د.أحمد خيري العمري
ديسمبر 2008
عندما تقرأ لبعض أدعياء التجديد الديني، تشعر بحنين جارف للشيخ التقليدي، بسحنته الغاضبة والمتجهمة، وصراخه العالي على المنبر حتى لو كنت أحيانا تضيق ذرعاً به..
يحدث هذا –على الأقل- معي، إني أشعر بالتعاطف مع التقليديين والتقليديين جداً، على الرغم من كثرة مؤاخذتي على بعض طروحاتهم عندما أقارنه بما يطرحه أدعياء التجديد هؤلاء.. وإذا كان هذا يحدث معي، فإنه ولا بد يحدث، ومن باب أولى، مع من لا يمتلك مثل موقفي هذا..
وهذا هو، المنجز الأهم، لمدّعي التجديد وأدعيائه حتى الآن، لقد نجحوا نجاحاً باهراً في شيء واحد على الأقل حتى الآن: في زيادة رصيد أعداء التجديد من التقليديين، وإعطائهم مزيداً من دعم الجماهير لهم ولطروحاتهم..
ولست واثقاً من أن هذا سيهم أدعياء التجديد، فقد حصلوا في خضم ذلك (على الأقل بعضهم حصل) على الشهرة، بعضهم حصل على الشهرة والمال معها، وبعضهم حصل على سفرات غامضة إلى جامعة غربية هنا وهناك، وحاضر عن “إسلام آخر”.. غير الذي نعرفه وغير الذي يعرفه الغربيون أيضاً، لكنه إسلام يتوافق مع ما يريد الغربيون أن يسمعوه، ويصب هذا كله لصالح “نظرية المؤامرة” العتيدة، التي يرد بها التقليديون أصلاً على كل من يجرؤ على مخالفتهم، وبشكل آلي..
وفي أسوأ الأحوال، وحتى إن لم يحصل هؤلاء على شيء من هذا كله، فإن بإمكانهم التباكي على كونهم قد سبقوا زمانهم، وبأن الواحد منهم هو “فولتير العرب” الذي تحاربه “كنيسة” المسلمين.. (كما تصرح بالفعل “كويتبة” لم يصدر لها كتاب واحد حتى الآن!!)
والنتيجة النهائية لكل هذا ومحصلته، هو أن الجمهور، الذي ربما لديه ملاحظات وانتقادات “خافتة وسرية ولكنها موجودة” ضد مشايخه ووعاظه التقليديين، سيفضل حتماً المشايخ على هؤلاء. لقد ألف مشايخه وأسلوبهم، وعرف خيرهم من شرّهم، نشأ وكبر على مواعظهم وصراخهم وتناقضاتهم وبكائهم، وهو يعرف أين سيذهب معهم (إلى لا مكان، طبعاً). لكن مع هؤلاء الذين يلقبون بالتجديديين، الأمر يبدو أسوأ، إذ إنهم يقودونه إلى مكان مجهول، مكان قد يكون أسوأ مما هو فيه، بعبارة أخرى: قد يتصور أنهم سيخرجونه من دينه.
لا يحمل هؤلاء التجديديون سمت رجل الدين التقليدي الذي يفرض الاحترام والهيبة على العامة، وهذا ليس سيئاً جداً بحد ذاته، إلا أن الأمر أسوأ بكثير عندما يرى المتلقي العادي أن كل ما أنتجوه من تجديد لا يخرج عن كونه قراءة للنص تنتج إلغاءً للنص.. هذا كل شيء!.
في كل موضوع خاض فيه هؤلاء التجديديون – وكلها مواضع حساسة – قاموا بإلغاء النص، وتعطيل الحكم الوارد فيه، بحجة تاريخية النص التي صارت معها النصوص الدينية بمثابة “شواهد تاريخية” خلف واجهة زجاجية – فترينة – نتفرج عليها من خلال الزجاج، ونقول: كان زمان..
تاريخية النص هذه شملت أموراً متعددة، من لباس المرأة، إلى المواريث مروراً بالجهاد وبأحكام الزواج، وغيره. وهكذا، لم يبق “شيء على شيء” مما ألفناه وتعودنا عليه. فلباس المرأة المسلمة اختزل إلى تغطية الرقبة عند البعض، وتغطية الصدر عند البعض الآخر، وتغطية ما هو أقل من ذلك عند بعض آخر..
الزواج، ذلك الميثاق الغليظ، لم يعد ميثاقاً ولا غليظاً، بل صار يمكن له أن يكون تجريبياً في مرحلة ما، ولا يشترط إلا شيئين: أن يعرف به الأهل! – أهل البنت! – طبعاً، أما أهل الشاب فلا داعي لذلك على ما يبدو، الشرط الثاني هو أن تكون البنت على دراية بوسائل منع الحمل! انتهى!.
أحكام الإرث طبعاً، ومن باب أولى، اقرأ عليها الفاتحة بضمير حاول أن يكون مرتاحاً. ومعه كل ما يتعلق بالمرأة من أحكام، العدّة مثلاً، لم يعد لها داع ما دامت الأجهزة الطبية قد تطورت وصار بإمكاننا معرفة وجود الجنين منذ أسبوعه الأول. ولذلك تستطيع الأرملة أن تكون طروباً منذ اليوم الأول لترملها، والبركة في تقنيات الأمواج فوق الصوتية، والقراءة التاريخية للنصوص.
تعتمد آلية القراءة “الإلغائية” هذه، بعد تجريدها من تفاصيل متشعبة، على انتقائية واضحة في التعامل مع النصوص، فهناك نصوص تنتقى بوضوح لكي تصير نصوصاً مطلقة لكل زمان ومكان لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها – ونصوص أخرى، تنتقى، لكي تصير “تاريخية”، زاعمين انتهاء صلاحيتهما، وكونها محصورة بزمان ومكان..
الطريف أن آلية الانتقاء هذه، التي تجعل نصاً ما نصاً مطلقاً، وآخرَ نصاً تاريخياً، لا تعتمد على شروط علمية واضحة (أو حتى غير واضحة) – إلا بقدر ما ينسجم هذا النص مع طروحات معينة يود أدعياء التجديد الوصول إليها بكل وسيلة.. –وهكذا، يمكن أن يكون النص المنتقى ليصير نصاً مطلقاً مجرد حديث آحاد، والنص المنتقى ليصير تاريخاً “فات ومات” هو نص قرآني واضح الدلالة والاستدلال.
ومن الأمثلة المفضلة لدى هؤلاء على النص الذي يتحول مع قراءتهم ليصير مطلقاً وصالحاً لكل زمان ومكان، حديث “أنتم أدرى بأمر دنياكم” وهو حديث آحاد مرتبط بواقعة شديدة الخصوص، هي واقعة تأبير النخل، ويمكن قراءتها في الوقت نفسه على أنها دعوة للتجريب في التقنيات وليس لإلغاء النصوص! يتعامل مدعي التجديد مع حديث الآحاد هذا، ليلغوا نصوصاً قرآنية بتفاصيل واضحة بدعوى أنها “تتدخل في أمور الدنيا” وبما أن الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام قال – في حديث آحاد! وواقعة مخصصة! -: أننا أعلم بأمور دنيانا، إذن لا بد لنا أن نلغي الحكم الوارد في القرآن، لأنه مجرد نص تاريخي، وذلك امتثالاً لأمره عليه الصلاة والسلام!
ولأن القراءة التاريخية عندما تبدأ فإنها لا تنتهي، باعتبار أن النص القرآني نزل فعلاً في مرحلة تاريخية ما، واقسار “تاريخية النص” هذه على قراءتِه، سيكون بمثابة “مفرمة” لا تبقي ولا تذر من الأحكام القرآنية ومن فاعليتها.. وهكذا فإن كل ما يتعلق بالمرأة في القرآن الكريم مرتبط ولا بد – حسب نظر هؤلاء – بسياق تاريخي كان المجتمع فيه يعج بالرق وبملك اليمين (!) – ابحثوا عن الربط – وبما أن الرق قد انتهى، والحمد لله، فإن أحكام النساء قد انتهت أيضاً، والمزيد من الحمد لمستحق الحمد!!.
نسألهم، جادين لكن وغير مصدقين: إن كانت أحكام المرأة قد انتهت بانتهاء مرحلة العبودية التاريخية، ألا يجري ذلك، ومن باب أولى، وبربط أشد وضوحاً، بالعبودية باعتبارها العلاقة الإسلامية بين الإنسان وخالقه؟ و يقولون: نعم بالتأكيد! العبودية انتهت بوصفها علاقة أيضاً. صارت الآن “العبادية”. ويقولونها بمنتهى الجدية!..
هكذا، مع أدعياء التجديد هؤلاء لا خط أحمر من أي نوع، لا عقائدي ولا فقهي ولا نص قرآني ولا حديث متواتر.. وهو الأمر الذي يجعل الناس عموماً، يسيئون الظن بالتجديد برمته، وعندما لا يكون هناك خطوطاً حمراء في ما تقول إنه (تجديد)، ويكون تجديداً بلا ضابط ولا رابط، فإنك تضع خطاً أحمرَ وعلامة (X) عليك وعلى كل نتاجك.. في الوقت نفسه، فإن الشيخ التقليدي، سيكون أكثر انسجاماً مع طروحاته ومع مجتمعه.. وستزيد مصداقيته بالمقارنة مع تهريج يلقب بالتجديد كهذا.. وسيواجه أي تجديد “حقيقي“، بنفس سوء الظن من باب التعميم المعتاد..
ومن أجل ذلك قلت: إنك قد تشعر بالحنين إلى الشيخ التقليدي عندما تقرأ ما ينتجه هؤلاء، بل إنك قد تشعر بالحنين ليس إلى الشيخ التقليدي فحسب، بل إلى ملا الكتاتيب القديمة، الذي كان يقوم بتحفيظ القرآن بواسطة الفلقة.. بالذات ستشتاق إلى الفلقة.. وإلى استعمالها مع أولئك المجددين الجدد..
أحسنت ما شاء الله
ليس أخطر على الأمة من” الشيوخ التقليديين ” الا أدعياء التجديد
وهؤلاء الأخارى ربما من أحد أهدافهم الخبيثة هو تشويه مفهوم التجديد فلا يسع العالم المخلص أن يطرق بابه