبحث فعلاً عن الحق والحقيقة، وذلك قبل مرحلة النبوة والوحي.. ينقل ابن كثير عن ابن إسحاق (توفي 151هـ) اختياره النظر على المناظرة، بينما يستفيض الطبري في شرح ذلك.. حيث قال في تفسير: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْل رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي}تفسيراً مسنداً لابن عباس جاء فيه: (فَعَبَدَهُ – الكوكب- حَتَّى غَابَ, فَلَمَّا غَابَ قَالَ: لَا أُحِبّ الْآفِلِينَ ; فَلَمَّا رَأَى الْقَمَر بَازِغًا قَالَ : هَذَا رَبِّي! فَعَبَدَهُ حَتَّى غَابَ ; فَلَمَّا غَابَ قَالَ: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَن مِنْ الْقَوْم الضَّالِّينَ. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْس بَازِغَة قَالَ: هَذَا رَبِّي, هَذَا أَكْبَر! فَعَبَدَهَا حَتَّى غَابَتْ; فَلَمَّا غَابَتْ قَالَ: يَا قَوْم إِنِّي بَرِيء مِمَّا تُشْرِكُونَ) ورد على الأقوال التي تعارض ذلك بعد أن استعرضها قائلاً: (وَفِي خَبَر اللَّه تَعَالَى عَنْ قِيل إِبْرَاهِيم حِين أَفَلَ الْقَمَر: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَن مِنْ الْقَوْم الضَّالِّينَ} الدَّلِيل عَلَى خَطَأ هَذِهِ الْأَقْوَال الَّتِي قَالَهَا هَؤُلَاءِ الْقَوْم، وَأَنَّ الصَّوَاب مِنْ الْقَوْل فِي ذَلِكَ : الْإِقْرَار بِخَبَرِ اللَّه تَعَالَى الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ عَنْهُ وَالْإِعْرَاض عَمَّا عَدَاهُ…)
التفسير الثاني: يحسم الأمر بشكل لا لبس فيه، نحو “المناظرة”، بل إنه يرد بشدة على التفسير الأول باعتبار أن النظر هنا تهمة يجب دفعها، وأنها تمس مقام النبوة.. حيث يستفيض ابن كثير والقرطبي في ذلك.. ويذكر ابن كثير: (والحق أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان في هذا المقام مناظراً لقومه مبيناً لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل والأصنام… وكيف يجوز أن يكون إبراهيم ناظراً في هذا المقام وهو الذي قال الله في حقه: {ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين * إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون} الآيات.. كيف يكون إبراهيم الخليل الذي جعله الله أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يكن من المشركين ناظراً في هذا المقام بل هو أولى الناس بالفطرة السليمة السجية المستقيمة بعد رسول الله r بلا شك ولا ريب ومما يؤيد أنه كان في هذا المقام مناظراً لقومه فيما كانوا فيه من الشرك لا ناظراً قوله تعالى..) أما القرطبي فينقل: قال قوم: هذا لا يصح؛ وقالوا: غير جائز أن يكون لله تعالى رسول يأتي عليه وقت من الأوقات إلا وهو لله تعالى موحد وبه عارف، ومن كل معبود سواه بريء. قالوا: وكيف يصح أن يتوهم هذا على من عصمه الله وآتاه رشده من قبل، وأراه ملكوته ليكون من الموقنين، ولا يجوز أن يوصف بالخلو عن المعرفة، بل عرف الرب أول النظر. قال الزجاج: هذا الجواب عندي خطأ وغلط ممن قال؛ وقد أخبر الله تعالى عن إبراهيم أنه قال: {واجنبني وبني أن نعبد الأصنام} [إبراهيم:35] وقال جل وعز: {إذ جاء ربه بقلب سليم} [الصافات:84] أي لم يشرك به قط.
ومن الواضح من خلال الخطين أن سؤال النظر والمناظرة كان موجوداً في المرحلتين. لكن الفرق أنه كان محسوماً تماماً باتجاه (النظر) في قراءة الخط الأول، وكان محسوماً بالعكس، في الاتجاه الآخر في قراءة الخط الثاني..
الاختلاف ذاته ينتج مرة أخرى في آية سورة البقرة: {لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]..
فقراءة الخط الأول، على الأقل الطبري، أنتجت تفسيراً تعامل مع النص القرآني دون محاولة للهروب إلى الأمام أو إلى الخلف، بل يقرر الطبري – بعقلانية وواقعية – بعد أن عرض لمجموعة من الأقوال، أن يقول بعد أن عرض مختلف الأقوال: (وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَال بِتَأْوِيلِ الْآيَة مَا صَحَّ بِهِ الْخَبَر عَنْ رَسُول اللَّه r أَنَّهُ قَالَ, وَهُوَ قَوْله: “نَحْنُ أَحَقّ بِالشَّكِّ مِنْ إبْرَاهِيم, قَالَ: رَبّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى , قَالَ: أَوَلَمْ تُؤْمِن؟” وَأنْ تَكُون مَسْأَلَته رَبّه مَا سَأَلَهُ أَنْ يُرِيه مِنْ إحْيَاء الْمَوْتَى لِعَارِضٍ مِنْ الشَّيْطَان عَرَضَ فِي قَلْبه”.
