قد لا يكون الموصلّي ألطف كائن عراقي تقابله في حياتك.
سيقول لك أنه عراقي عندما تتعرف عليه أول مرة، فتستحضر في ذهنك الصورة النمطية عن العراقي، وتقول شيئا عن حبك للهجة العراقية وكاظم الساهر والسمك المسكوف وربما ناظم الغزالي. فتلاحظ أنه يجاريك ويتمتم بأي شيء دون حماس وربما بقليل من الحرج. وإذا تماديت وقلت شيئا عن المواويل العراقية الحزينة فسيقول لك باقتضاب: أنا من الموصل.
كما لو أنه يريد أن يقول لك أنه مختلف عن الصورة النمطية التي في ذهنك. هو من الموصل.
والموصلّي مختلف فعلا. لن يرحب بك بنفس حرارة بقية العراقيين. ولن يجاملك كثيرا ولن يقدم لكلامه بمقدمة طويلة. لن “يبذر” كثيرا في الكلام. سيذهب إلى صلب الموضوع فورا في الغالب.
وهو في الوقت نفسه من أكثر العراقيين انضباطا وجدية وتمدنا وعقلانية.
قلة لطفه تنبع غالبا في منطقة بين التحفظ العام في إظهار المشاعر، والدقة في الحسابات التي تؤدي إلى الحذر، وقوة الحاسة النقدية، ..بالإضافة إلى الصراحة.
وكلها أمور ستؤدي إلى أنه ليس أكثر العراقيين لطفا ومجاملة. وهو أمر لا يزعج الموصلّي كثيرا أو قليلا. بل هو يجد ذلك أمرا إيجابيا، من ضمن إيجابيات كثيرة يؤمن بوجودها في شخصيته.
في داخل العراق الصورة النمطية الشائعة عن الموصلّي هي جديته وتدقيقه على الأمور على نحو صارم، عندما يقال عن شيء أنه ( حسبة مصلاوي) أو ( حساب مصالوة) فهذا يعني أنه حساب دقيق جدا بأقل هامش ممكن من الخطأ. فالموصلّي دقيق في حساباته، لا يتساهل في شيء، وإذا وافق على سعر ما فهذا غالبا سعره الحقيقي بأقل هامش ربح للبائع. ضمنيا التعبير يدل أيضا على أمانته.
غير بعيد عن ذلك ما تتداوله النكات الرائجة عن “بخل” الموصلّي. الموصلّي لديه بالمقابل ردوده وتعليقاته على سلوك الآخرين، وقد يضطر أحيانا إلى أن يبالغ في الكرم فقط ليرد على الصورة النمطية، لكن الأمر أعقد من نكات البخل وبالتأكيد ليس مجرد ( حرص) كما يقال.
يمكن للموصلّي الذي استوطن بغداد أن يقول لضيوفه البغداديين الذين زاروه على حين غرة في شتاء قارص : إشجابكم إشطلعكم بهالبغد؟
( أي مالذي جاء بكم في هذا البرد؟)..
البغدادي يصدم من قول كهذا. بالنسبة له الـ ( هلا وميت هلا) جاهزة دوما مع أي دقة على الباب. سيفسر موقف الموصلّي بأنه عدم رغبة في الضيافة. لكن الأمر أعقد من هذا بكثير…للموصليين موقفهم من الشتاء، فشتاؤهم في الموصل قارص أكثر بكثير من بغداد، وتعاملهم مع فصل الشتاء جزء من ثقافة وعادات وتقاليد لا علاقة لها بالضرورة بدرجة الحرارة. لذلك فهم يتعاملون مع شتاء بغداد كما لو كان شتاء الموصل..كمية الملابس الشتوية نفسها طبقة بعد أخرى..والسبات الشتوي وعدم الخروج إلا للعمل أو لضرورات مماثلة أمر شائع جدا في ثقافة أهل الموصل وهم يأخذونها معهم أينما حلوا، حتى في الخليج، لديهم أثر لهذه الثقافة عندما تحل الأشهر التي يفترض أنها شتاء.
