متدينون ولكن !
نقل عن الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله قوله أن الموصل فرع سوريا في العراق وأن دير الزور فرع العراق في سوريا.
بغض النظر عن تحسس البعض ( غير المبرر) من كلمة الفرع فأن الملاحظة عميقة وأكثر من ذكية، وتعكس جزءا من حقيقة لا مجال لإنكارها ولا التحسس منها، فنحن نعرف أن الحدود بين البلدين رسمت رسما، وأن التداخل أكثر من محتمل.
نعم ثمة ( شيء) قوي يشبه سوريا في الموصل، شيء أعمق من البرغل الذي تشتهر حلب به أيضا بسبب أنواع كببها التي يزيد عددها في كل مرة تقابل حلبيا ويتحدث لك عن الكبب !
يخيل لي أن هذا الشيء في جوهره هو تدين الموصليين، الذي يشبه إلى حد بعيد التدين السائد في سوريا، أو على الأقل يشبه السائد في المدينتين السوريتين الأكبر : حلب ودمشق. عادة يربط التشابه بين حلب والوصل بالعلاقة التاريخية بينهما، لكن الأمر لا يقف عند حلب فقط. ثمة شيء من التشابه مع دمشق أيضا.
لكن قبل أن نعرض للشبه، هناك ما يجب توضيحه بخصوص عموم التدين في العراق، وهو تحديدا ما يجعل التدين في الموصل أقرب للتدين في سوريا.
على نحو عام، العراقيون لم يعرفوا مظاهر التدين بكثافة إلا في ثمانينات القرن المنصرم.
هذه الحقيقة الناس تتعامل معها بحذر ومحاولات إخفاء. لكنها حقيقة يعلمها الجميع..بالتأكيد لا تعميم هناك، وبالتأكيد كان هناك احترام للدين ومظاهره، وتقام الصلوات والأذان وتؤدى الجمعة والعيدين ويحتفى برمضان وتراويحه.. لكن كل ذلك في النهاية يؤدى بشكل منفصل عن الشعائر نفسها، بعبارة أخرى مختصرة: مؤدو الشعائر الفردية عموما قليلون. ليست المسألة فقط ذلك الإنحسار في النصف الأول من القرن الماضي الذي شهدته أغلب البلدان العربية، يخيل لي أن الأمر في العراق أعمق من هذا، ، بقيت بعض القيم الدينية تؤدي دورها الاجتماعي بالتأكيد، ولكن الجانب الشعائري لم يكن ظاهرا بقوة أو منتشرا على صعيد الأفراد إلا في مواسم معينة( رمضان، عاشوراء..الخ) وجزء منها كان لإبراز الهوية الطائفية أكثر من أي شيء آخر.
الشخص الذي يسميه العراقيون ( متدينا) هو شخص يصلي الفروض فحسب، وربما أحيانا يعتبر من يصلي ويصوم في رمضان( فقط) متدينا بدرجة ما…الجو الرمضاني البغدادي الشعبي هو المرتبط بلعبة ( المحيبس) التي تقام في ليالي رمضان، وليس بالتراويح مثلا!
أما تعريف المعتدل فهو الذي لا يصلي ولا يشرب!!!!
تغيرت الصورة بالتدريج مع الثمانينات، وتغيرت جذريا في التسعينات،..ينسب الأمر عادة لما يسمى بالحملة الإيمانية التي أطلقتها الحكومة فترة الحصار، لكن هذا مجرد تضخيم لأثر هذه الحملة الرسمية التي أراها – على العكس- مجرد محاولة من الحكومة لاحتواء تيار التدين الذي تصاعد لأسباب مختلفة، أو على الأقل للظهور بمظهر المسيطرة عليه.
هذا المشهد البعيد عن التدين، ومن ثم التدين التدريجي منذ الثمانينات، كان سائدا وواضحا في بغداد، ويخيل لي أن بغداد كانت تمثل معظم العراق في تلك الفترة، كان توسع بغداد الشديد وقدوم الكثيرين من محافظات أخرى للعمل والاستقرار فيها يجعلها ممثلا فعليا – إلى حد بعيد- لكل محافظات العراق أو على الأقل محافظات الوسط، وكذلك كان الأمر مشابها في البصرة.
الموصل كانت مختلفة عن هذا المشهد السائد عراقيا[1]. الحديث هنا ليس عن تقييم إيجابي أو سلبي للمدن بل عن توصيف لانتشار الشعائر الفردية لا اكثر ولا أقل. ولا يعني أن أهل المدن الأخرى أقل تمسكا بالقيم أو أن أهل الموصل أكثر.
