الماضي والمستقبل وأهمية فهمهما للخروج من الحاضر – انشقاق القمر نموذجا
منذ أن صدر كتابي ” السيرة مستمرة” الذي تناول المرحلة المكية من السيرة النبوية الشريفة، وهناك انتقادات حادة تتناول بعض ما طرح في الكتاب، وهو أمر طبيعي بل وصحي جدا على الأقل مع بعض هذه الانتقادات، ويمكن اعتبار أن الجزء الخاص بانشقاق القمر هو أكثر هذه الانتقادات رواجا ووجاهة، رغم أن ما قلته لم يكن جديدا تماما، وسبق وأن قيل من قبل مفسرين وعلماء كثر، ولكن ربما ليس في إطار سرد السيرة النبوية الشريفة.
ملخص ما طرحته في الكتاب بهذا الشأن، هو أن السياقات القرآنية كانت تؤكد مرارا على أن ” أهل مكة” كانوا يطالبون الرسول عليه الصلاة والسلام بمعجزة مادية كما جاء مع بقية الرسل، ولكن لأن كفار الأقوام السابقة كانوا يطالبون أيضا بالشيء ذاته، دون أن يؤمنوا وقت نزول هذه المعجزات، فإن هذا الأمر لن يحدث ولن يتكرر مع كفار مكة.
هكذا جاءت الآيات القرآنية لتؤكد وترسخ.
لكن هذا الفهم سيتعارض مع الفهم السائد لآية ” اقتربت الساعة وانشق القمر” فالانشقاق هنا جاء بصيغة الفعل الماضي، وهذا فسر ( عند جمهور المفسرين) بأنه كان معجزة مادية في حياته عليه الصلاة والسلام، تعاضدا مع حديث صحيح ( ومتفق عليه) رواه عبد الله ابن مسعود، وعدد من الصحابة .
الخروج من هذا التعارض – حسبما طرح في الكتاب وكما قال كثيرون قبلي – كان عبر ثلاثة محاور..
المحور الأول– الكثير من علامات القيامة وأوصافها جاءت في القرآن الكريم بصيغة الماضي، لكننا لا نتعامل معها على أنها قد حدثت بالفعل، بل إن استعمال صيغة الماضي كان لتأكيد وقوعها لا محالة، وهو أمر نقله مفسرون قدماء ضمن تفسيرات أخرى كما سيأتي مفصلا.
على سبيل المثال هذه آيات قرآنية كريمة تحدثت عن يوم القيامة بصيغة الماضي، لكن لا أحد يقول إنها حدثت بالفعل، وإنما هو المستقبل ولكن الماضي هنا صيغة توكيد.
وأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) الشعراء
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) ق
وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الأعراف
المحور الثاني- رغم صحة الحديث وعدم وجود خلاف في ذلك، إلا أن الصحابي الوحيد الذي يفهم من روايته أنه شهد ” الانشقاق” عيانا هو الصحابي عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أما بقية الرواة فلا بد أنهم رووا عنه ( أو عن سواه ممن لم تصل روايتهم لنا مباشرة وبالتالي فنحن لا نعرفهم)، فبعض هؤلاء كانوا صغارا جدا أو لم يولدوا في الوقت الذي يفترض فيه حدوث الانشقاق، والبعض الآخر لم يكن في مكة، كما أن هناك بعض الروايات الضعيفة عن آخرين ( وسيأتي الحديث مفصلا عن هذا).
الإشارة إلى وجود صحابي واحد ” شهد” الواقعة لا يعني تكذيب أو تضعيف ” الحديث” الذي نقله، بل هو للتذكير إلى أن ” القلة في عدد الشهود” يتعارض مع فكرة ” المعجزة” بحد ذاتها. مفهوم المعجزة كما عرضها القرآن كان يتطلب باستمرار وجود ” جمهور مشاهد” للمعجزة حتى مع معجزات أقل ” حجما ” بكثير من انشقاق القمر. قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) طه..
