فقدناهم ذات داعش…
لا يمكن الحديث عن الموصل وعن الشخصية الموصلية دون التطرق إلى مسيحيي الموصل وإلى الأثر الذي لعبوه في تاريخ الموصل وتطورها وفي تاريخ العراق المعاصر بشكل عام.
أجد ضرورة في البداية إلى التذكير بعدة بديهيات منسية وسط شعارات التعميم والقراءة المنتقاة للتاريخ، فالمسيحيون في العراق مثلا لم يتعرضوا لما حدث من فتن واضطرابات في العهد العثماني في بلاد الشام[1] مثلا، وبالتالي فأدبيات تلك الفترة وما نتج عنها عند الطرفين أمر لا علاقة له بمسيحيي العراق والموصل خاصة.
كما أن الشخصيات المسيحية التي لعبت دورا في تشكيل الأساطير المؤسسة لعلاقة المسيحيين بالغرب ( مثل المعلم يعقوب ودوره في الحملة الفرنسية في مصر) لم تجد من يشابهها أو يوازيها في العراق..وكلنا نعلم أن من أدخل الغرب إلى العراق مع إنهيار الدولة العثمانية لم يكونوا من المسيحيين، ويفضل ترك الطبق مستورا الآن.
كما أجد حرجا كبيرا في التأكيد على وطنية المسيحيين العراقيين كما لو أنهم بحاجة إلى من يدافع عنهم أو أنهم في موضع اتهام أصلا، وهم ليسوا كذلك بالتأكيد، لدى المسيحيين العراقيين انتماء قوي للأرض التي كانوا سكانها قبل بقية المكونات الأخرى التي جاءت مع الفتح الإسلامي ومابعده. لو كان يمكن توجيه أي اتهام فالمسيحيون هم آخر من يمكن أن يتهم.
مسيحيو الموصل بالذات مروا بتجارب تاريخية جعلت منهم ليسوا فقط جزءا أساسيا من نسيج المدينة، بل جعلتهم يلعبون دورا أكبر بكثير من حجمهم النسبي عدديا.
في البداية فتحت الموصل أيام الفتح الإسلامي وغالبية سكانها من النصارى مع القليل من المجوس. سكنت قبائل عربية في الموصل ( منجذبة أساسا بخصوبة الأرض والموقع التجاري)، في الغالب كل المجوس أسلموا أو تنصروا، ومن المؤكد أن بعض النصارى قد أسلموا ( بغض النظر عن الأسباب ) لكن عند الفتح العثماني بعد حوالي تسع قرون، كان هناك 36 محلة[2] في الموصل، ثلاثة منها مسيحية، كما توجد مؤشرات إلى وجود مسيحيين يسكنون في أحياء بغالبية مسلمة.
بعد حوالي خمسة قرون، كانت نسبة المسيحيين في الموصل تقريبا نفسها، وصمودهم ومحافظتهم على هويتهم أمر يستحق الدراسة لأن عموم أهل الموصل معرضون إلى محاولات لإزالة ثوابت هويتهم، ودراسة صمود المسيحيين عبر القرون أمر يمكن أن يكون مفيدا في هذا، علما أن وضع سكان الموصل حاليا سيكون أصعب من وضع المسيحيين في القرون السابقة، لأنهم لم يكونوا هدفا مباشرا في أي صراع إلى أن دخلت داعش إليها…أما عموم سكان الموصل وهويتهم، فهي مستهدفة طائفيا عبر مشروع إقليمي وبوضوح لا يمكن تخطيه أو تجاهله.
من السهل التغني بشعارات التعايش بين المسلمين والمسيحيين، وكذلك يكون الأمر في كثير من المدن التي يتغني مثقفوها بالتعايش فيها وتكون مشرحتها مليئة بالجثث من الطرفين…لكن الأمر في الموصل كان فعلا مختلفا..كانت هناك خطوط ( حمر) واضحة تكاد تختصر إلى ( الزواج) فحسب، وعدا ذلك فعلاقات الصداقة وشراكة العمل والجيرة والأهم من كل ذلك الاحترام كانت متبادلة وموجودة بوضوح، دون شعارات ودون نظريات. فقط امر يحدث لأنه طبيعي ولأنه لم يحدث ما يمكن أن يعكر صفو الأمر.