الموصل وضعها من هذه الناحية أقرب إلى وضع المدن السورية الكبرى، خصوصا حلب ودمشق.
هناك انتشار كبير للشعائر على المستوى الفردي، وهناك حث واضح عليها، وهي تعد عموما من علامات الاستقامة والصلاح الاجتماعيين. الدين يعتبر ( عفة ) في هذه المدن، أي أن ثمة بعد اجتماعي عائلي فيه، حرص على استمرار الاستقرار الاجتماعي من خلال الحفاظ على الشعائر.
هل هذا يعني أن الكل في الموصل أو في حلب أو دمشق كانوا يصلون؟ بالتأكيد لا. لكن اجتماعيا كان ثمة حث على الأمر وجعله نموذجا يحتذى به على نحو يجعل غير المصلين يخفون عدم صلاتهم على الأقل. ولهذا نرى في هذه المدن إقبالا كبيرا جدا على صلاة الجمعة، بما في ذلك من معنى اجتماعي لا يخفى، فأولئك الذين لا يصلون الأوقات الخمسة، لن يعرف بذلك أحد سوى أهل بيتهم، لكن التخلف عن صلاة الجمعة سيكون أمرا ظاهرا اجتماعيا للجيران والمعارف في المنطقة حيث يتوقع أن يروك خارجا وقت الصلاة متجها لنفس المسجد الذي يذهبون له أو لمسجد آخر قريب. تكرار غيابك عن المشهد سيعني في الغالب أنك لا تصلي، وإذا كنت لا تصلي الجمعة فأنت حتما لا تصلي بقية الأوقات. وهذا يعني قد يعني وجود خلل ما فيك حسب المعايير الاجتماعية..أما حضورك للجمعة فحسب، فهذا يعني أنك متسق مع القيم الاجتماعية أو خاضع لها مبدئيا على الأقل، ولن يفتش عن صلاتك في بقية الأوقات أحد[2].
لهذا فأن صلاة الجمعة في الموصل ( وفي حلب وفي دمشق أيضا ) شيء كبير جدا،ونسبة حضورها مرتفعة ويندر أن يكون هناك من يتخلف عنها، ولعل ذلك كان أيضا في في مدن كثيرة أخرى، لكنه لم يكن كذلك في بغداد[3].
التدين في هذا السياق هو تدين اجتماعي، تدين أقرب إلى ( المحافظة) على بنية المجتمع منه إلى البعد العقائدي الإيماني. الشعائر جزء من الصمغ الاجتماعي الذي يشد من أجزاء المجتمع إلى بعضها البعض.
مالذي يجعل الموصل أقرب إلى حلب ودمشق في هذا السياق تحديدا ؟ ( علما أن الوضع ليس متطابقا أبدا، ويندر أن يكون هناك تطابق بكل الأحوال، لكنه أقرب عند المقارنة مع بغداد).
ربما يعود هذا إلى عدة عوامل..
أولا- سيادة وانتشار المذهب الحنفي في هذه المدن الثلاثة ( على الأقل حتى منتصف القرن العشرين بالنسبة لحلب ودمشق[4]) ويرتبط هذا الأمر بحرص العثمانيين على نشر المذهب الذي يتبنونه وذلك على الأقل عبر استخدام الفقه الحنفي في القضاء الرسمي وهو أمر كفيل بنشر المذهب ولو بالتدريج. كاتب هذه السطور انتقل جده الأكبر وقد كان فقيها حنفي المذهب من المدينة إلى الموصل في منتصف القرن السادس عشر لتكريس المذهب الحنفي .
مالذي حدث في بغداد؟ ولِم لَم يسد فيها المذهب الحنفي ( رغم وجوده بقوة فيها ورغم وجود مرقد الإمام أبي حنيفة فيها)؟
الذي حدث أن سُنة بغداد كانوا بين المذهبين الحنفي والشافعي على نحو يصعب تمييز من السائد بينهما، وبينما كان لأبي حنيفة مرقده ومسجده، فقد كان هناك ايضا مكانة كبيرة جدا عند السُنة للشيخ عبد القادر الكيلاني – وربما تفوق مكانة أبي حنيفة – ، والطريقة القادرية كانت منتشرة في بغداد وهي أقوى الطرق الصوفية، ومن المعلوم أن الشيخ عبد القادر الكيلاني كان شافعي المذهب.