وهذا يخص معجزة تحول العصا إلى أفعى ، وهي معجزة أقل حجما بكثير من انشقاق القمر، لكن رغم ذلك حشر الناس لها في يوم عيد وفي وضح النهار لكي يراها الجميع، فكيف تحدث معجزة مثل انشقاق القمر دون أن يدعى الجميع بل ودون أن يتحدث كثيرون عن تجربتهم تلك؟
وإذا كان أهل مكة قد شاهدوا انشقاق القمر – بعد أن طلبوا معجزة مادية- ثم استمروا في تكذيبهم للرسول _عليه الصلاة والسلام _فكيف لم يحق عليهم القول بالعذاب كما حدث مع الأقوام السابقة التي كذبت رسلها.
المحور الثالث- القول بأن آية ” اقتربت الساعة وانشق القمر” تعني انشقاقه يوم القيامة ليس تفسيرا حديثا معاصرا يتوسل النظرة المادية الغربية كما نتهم بسهولة – بل هو قول موجود عند مفسرين قدامى منذ عهد التابعين، نقله بعضهم دون تأييده مع ترجيح القول الآخر، وقال به آخرون، رغم أن قول الجمهور كان بوقوعه فعلا في حياته عليه الصلاة والسلام.
هذه هي الركائز الأساسية في طرح فكرة مغايرة عن السائد في قصة انشقاق القمر في السيرة النبوية….
مغايرة عن السائد نعم، لكنها ليست جديدة، وبالتأكيد ليست من اختراعي.
آلية النقد الحاسم : قوة الأغلبية، وقوة الحديث الصحيح
من جهة أخرى نقد هذه الركائز انصب في اتجاهين:
الأول– أن جمهور المفسرين قد فسر هذه الآية على أنها قد وقعت فعلا في حياته عليه الصلاة والسلام، بعض الأخوة استعمل كلمة ” إجماع المفسرين” لكن الجمهور كلمة أدق.
الثاني – وجود حديث صحيح متفق عليه يفيد بوقوع الانشقاق فعلا في حياته عليه الصلاة والسلام.
إذن، النقد استند على آلية واضحة ووجيهة : قول أغلب المفسرين، ووجود حديث صحيح.
لا يمكن التقليل من أهمية هذه الآلية في شقيها في التأثير على طريقة التفكير السائدة في كثير من الأمور المرتبطة بالدين بشكل أو بآخر…قال المفسرون، وحديث صحيح،..الأمر محسوم!
لكن السؤال هنا: هل هذه الآلية صالحة للاستخدام على الدوام؟ أم أن نفس من يستخدمها كحجة الآن ربما يتخلى عنها في سياق آخر ومع آية أخرى؟
هل الأمر محسوم حقا ؟ في كل الحالات؟
بعبارة أخرى: هل إجماع المفسرين على تفسير ” آية” ما ووجود حديث صحيح يسند هذا التفسير، سيجعل هذا التفسير مقبولا في جميع الأحوال اليوم؟ أم أن هناك بعض الآيات التي ستدخل فيها معطيات أخرى تجعل إجماع المفسرين في درجة أقل أهمية، ويتم التعامل مع الحديث الصحيح تأويلا؟
فلننس القمر قليلا، ونتحدث عن الشمس!
على سبيل المثال: الآية القرآنية الكريمة ” وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ يس(38) أغلب المفسرين الأوائل تعاملوا معها على ظاهر معنى ” الجريان”، الشمس ” تجري” ..وهذا ” الجريان” هو الذي يسبب تعاقب الليل والنهار.
قال الطبري في تفسيره عن هذه الآية : وقوله (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا) يقول تعالى ذكره: والشمس تجري لموضع قرارها، بمعنى: إلى موضع قرارها؛ وبذلك جاء الأثر عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، عن أبي ذرَ الغفاريّ، قال: كنت جالسا عند النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم في المسجد، فلما غَرَبت الشمس، قال: يا أبا ذَرّ هَلْ تَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ الشَّمْسُ؟ قلت الله ورسوله أعلم قال: فإنها تذهب فتسجد بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهَا، ثُمَّ تَسْتَأْذِنُ بالرُّجُوعِ فَيُؤْذَنُ لَهَا، وَكَأَنَّهَا قَدْ قِيلَ لَهَا ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَطْلُعُ مِنْ مَكَانِهَا وَذَلِكَ مُسْتَقَرّها”.
وقال بعضهم في ذلك بما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا) قال: وقت واحد لا تعدوه.