لا أعرف أي مدينة أخرى في المشرق العربي تقول كلمات أشهر أغاني الأعراس فيها ( يردلي[3] كم يردلي سمرا قتلتيني/ خافي من رب السما وحدي لا تخليني/ أبوكي أسمر حلو ما جا على ديني/ أنتي على دينكي وأنا على ديني/ صومي خمسينكي وأصوم ثلاثيني / يردلي كم يردلي) علماً أن الأغنية صارت تعد رمزا تراثيا للموصل وهي أشهر أغاني تراثها قاطبة.
شخصيا أكاد أجزم أن مزاج أهل الموصل لم ينقلب على داعش إلا بعد أن قامت بتهجير المسيحيين من الموصل أواخر يوليو 2014[4]، فقد مضى الشهر الأول من سيطرة داعش على الموصل دون حوادث تذكر، وبدا للموصليين أنهم قد تخلصوا من وطأة حكم المالكي وفساده وتمييزه، ثم كانت صدمة تهجير المسيحيين ومصادرة أموالهم، وهم جيران عمر وأصدقاء وأساتذة وأطباء لأهل المدينة.
لكن المسيحيين لم يكونوا جزءا أصيلا من سكان الموصل فحسب، لقد كانوا ايضا جزءا من تطورها ومن تطور الشخصية الموصلية وعقلها الجمعي.
مر سابقاً أن المهن التي تميز فيها الموصلّيون كانت مهن الضابط والمحامي والطبيب.
ومر أيضا أن قانون الإقطاع العسكري العثماني الذي طبقه العثمانيون حصرا في الموصل هو الذي جعل المدينة تنخرط بالتدريج في سلك العسكرية وفي جو الانضباط العسكري الذي عرف عن الموصلّيين.
فماذا عن المحاماة والطب؟
الحقيقة أن هذه المهن تعبر عن الطبقة الوسطى تحديدا ونشوئها في الموصل.
وكان للمسيحيين دور مهم في هذا.
كيف؟
قانون الإقطاع العسكري كان يستثني المسيحيين الذين لم يكن يحق لهم الالتحاق بالجيش العثماني ( إلا في حدود ضيقة جدا ) وهكذا وجد المسيحيون في الموصل أنفسهم خارج المراتب العسكرية وخارج التنافس الاقطاعي بين الأسر الكبيرة في الموصل ( وربما ساعدهم هذا في التوسع في مجال التجارة). لكن كان ثمة جانب جيد بالنسبة للمسيحيين في تطبيق قانون الإقطاع العسكري، إذ أنه لم يشمل القرى المسيحية التي تحيط بالموصل بينما شمل القرى الأخرى.
بعبارة أخرى، القرى الأخرى بيعت أراضيها أو وزعت على الإقطاع العسكري وتحول فلاحوها إلى أجراء. أما القرى المسيحية فقد احتفظ بها فلاحوها الأصليين، ولا بد أن هذا كان مرتبطا بدور لعبته الكنيسة في ذاك الوقت، لكن الذي نتج عنه كان وضعا منح بعض الحماية للمسيحيين، صحيح أنهم لم يمتلكوا اقطاعيات كبيرة، ولكنهم لم يصبحوا فلاحين أجراء.. لقد كانوا ملاك أراضيهم، كانوا في الوسط بين هذا وذاك. وهذا جعلهم مثل لبنة للطبقة الوسطى التي ستبدأ بالتكون عما قريب.
تزامن كل هذا ( وربما ارتبط) مع الامتيازات التي منحتها الدولة العثمانية لفرنسا تحديدا، ومن ثم تبعتها امتيازات قدمت لدول أوروبية أخرى.