أما قراءة الخط الثاني، فهي ترفض قراءة الطبري تماماً، وتعتبر أن هذا لا يجوز على الأنبياء صلوات الله عليهم مثل هذا الشك فإنه كفر، والأنبياء متفقون على الإيمان بالبعث. وقد أخبر الله تعالى أن أنبياءه وأولياءه ليس للشيطان عليهم سبيل فقال: {إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ} [الحجر: 15/42]، وقال اللعين: {إلا عبادك منهم المخلصين} وإذا لم يكن له عليهم سلطنة فكيف يشككهم..
وإنما سأل أن يشاهد كيفية جمع أجزاء الموتى بعد تفريقها وإيصال الأعصاب والجلود بعد تمزيقها، فأراد أن يترقى من علم اليقين إلى عين اليقين.. القرطبي.. انتهى..
أما ابن كثير فمضى في تأويل حديث البخاري، الذي اعتمده الطبري: (فيه نفي للشك عنهما يقول: إذا لم أشك أنا في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى فإبراهيم أولى بألا يشك، وقال ذلك على سبيل التواضع والهضم من النفس)..
قد يتبادر إلى الذهن أن الأمر مجرد مسألة خلافية، وهي قد تكون كذلك فعلاً، لكن هناك مياه كثيرة مرت تحت الجسر خلال القرون الستة الفاصلة بين القراءتين، وهي المياه التي بررت هذا الاختلاف..
فبغداد، حاضرة الحضارة العباسية، التي أنتجت قراءة الطبري، كانت عاصمة النهضة والنماء، وكان التيار العقلاني فيها شديد الرسوخ والوضوح، لذلك فإن حسم (الطبري) هو نتيجة طبيعية لهذه البيئة، على العكس من القراءة الأخرى، التي نتجت في عصر أفول هذه الحضارة، والجمود على موجوداتها، فعكست هذا الأفول والجمود، وأبرزت الخوف الكامن في نمط التفكير من كل ما يتصور أنه يمس هذه الموجودات..
ولم يكن الطبري، أو ابن إسحاق، وهما الأقرب لعصر النبوة، أقل حرصاً على مقام النبوة، لكن مقام النبوة، عندما يكون المناخ نهضوياً ومرتفعاً، يكون مناخ الاقتداء بهذا المقام هو الأساس، والاقتداء يتطلب الإيمان بإنسانية هذا المقام في الدرجة الأولى، وهو اقتداء لن يخدشه أن إبراهيم بحث عن الحق قبل الوحي، بل سيعززه ويعزز مكانة العقل في الإسلام ككل، كما أنه مقام لن يخدشه حقيقة أن سيدنا إبراهيم كان إنساناً قد يكون وقع له ما يقع على البشر..
أمران مهمان يجب ألا ننساهما هنا:
الأول: سيكون من الخطأ وضع التراكم الفقهي والتفسيري كله في سلة واحدة، فما نتج في عصر النهضة الإسلامية الأولى مختلف تماماً عما نتج في عصور أخرى، خاصة إذا كان هذا النتاج الأخير مكرساً لما ترسخ في المجتمع من جمود وتقليد، لذا فإن الحديث عن “القطيعة” أو عن “التواصل” مع “التراث” لا ينبغي أن يكون بمعزل عن البيئة التي أنتجت هذا التراث، هل كانت بيئة النهضة والحضارة والنمو؟.. أو كانت بيئة النكوص والجمود؟..
الثاني: لا يعني هذا أبداً أن كل ما أنتج في قرون الجمود جامداً.. فهناك قراءة استطاعت أن تخرج من إطارها الحضاري وكانت تقصد النهضة والبناء، ابن تيمية وابن خلدون والعز بن عبد السلام والشاطبي، كلهم أمثلة على قراءات أنجزت في عصر لا يمكن اعتباره مقارباً لعصر النهضة الأولى، ولكنها كانت تنزع إلى غير ما هو سائد في المجتمع، ولذلك نرى أن هذه القراءات لم تكرس ولم ترسخ في أذهان عموم الناس.. لم تدخل في صلب ما هو “مؤسس” في أذهان الناس..
اللافت هنا أن السائد والمهيمن حتى الآن، والذي يجري تداوله، هو قراءة الخط الثاني، بحسم تام أحياناً، وحتى دون أن يذكر وجود تفسير آخر، وهو أمر لا يجب أن يكون مستغرباً.. فعصرنا الحالي بالتأكيد هو أقرب إلى القرن السابع الهجري، عصر الانهيار والدويلات، من عصر الطبري، عصر النهضة والبزوغ و الحضارة..