لكن لِم لم يحاول العثمانيون تقوية المذهب الحنفي على حساب المذهب الشافعي في بغداد كما فعلوا في أماكن اخرى من ضمنها الموصل؟
يغلب علي الظن أنهم لم يفعلوا ذلك خوفا من انقلاب ذلك ليصبح لصالح الشيعة في بغداد، فبغداد كان فيها سنة على المذهبين الحنفي والشافعي، وكان فيها وجود شيعي أيضا لا بد أن يحسب له العثمانيون حساب..إزعاج الشافعية قد يصب لصالح الجهة الشيعية من الميزان الاجتماعي، وهو ما لم تكن الدولة العثمانية ترغب فيه بكل الأحوال خاصة أنها طالما قدمت نفسها بوصفها حامية السنة.
حسنا، تركت الدولة العثمانية سُنة بغداد دون أن يسود بينهم مذهب على آخر؟ هل هذا سيء؟
بالتأكيد ليس سيئا، لكن المذهب الحنفي كان يوجه له الدعم عادة عبر المدارس والتكايا التي كان ينفق عليها من قبل الدولة العثمانية، بينما كان الشافعية لا يحصلون على الدعم نفسه، ويعني هذا عمليا أن حوالي نصف سنة بغداد فقط يحصلون على دعم الباب العالي للتعليم الديني، بينما كان الشافعية يعتمدون على أوقافهم أو نشاط رجال دينهم.
بعبارة أخرى: عندما نتحدث عن عزوف عن مظاهر التدين في بغداد، مختلف عما هو عليه الأمر في الموصل أو دمشق أو حلب، فلا يمكن أن نتجاهل سيادة المذهب الحنفي في هذه المدن، و تنازعه مع مذهب آخر في بغداد…وخسارة المذهب الآخر لفرص الدعم في التعليم…
من جهة أخرى، ورغم عدم وجود فروق مهمة حاليا بين المذهبين، ربما يكون من المهم ذكره في هذا السياق أن الفقه الحنفي كان معروفا بكونه أكثر انفتاحا وأكثر مناسبة للمدينة ، كونه يفتح الباب للرأي أكثر من بقية المذاهب.
ثانيا – صراع البداوة والحضارة في بغداد والمجتمع العراقي بشكل عام حسب ما ذكره علي الوردي : وهو الصراع الذي نجت منه الموصل لأسباب جغرافية مناخية مر ذكرها، بينما نكبت بغداد بجغرافية مدتها دوما بصراع مستمر بين البداوة والحضارة.
الجانب البدوي في هذا الصراع كان لا بد أن يكون ضد التدين ومظاهره. البدو عموما غير متدينين. الدين بالنسبة لهم انضباط وقيد وقانون. وهم لا يريدون شيئا من هذا. وكان لا بد لهذا أن ينعكس على مظاهر التدين في بغداد، خاصة أن بغداد كانت تتعرض دوما لموجة سكان جديدة من البدو اصلا بعد كل مجاعة أو وباء، حيث كان الوالي نفسه يحرص على إسكانهم فيها.
لا يمكن لهذا الصراع في الشخصية العراقية إلا أن يكون قد تمظهر في هذا العزوف عن التدين في بغداد والكثير من المناطق العراقية.
ولأن الموصل نجت من هذا الصراع، فقد كانت نتائجه أيضا غريبة عنها. مما جعلها أقرب إلى دمشق وحلب، البعيدتين تماما عن هذا الصراع.
ثالثا – الوجود الشيعي في بغداد: يعتقد بعض غير العراقيين أن الشيعة طارئون على بغداد، الحقيقة أن الشيعة في بغداد لهم وجود منذ العصر العباسي، وأنهم كانوا دوما جزءا من النسيج الاجتماعي البغدادي وإن كانت نسبتهم زادت مع الوقت خاصة في القرن العشرين بعد قوانين الإصلاح الزراعي التي أدت إلى زيادة الهجرة من الريف إلى المدينة.
عانى الشيعة بلا شك عبر عهود مختلفة مما جعلهم يحرصون على إخفاء أدائهم للشعائر ( الصلوات خصوصا) وبالتدريج صار هذا الإخفاء للشعائر جزءا من سلوك عام حتى في ظل زوال الظروف المؤدية له بل حتى في الفترات التي كانوا يؤدون فيها علنا الشعائر الحسينية التي تظهر هويتهم بوضوح.
هذا يعني أن جزءا مهما من سكان بغداد كانوا لا يعلنون عن أدائهم للشعائر حتى لو كانوا يؤدونها في بيوتهم.كمثال: الشيعة تغيبوا عن صلاة الجمعة لقرون لوجود شروط معينة عندهم لإقامتها، شروط لم تتوفر لقرون. وهكذا كان يوم الجمعة عندهم مجرد يوم عطلة عادية ولا شعائر فيه، وعندما تعيش في مدينة هناك عدد ( متزايد) من سكانها لا يظهر الشعائر ولا يؤدي الجمعة، فأنك ستتأثر بذلك ضمنيا حتى لو كنت تنتمي لمذهب آخر..خاصة عندما لا يكون لديك هاجس الهوية لأنك ببساطة مطمئن إلى أنك تنتمي إلى الأغلبية. وهو أمر لا يبقى ثابتا لمدة طويلة.