وقال آخرون: معنى ذلك: تجري لمجرى لها إلى مقادير مواضعها، بمعنى: أنها تجري إلى أبعد منازلها في الغروب، ثم ترجع ولا تجاوزه. قالوا: وذلك أنها لا تزال تتقدم كلّ ليلة حتى تنتهي إلى أبعد مغاربها ثم ترجع.
وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية : وَقَوْلُهُ: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} ، فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ: مُسْتَقَرُّهَا الْمَكَانِيُّ، وَهُوَ تَحْتَ الْعَرْشِ مِمَّا يَلِي الْأَرْضَ فِي ذَلِكَ الْجَانِبِ، وَهِيَ أَيْنَمَا كَانَتْ فَهِيَ تَحْتَ الْعَرْشِ وَجَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ؛ لِأَنَّهُ سَقْفُهَا، وَلَيْسَ بَكَرَةً كَمَا يَزْعُمُهُ كَثِيرٌ مِنْ أَرْبَابِ الْهَيْئَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ قُبَّةٌ ذَاتُ قَوَائِمَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ، وَهُوَ فوق العالم مما يلي رؤوس النَّاسِ، فَالشَّمْسُ إِذَا كَانَتْ فِي قُبَّةِ الْفَلَكِ وَقْتَ الظَّهِيرَةِ تَكُونُ أَقْرَبَ مَا تَكُونُ مِنَ الْعَرْشِ، فَإِذَا اسْتَدَارَتْ فِي فَلَكِهَا الرَّابِعِ إِلَى مُقَابَلَة هَذَا الْمَقَامِ، وَهُوَ وَقْتُ نِصْفِ اللَّيْلِ، صَارَتْ أَبْعَدَ مَا تَكُونُ مِنَ الْعَرْشِ، فَحِينَئِذٍ تَسْجُدُ وَتَسْتَأْذِنُ فِي الطُّلُوعِ، كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} هُوَ انْتِهَاءُ سَيْرِهَا وَهُوَ غَايَةُ ارْتِفَاعِهَا فِي السَّمَاءِ فِي الصَّيْفِ وَهُوَ أَوْجُهَا، ثُمَّ غَايَةُ انْخِفَاضِهَا فِي الشِّتَاءِ وَهُوَ الْحَضِيضُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِمُسْتَقَرِّهَا هُوَ: مُنْتَهَى سَيْرِهَا، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، يَبْطُلُ سَيْرُهَا وَتَسْكُنُ حَرَكَتُهَا وَتُكَوَّرُ، وَيَنْتَهِي هَذَا الْعَالَمُ إِلَى غَايَتِهِ، وَهَذَا هُوَ مُسْتَقَرُّهَا الزَّمَانِيُّ.
قَالَ قَتَادَةُ: {لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} أَيْ: لِوَقْتِهَا وَلِأَجَلٍ لَا تَعْدُوهُ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ: أَنَّهَا لَا تَزَالُ تَنْتَقِلُ فِي مَطَالِعِهَا الصَّيْفِيَّةِ إِلَى مُدَّةٍ لَا تَزِيدُ عَلَيْهَا، يُرْوَى هَذَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو.
وقال القرطبي في تفسيره : وْلُهُ تَعَالَى: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرُهُ وَآيَةٌ لَهُمُ الشَّمْسُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّمْسُ مَرْفُوعًا بِإِضْمَارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ الثَّانِي. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا بِالِابْتِدَاءِ” تَجْرِي” فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ أَيْ جَارِيَةٌ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ_صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ:” وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها” قَالَ:” مُسْتَقَرُّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ”. وَفِيهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمًا: (أَتَدْرُونَ أَيْنَ تَذْهَبُ هَذِهِ الشَّمْسُ) قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:” إِنَّ هَذِهِ تَجْرِي حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ فَتَخِرُّ سَاجِدَةً فَلَا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُقَالَ لَهَا ارْتَفِعِي ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ فَتَرْجِعُ فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَطْلِعِهَا ثُمَّ تَجْرِي حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ فَتَخِرُّ سَاجِدَةً وَلَا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُقَالَ لَهَا ارْتَفِعِي ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ فَتَرْجِعُ فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَطْلِعِهَا ثُمَّ تَجْرِي لَا يَسْتَنْكِرُ النَّاسُ مِنْهَا شَيْئًا حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا ذَاكَ تَحْتَ الْعَرْشِ فَيُقَالُ لَهَا ارْتَفِعِي أَصْبِحِي طَالِعَةً مِنْ مَغْرِبِكِ فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَغْرِبِهَا) وَقَالَ عِكْرِمَةُ: إِنَّ الشَّمْسَ إِذَا غَرَبَتْ دَخَلَتْ مِحْرَابًا تَحْتَ الْعَرْشِ تُسَبِّحُ اللَّهَ حَتَّى تُصْبِحَ، فَإِذَا أَصْبَحَتِ اسْتَعْفَتْ رَبَّهَا مِنَ الْخُرُوجِ فَيَقُولُ لَهَا الرَّبُّ: وَلِمَ ذَاكَ؟ قَالَتْ: إِنِّي إِذَا خَرَجْتُ عُبِدْتُ مِنْ دُونِكَ. فَيَقُولُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وتعالى: أخرجي فليس عليك من ذاك شيء، سَأَبْعَثُ إِلَيْهِمْ جَهَنَّمَ مَعَ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ يَقُودُونَهَا حَتَّى يُدْخِلُوهُمْ فِيهَا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَغَيْرُهُ: الْمَعْنَى تَجْرِي إِلَى أَبْعَدِ مَنَازِلِهَا فِي الْغُرُوبِ، ثُمَّ تَرْجِعُ إِلَى أَدْنَى مَنَازِلِهَا، فَمُسْتَقَرُّهَا بُلُوغُهَا الْمَوْضِعَ الَّذِي لَا تَتَجَاوَزُهُ بَلْ تَرْجِعُ مِنْهُ، كَالْإِنْسَانِ يَقْطَعُ مَسَافَةً حَتَّى يَبْلُغَ أَقْصَى مَقْصُودِهِ فيقضي وطره، ثم يرجع إلى منزل الْأَوَّلِ الَّذِي ابْتَدَأَ مِنْهُ سَفَرَهُ. وَعَلَى تَبْلِيغِ الشَّمْسِ أَقْصَى مَنَازِلِهَا، وَهُوَ مُسْتَقَرُّهَا إِذَا طَلَعَتِ الْهَنْعَةَ، وَذَلِكَ الْيَوْمُ أَطْوَلُ الْأَيَّامِ فِي السَّنَةِ، وَتِلْكَ اللَّيْلَةُ أَقْصَرُ اللَّيَالِي، فَالنَّهَارُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَاعَةً وَاللَّيْلُ تِسْعُ سَاعَاتٍ، ثُمَّ يَأْخُذُ فِي النُّقْصَانِ وَتَرْجِعُ الشَّمْسَ، فَإِذَا طَلَعَتِ الثُّرَيَّا اسْتَوَى اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ ثِنْتَا عَشْرَةَ سَاعَةً، ثُمَّ تَبْلُغُ أَدْنَى مَنَازِلِهَا وَتَطْلُعُ النَّعَائِمَ، وَذَلِكَ الْيَوْمُ أَقْصَرُ الْأَيَّامِ، وَاللَّيْلُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَاعَةً، حَتَّى إِذَا طَلَعَ فَرْغُ الدَّلْوِ الْمُؤَخَّرِ اسْتَوَى اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، فَيَأْخُذُ اللَّيْلُ مِنَ النَّهَارِ كُلَّ يَوْمٍ عُشْرَ ثُلُثِ سَاعَةٍ، وَكُلَّ عَشَرَةِ أَيَّامٍ ثُلُثَ سَاعَةٍ، وَكُلَّ شَهْرٍ سَاعَةً تَامَّةً، حَتَّى يَسْتَوِيَا وَيَأْخُذُ اللَّيْلُ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَاعَةً، وَيَأْخُذُ النَّهَارُ مِنَ اللَّيْلِ كَذَلِكَ.