بدأت هذه الامتيازات عندما عقد السلطان سليمان القانوني معاهدة مع فرنسا عام 1536، وبموجب هذه المعاهدة حصلت فرنسا على مجموعة امتيازات داخل حدود الدولة العثمانية، بعضها كان امتيازات تجارية، ولكن الأهم منها الامتيازات التي سمحت لفرنسا أن تحمي رعايا كل الدول الأجنبية ( وليس رعاياها فقط)، كما سمح لها أن ترسل الإرساليات التبشيرية والتي لم تكن لغرض ( تحويل المسلمين إلى المسيحية) كما نتخيل عادة، بل كان الهدف ( الأول على الأقل) منها تحويل المسيحيين من المذاهب الأخرى إلى الكاثوليكية، فقد كان ذلك لا يزال جزءا من أسباب حروبهم ( كانوا يمرون بما نمر به اليوم في مرحلتنا الحالية! ) وفعلا نجحوا مثلا في تحويل الكثير من مسيحيي الموصل من المذهب النسطوري الذي كان سائدا إلى الكاثوليكية.
تبعت هذه الامتيازات الفرنسية امتيازات أخرى أعطيت لبريطانيا وهولندا والنمسا ( خلال القرن السادس عشر) وأعطيت لدول أخرى من ضمنها السويد والدنمارك وبروسيا في القرن السابع عشر.
استمرت هذه الامتيازات ( خاصة الفرنسية ) إلى أوائل القرن التاسع عشر، ورغم ما يقال عن أثرها اللاحق في إضعاف الدولة العثمانية والتمادي في التدخل في شؤونها بحجة حماية الرعايا، إلا أنه كان للامتيازات أثر آخر لا ينكر خصوصا مع مرور الوقت عندما بدأت الدولة العثمانية بالضعف وبدأت النهضة الأوروبية بالتصاعد.
بغض النظر عن كل ما يمكن أن يقال عن دور هذه المدارس في نشر قيم مختلف عليها، فقد ساهمت المدارس التي أسستها هذه الإرساليات في إعداد وتهيئة الطبقة الوسطى، ولأنها كانت مدارس كاثوليكية في الأساس( وتبعتها مدارس لمذاهب أخرى) فأن طلابها في البداية كانوا من المسيحيين، وإن كانت قد فتحت أبوابها لمن يرغب في الدخول من المسلمين.
وكان من الطبيعي أن تركز هذه الإرساليات على الموصل لأن عدد المسيحيين فيها أكبر من بغداد والبصرة، وهكذا كان أثرها ( أقدم) وبالتالي أسرع أثرا في الموصل منها في بغداد.
وكان أثر الآباء الدومينيكان الذين استقروا في الموصل عام 1750م كبيرا، وبحلول عام 1854 افتتح الآباء الدومينكيان عدة مدارس حديثة في الموصل والقرى القريبة، بلغ عدد الطلاب فيها 1000 من الذكور و300 من الإناث، وأدى هذا النشاط في مجال التعليم الحديث إلى ضغط أهالي الموصل على الحكومة فافتتحت أول مدرسة حكومية حديثة في العراق في الموصل في عام 1861م ( ولم تفتتح في بغداد أول مدرسة حكومية إلا بعد ربع قرن في 1886م ).
بعبارة أخرى، واضحة ومباشرة: الموصل سبقت بغداد في التعليم الحديث ( بسبب قدوم الآباء الدومينكان إليها قبل بغداد ) …
ومسيحيو الموصل كانوا أسبق إلى ذلك لأن المدارس الأولى كانت مسيحية أساسا.
وكان مسيحيو الموصل أسرع إلى الالتحاق بوظائف الطبقة الوسطى ( خصوصا الطب والتدريس) لأن فرصهم في المناصب الإدارية في العهد العثماني كانت لا تزال أقل ..( فلننتبه أيضا إلى أن الإرساليات أصلا قد قدمت خدماتها عبر التعليم والطب، فكان من المنطقي جدا أن هاتين المهنتين تكونان في مقدمة اهتمام الطبقة الجديدة الآخذة بالتكون)..
