د.أحمد خيري العمري-القدس العربي
أكتوبر 2010
(من الأرشيف القديم..الجديد)
تاريخنا، ككل تاريخ، فيه ما هو إيجابي، وفيه ما هو سلبي. لكن فيه استثناءين اثنين، الاستثناء الأول فيه أن الكم الإيجابي كان كبيراً، لدرجة أحدثت ثورة في مسار الإنسانية، ثورة غير مسبوقة، وغير ملحوقة أيضاً، الاستثناء الثاني، أن الجزء السلبي فيه لم يكن كبيراً جداً في البداية على الأقل، واختص بجانب واحد من جوانب الحياة، لكن هذا الجزء السلبي استطاع أن يرسخ جذوره، ويجد من يكرسه، و على الرغم من مخالفته لنصوص كثيرة، إلا أنه وجد من شرعنه وألبسه غطاءً شرعياً..
وهكذا، انتهى الأمر بنا، ونحن في حالة قطيعة مع إيجابيات التاريخ (أي مع الجزء الأكبر منه) وفي حالة تواصل واستمرارية مع سلبيات هذا التاريخ (أي جزء كان صغيراً في بداية الأمر إلى أن كبر مع الوقت مثل كرة ثلج- أو كرة نار ؟!).. وبعبارة أخرى، فإننا فقدنا الصلة، مع الأسف، بتلك الروح المبدعة التي غمرت التاريخ الإسلامي في العهد الأول، الروح التي فتحت العالم، بكل ما للفتوح من معانٍ عميقة ومتنوعة، لكننا، ومع أسف أكبر، لا نزال نحمل ما أفقدنا تلك الروح المبدعة، ولا نزال نحمل كل الحيثيات التي ساهمت في قتل معظم ما جعلنا نقف على القمة في أوائل التاريخ الإسلامي..
فقدنا روحية الفتح، وورثنا بدلاً منها الاستبداد.. بالذات ورثنا تقبلنا للاستبداد، تقبلنا للأمر الواقع، ورثنا قابلية الاستبداد، التي هي في حقيقتها قابلية الاستعباد، وهي ذاتها قابلية الاستعمار..
كيف حدث ذلك؟.. ربما لأن المفاهيم السلبية، عندما تتجاور مع المفاهيم الإيجابية، تتمكن من أن تقهرها، ما لم يحدث فصل واضح وقوي بين الاثنين. ربما هي قوة السلب التي تتقوى بالكسل وبحقيقة أن الإيجاب يتطلب تحمل عبء المواجهة. وربما لأن بعض فقهاء السلطة حاولوا التصالح مع الأمر الواقع، وحاولوا تمرير بعض المظالم وإعطاءها وجهاً شرعياً، بدافع “درء المفسدة” و”طاعة ولي الأمر” في البداية، واستخدام مفهوم شديد السلبية للقضاء والقدر، ربما دون قصد سيئ مسبق، لكن بنتائج شديدة السوء مع الوقت، تحول الأمر من التعايش مع نظام حكم انتقل من الخلافة إلى الملك العضوض، إلى التعايش مع واقع سلبي بكل معطياته، انتقل من التصالح مع أمر واقع من أجل دفع مفسدة ما، أو جلب مصلحة ما، إلى مهادنة واقع هو في جوهره مضاد لكل قيم الشريعة ومقاصدها. وهكذا انتقلت الأمة من موقع الريادة الحضارية بين الأمم، موقع “خير أمة أخرجت للناس”، إلى مراتب دنيا متخلفة بين الأمم، سواء كان ذلك حسب مقاييس هذه الأمم، أو مقاييسنا نحن..
وإذا كانت ثقافة التصالح مع الأمر الواقع، قد أجهضت كل محاولة لتغيير نظام الحكم، واعتبرت أن واجب المسلمين هو الدعاء للسلطان المتغلب (باعتبار أن الحكم حلبة صراع بين طرفين والجمهور محض متفرج يدعو للمتغلب منها)، فإنها أيضاً أجهضت، كنتيجة لاحقة، مفهوم التغيير الاجتماعي والثورة الاجتماعية الثقافية التي أطلقها الإسلام، وذلك عبر قصر مفهوم “الخروج” على الخروج على السلطة وعلى ولي الأمر، فالرضوخ والسكوت هو واحد في نهاية الأمر، خاصة وأن مفهوم “الكفر البواح” كان مفهوماً واسعاً جداً، وتمكنت مؤسسات الحكم بمختلف أنواعها أن تفعل كل شيء لكن أن تتهرب من بواح الكفر، عبر إخفائه وتغطيته، وضمان أن ذلك سيتكفل بعدم الخروج عليها.. تفاعل ذلك مع مفهوم سلبي لعقيدة القضاء والقدر، تقعد ليفسر سوء الأوضاع وتدهورها بضعف أداء الشعائر الدينية، والحث على أدائها دون التركيز على دورها في عملية البناء الاجتماعي..