هذه المعادلة المعقدة ونتائجها لم يكن لها وجود في الموصل بسبب وجود أغلبية سنية فيها، بالضبط مثل حلب ودمشق.
هذه العوامل الثلاثة برأيي ساهمت في جعل الموصل أقرب إلى الشام منها إلى بقية أنحاء العراق على الأقل في هذه الجزئية.
*****
لكن ثمة شيء مختلف في الموصل، جعل التدين فيها يختلف أيضا عن التدين في دمشق وحلب رغم التشابه الموجود …
فقد شهدت الموصل أوائل القرن الثامن عشر الميلادي حركة إصلاحية ضد الغلو في التصوف وفساد بعض أصحاب التكايا والغلو في القبور، بدأت هذه الحركة من قبل احد اصحاب الطرق الصوفية أنفسهم وهو الملا أحمد بن الكولة الذي بدأ دعوته بإنكار وجود نبي اسمه جرجيس (حيث يعتقد أهل الموصل بوجود نبي بهذا الاسم ويوجد له مرقد في الموصل يزورونه للتبرك به)، وأحدث هذا الإنكار ضجة وفرقة في الموصل وانقسم المثقفون الموصليون إلى قسمين مؤيد ومضاد للدعوة الجديدة، ومن ثم استمر ابن الملا أحمد وهو الملا محمد بن الكولة في حمل نفس دعوة أبيه وطورها أكثر فصارت تهاجم البدع والغلو الصوفي بوضوح.
ومن الواضح أن هذه الدعوة الإصلاحية نتجت بشكل أساسي عن الحركة الثقافية التي أفرزتها المدارس التي أنشأتها الأسر الكبيرة في الموصل ضمن التنافس بينها، كما أنه من الواضح أن الولاة الجليليين لم يقفوا موقفا مضادا من الحركة ( من ضمنهم كان حسين باشا الجليلي نفسه) فقد كانت أمام أعينهم ولم يأخذوا موقفا لمنعها، ولعلهم وجدوا فيها فرصة لتخفيف قوة ونفوذ أصحاب التكايا.
كما من الواضح أن الطبقات العليا في الموصل قد تقبلت الدعوة الجديدة واستوعبتها، حيث أرخ لها محمد أمين العمري ( المتوفي 1788) على نحو إيجابي يعكس المزاج الثقافي الموصلي الذي تقبل الإصلاح الذي نتج من داخله ولم يفرض عليه من بيئة أخرى مغايرة وهجينة.
هذا الإصلاح الديني المبكر جعل من التدين الموصلّي مختلفا عن تدين دمشق وحلب بأنه أقل منهما ميلا إلى التصوف، نعم بقيت مسحة تصوف واضحة في التدين الموصلي، لكنها مسحة ملطفة روحانية تكاد تكون خالية من الشطحات والغلو الذي عرفته الطرق الصوفية في أحيان كثيرة…
الموصلّي يحسبها بعقلانية، في هذا المجال أيضا..
يتبع
[1] هناك مراكز حضرية أخرى لم يسد فيها هذا المشهد أيضا، لكن المقارنة هنا مع المدن الكبرى، بغداد والبصرة خصوصا.
[2] بالتأكيد سيكون هنا في هذ السياق كلام عن الرياء والنفاق ..الخ، لكن الحديث هنا عن ليس عن الصلاة بالمعنى الشخصي القابل لهذه التفسيرات بل عن الصلاة كظاهرة اجتماعية.
[3] الطبقات الأرستقراطية العليا في الموصل تخلت في أحيان كثيرة عن الشعائر، لكنها حافظت في الوقت نفسه على كونها محافظة المظهر مهما كانت ليبرالية الفكر
[4]، للدكتور عبد الرحمن الحاج نظرة مهمة عن الأمر، حيث يقول أن الأصل في سوريا كان أن المدينة سنية حنفية بينما الريف شافعي، وأن التحول الذي حدث بالتدريج كان جزءا من التغييرات التي طرأت على المجتمعيتفق ذلك مع ما حدث في الموصل والعراق عموما حيث دعمت الحكومة في العراق أسرا معينة ومكنتها من المؤسسة الدينية وكانت هذه تتبع المذهب الشافعي. حدث ذلك منذ الثمانينات.
مقالات سابقة