وكان من الطبيعي أن ينتقل الأمر إلى بقية أجزاء المجتمع الذي كان يرى تناقص الفرص في النظام الإقطاعي وسوء الوضع الاقتصادي ..ونرى في هذا اتجاه عوائل الطبقة العليا الموصلّية إلى دراسة الحقوق، حيث كان الأمر أقرب إلى انتمائها الطبقي الإداري، ومن ثم بدأت في الاتجاه إلى الطب والهندسة والتدريس مع دخول القرن العشرين.
هذا كله يفسر إلى حد بعيد لماذا نسبة الأطباء والأكاديميين من المسيحيين أعلى من نسبتهم السكانية بكثير..ويفسر لماذا كان أول طبيب عراقي( بالمعنى الحديث) من مسيحيي الموصل ( سليمان غزالة المولود 1853) والمتخرج من باريس، وأول رئيس لجامعة بغداد من مسيحيي الموصل (د. متي عقراوي وهو رائد وعرّاب التعليم الإلزامي في العراق) وأول وزير صحة عراقي من مسيحيي الموصل (د. حنا بهنام خياط ) وهو أيضا أول عميد عراقي للكلية الطبية الملكية العراقية ( 1934) وأول طبيب عراقي حصل على اختصاص من لندن هو من مسيحيي الموصل ( د.عبد الله قصير).. وهو يفسر أيضا لماذا أول طبيبة عراقية تخرجت من كلية الطب في بغداد كانت من مسيحيي الموصل( سيرانوش ريحاني، وإن تخرجت قبلها من بيروت آنا ستيان وهي من أرمن بغداد) ولماذا أول مهندسة عراقية من مسيحيي الموصل ( جوزفين غزالة)..
يمكن العودة إلى ما كتبه الأستاذ الدكتور سيّار الجميل عن أسماء مهمة لأعلام عراقيين كانوا من مسيحيي الموصل ( والدكتور سيّار هو من أهم من كتب عن الموصل مؤخرا وأدين له بالكثير من المعلومات في هذه السلسلة ، كذلك للدكتور إبراهيم العلاف والأستاذ معن عبد القادر آل زكريا) كما يمكنني أن أذكر شخصيا[5] أسماء لأساتذة ومعلمين وأطباء من المسيحيين أثروا في أجيال كاملة، لكن هذا الاسترسال سيقودنا فقط إلى ما نعرفه مسبقا: حجم الكارثة المجتمعية التي ارتكبتها داعش القادمة عكس التاريخ عندما قامت بتهجير المسيحيين ومصادرة أملاكهم في يوليو 2014م.
تهجير المسيحيين على أيدي حثالة داعش يمثل تهجيرا للموصل نفسها من تاريخها ومن عمقها ومن كل ما شكل الموصل بالأساس..ولا يمكنني أن أتخيل أي شيء يمكن أن يجبر هذا الكسر الذي أصاب الموصل، أو يمكن أن يعيد المسيحيين إليها…هل يعودون حقا ولديهم فرصة ليكونوا مواطنين في أوطان لا تغدر بهم ولا تمهلهم لكي يغيروا دينهم؟…
هل سنفعل لو كنا مكانهم..
لكننا مكانهم أيضا بطريقة ما…
فالمسيحي الموصلي ليس الوحيد المعرض للانقراض في العراق…
والطريق إلى الإنقراض لا يمر بالتهجير فقط..
يتبع
[1] مثل مجازر 1860 في لبنان والتي امتدت إلى دمشق، والتي بدأت أصلا كنزاع بين الموارنة والدروز ثم امتدت لتضم المسلمين إلى جانب الدروز
[2] المحلة تعني الحارة أو المنطقة السكنية
[3] يردلي كلمة تركية من لهجة أهل ماردين وتعني محبوبة قلبي
[4] قامت داعش بسبي الأيزيديات لاحقا بعد شهر تقريبا، كما قامت بتفجير مرقد النبي يونس بعد أيام من تهجير المسيحيين
[5] سبق أن كتبت عن ذاكرتي الشخصية في الموضوع
https://akomari.com/2016/09/25/شريطان-لرهائن-الكنيسة/