يستغرب الموصلّي إذن من معاملة الشتاء كما لو أنه فصل تزاور دون سبب مهم ( لأداء واجب تهنئة أو عزاء مثلا)، كما أنه يستغرب أصلا ( صيفا وشتاء) من عدم التبليغ بالزيارة مسبقا، لكن الأمر مع برد الشتاء يكون أكثر مدعاة للاستغراب وحتى القلق..مالذي جاء بكم في هذا البرد؟ هل ثمة شيء خطير استوجب ذلك؟
لا يمكن استبعاد أمر الحرص تماما. ربما ليس في ضيافة عابرة أو توابعها. لكن الحرص في سلوك الموصليين أمر لا ينكرونه، بل يتفاخرون به، ويعدون سلوك الآخرين تبذيرا لا يمت للتمدن والعقلانية بصلة.
من الشائع -مثلا- أن البغداديين يتركون ( سخان الماء) الكهربائي أو الغازي لتسخين الماء للبيت كله متقدا طيلة الشتاء.
الموصليون يعدون ذلك تبذيرا. يشغلونه وقت الحاجة فقط. الكلام عن تشغيله طيلة الوقت يبدو لهم كنكتة سوداء.
اليوم طبعا من السهل تفهم سلوك الموصليين واعتباره أقرب إلى روح العصر والتمدن. هو بالنسبة لهم ليس بخلا. بل تدبيرا وتخطيطا وإدارة.
كل هذه الصفات، الانضباط والجدية والحرص والتمدن ليست موجودة في جينات أهل الموصل…بل موجودة في عمق العقل الجمعي الموصلي..ولم يتكون هذا العقل الجمعي إلا نتيجة لظروف تاريخية معقدة خصت الموصل دون غيرها من بقية مدن العراق، بخصائص مختلفة، سلبا وإيجابا..
في جملة هذه العوامل والظروف هناك ما لا يمكن اعتباره تاريخا بالضبط ليس فقط لبعد المسافة التاريخية، بل ايضا لتحول الأمر من حادثة تاريخية في زمن محدد إلى ( عقيدة دينية) وبذلك صارت أمرا لا يتبع التاريخ وحقائقه بل الإيمان وغيبياته. وهذا يجعله أرسخ وأقوى…
ينظر الموصليون بصورة عامة إلى أنفسهم بصفتهم ( الأفضل ). هذه الرؤية واضحة جدا عندهم، لا يميلون إلى الانتقاص من الآخرين..لكنهم ببساطة…يعتبرون أنهم الأفضل.
جزء من هذه النظرة عززت ( إيمانيا) عبر قصة النبي يونس ونجاته من بطن الحوت ومن ثم
الإشارة إلى قرية يونس في القرآن بأنها القرية التي نفعها إيمانها، والتي اعتبرت أنها إشارة الموصل، كل هذا ساهم في تعزيز إحساس الموصلي بمكانته وأهميته، رغم أنه لا دليل ثابت إسلاميا أن نينوى هي مدينة النبي يونس ( حيث لم يثبت قول الرسول عليه الصلاة والسلام عن نينوى أنها قرية العبد الصالح يونس بن متى)، لكن الثقل المسيحي الهام في المدينة، وورود أن نينوى هي مدينة النبي يونس في العهد القديم من الكتاب المقدس، جعل المسلمين يعتبرون أن الموصل هي مدينة النبي يونس كتحصيل حاصل، وكذلك فعلت أغلب التفاسير.
قصة النبي يونس هذه ساهمت في تكوين هوية الموصلّي وشخصيته المتمايزة عن محيطها. لكن هذا لا يمكن أن يكون كل شيء، فهذه المفردات العقائدية يتم استثمارها واستحضارها غالبا في سياقات اجتماعية وتاريخية معقدة.
على الأغلب، بدأت بذور التمايز في الشخصية الموصلّية في القرون الخمسة الأخيرة، تحديدا مع دخول العثمانيين لها في 1515م….
يتبع…