ولما كان مستوى الأداء الشعائري لا يخضع لمعيار ومقياس واضح، لأنه يرتبط فوراً بعلم ذاك الذي يعلم ما في الصدور، فإن ربط التدهور بسوء أداء الشعائر كان دوماً هناك.. وهكذا فسرت أسباب التدهور بطريقة تجعل الفرد لا ينظر إلا إلى أعراض هذا التدهور لا جذوره العميقة..
دخلنا في حلقة مفرغة، ومستمرة، من عملية التدهور والمزيد من التدهور واعتبار هذا التدهور عقوبة نستحقها لهذا السبب أو ذاك، ومحاولة الدفع بالمزيد من الشعائر التي تعرضت لزيادة وإنقاص: أزيدت عليها البدع ، وأنقصت منها الأبعاد الاجتماعية..
وما الذي نتج عن هذا كله؟.. نتج إرث راسخ من هذه الثقافة التي كرست الواقع، وتقدس هذا الإرث عبر التقادم، وتماهى مع الدين ومع النصوص الدينية على الرغم من أنه مخالف لها في نقطة انطلاقها ونقطة مقصدها، وتحول هذا الإرث، الذي تكون في معظمه في غير عصور الريادة، بل في عصر الانحطاط، ليكوّن المنظار الذي ننظر من خلاله لكل النصوص الدينية، بكل ما يعني ذلك من سيطرة لهذه الثقافة على التعامل مع هذه النصوص. لم يخل الأمر من مفكرين وثوار ومصلحين حاولوا التغيير، حتى داخل المؤسسات التي كرست هذا الواقع، لكن التيار كان أقوى من هذه المحاولات، التي تم وأدها في مهدها، أو تقعيدها واحتوائها..
ما الذي نتج عن هذا كله أيضاً؟ نتج هذا “الفرد” الذي تعايش مع واقع الانهيار والتردي.. فرد تبلد إحساسه فلم يعد يدرك أنه صار في الدرك الأسفل. حتى إذا ثار، لهذا السبب أو ذاك، تكون ثورته عاطفية، ولذا ما تلبث أن تخمد، دون أن يزول سبب هذه الثورة، وما يلبث الفرد أن يرجع لتلك التغيرات المجتزأة التي تجعله يدور في ذات الحلقة المفرغة، بعيداً عن عملية تغيير حقيقية..
إنه الفرد الذي يحمل “عبء” التاريخ على كاهله، بفارق أنه يحمل عبئاً معيناً من هذا التاريخ وليس التاريخ كله، فقد حدثت لنا “قطيعة” مع أفضل ما في تاريخنا، على الرغم من أننا نقدس هذا الجزء الإيجابي من تاريخنا، إلا أنه تم اختطافه لصالح ما هو سلبي في هذا التاريخ، لذلك لا تواصل لدينا مع الروحية التي أنجزت الفتح المبين: فتح العالم أجمع، روحية “قوموني”، روحية: ” متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً” روحية التكافل والعدل الاجتماعيين، روحية “كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته” التي تجسد تلاحم الحقوق و الواجبات، ولكن تواصلنا الحقيقي هو مع إرث الرضوخ والقبول، إرث التعايش مع ما لا يجب التعايش معه، والاستمرار فيما لا يمكن الاستمرار فيه..
وإذا كنا قد وصلنا إلى هذا الدرك من بوابة “بعض” التاريخ، وعبر تراكماته، فإنه لا طريقة للخروج إلا عبر البوابة نفسها.. نسف التاريخ كله – كما يدعو البعض – لن يؤدي إلا إلى انهياره فوق رؤوسنا ودفننا تحته، لكن الحل هو في التفاعل مع معطياته بشكل يجعل (الوعي) في حالة تواصل مع ما هو إيجابي (وهو كثير)، ويجعله في حالة قطيعة مع ما تضخم وتراكم من سلبيات عبر استئصالها من الإرث الثقافي، على الرغم مما في ذلك من خطورة توازي خطورة المشي في حقل ألغام..
الأمر في النهاية يتطلب ذلك.. تاريخنا هو تاريخ خام، والتاريخ الخام، مثل النفط الخام، لا يمكن أن يستخدم حقاً.. لكي نصل إلى النهضة لا بد من “تكرير” هذا التاريخ، تنقيته مما تضخم وتراكم من سلبياته، من أجل الوصول إلى المادة الفعالةفيه، تلك المادة الإيجابية التي لا تزال كامنة فيه، على الرغم من كل ما ران عليها عبر التاريخ..
آلية تكرير التاريخ الخام هذه لن تتضمن إنكار سلبياته، لأن الوصول إلى الإيجابيات يتطلب حتماً إزاحة السلبيات، و إزاحتها تتطلب تحديدها، سيكون ذلك مؤلماً جداً طبعاً، ولا يخلو من خطورة أيضاً، ولكن كذلك كل العمليات الجراحية التي تنقذ حياة مريض يوشك على الهلاك..!
القدس العربي 6-7-2008م