وجاء في تفسير النسفي : وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها أي لحد موقت تنتهي إليه من فلكها، وهي نهاية جريها إلى أن ترجع في المنقلبين الشتاء والصيف، وقيل: مستقرها: وقوفها كل وقت زوال، بدليل وقوف الظل حينئذ، وقيل:
مستقرها يوم القيامة حين تكوّر، وفي الحديث: مستقرها تحت العرش تسجد فيه كل ليلة بعد غروبها» ، وهذا أصح الأقوال لوروده عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المروي في البخاري عن أبي ذر
وقال الثعالبي في تفسيره ومُسْتَقَرِّ الشَّمْسِ: – على ما في الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من طريق أبي ذَرٍّ- «بَيْنَ يَدَيِ العَرْشِ تَسْجُدُ فِيه كُلَّ لَيْلَةٍ بَعْدَ غُرُوبِها» وهو فِي البخاري «1» وفي حديثٍ آخر «أنَّهَا تَسْجُدُ/ في عين حمئة»
وقال القاسمي في تفسيره : وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها أي لحدّ لها مؤقت مقدر ينتهي إليه دورها اليومي أو السنوي. شبه بمستقر المسافر إذا قطع مسيره. فالمستقر اسم مكان تقطعه في حركتها الدائمة ثم تعود.
أغلب هذه الأقوال تتشابه مع بعضها، وهي متفقة في أن الجريان يعني السير، والاختلاف في ” المستقر” فمن يعتبر المستقر ( مكانا) موضعا للشمس تصله بعد المسير ( وهو حسب ما جاء في الأقوال السابقة تحت العرش، أو عين حمئة ) أو هناك من يعتبر المستقر ( ميقاتا) أي وقتا معينا ينتهي فيه الجريان ( كيوم القيامة كما جاء في الأقوال السابقة).
هذا ما عليه أغلب أقوال المفسرين القدامى وأمهات كتب التفسير.
يقوي هذا التفسير حديث صحيح، مر ضمن ما سبق من أقوال، وهو حديث أبي ذر الغفاري: قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِأَبِي ذَرٍّ حِينَ غَرَبَتِ الشَّمْسُ: «أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ؟»، قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: ” فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ العَرْشِ، فَتَسْتَأْذِنَ فَيُؤْذَنُ لَهَا وَيُوشِكُ أَنْ تَسْجُدَ، فَلاَ يُقْبَلَ مِنْهَا، وَتَسْتَأْذِنَ فَلاَ يُؤْذَنَ لَهَا يُقَالُ لَهَا: ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ} [يس: 38] ” ( صحيح البخاري 3199 ، صحيح مسلم 251 ، مسند أحمد
21352 )
لدينا إذن تفسير تبناه أغلب المفسرين القدامى ( ولن أتحدث هنا عن إجماع أو عن رأي جمهور لصعوبة تحديد ذلك بدقة) وهو تفسير يستند إلى حديث صحيح ( ومتفق عليه)، كما أنه متناسق مع المعارف الإنسانية في ذلك الوقت.
قوة هذا التفسير إذن تستند إلى ( اتفاق أغلب المفسرين القدامى عليه + وجود حديث صحيح) بالضبط كما هي الآليات التي استخدمت في انتقاد أي تفسير آخر لآية ( اقتربت الساعة وانشق القمر)..رأي أغلب المفسرين، وحديث صحيح.
لكن هل هناك اليوم من يؤمن بنفس هذا التفسير المباشر للآية الكريمة؟
الرؤية المعاصرة لآية جريان الشمس
التفسير المعاصر المقبول اليوم يختلف عن أقوال المفسرين ولا يجد غضاضة في ذلك.. فنجد في موقع دار الإفتاء المصرية في الرد على شبهة تعارض القرآن مع العلم في موضوع ” جريان الشمس ” ما يلي : فالثابت علميًّا أن الشمس لها حركات متعددة؛ منها دورانها حول نفسها, وهذا الدوران يصح أن يسمَّى جريًا.
وقد ثبت علميًّا أن الشمس لها حركة حقيقية؛ حيث تنطلق بسرعة مخصوصة قدِّرت بنحو اثني عشر ميلًا في الثانية في اتجاه نجم يسمَّى بالنجم “فيجا” في الإفرنجية أو “النسر الواقع” في العربية.
أو أن يقال إن جريان الشمس يعني في رأي العين من مشرقها إلى مغربها، فالنظر إلى الشمس من الناحية الظاهرية يوحي بحركتها في حين أن المتحرك هو الأرض.
أي أن التفسير المعاصر قد وفق بين المعارف العلمية السائدة اليوم، وبين اللفظ القرآني، وهو أمر لا غبار عليه بل هو أمر مطلوب وهو جزء من قدرة اللفظ القرآني على الإعجاز المستمر، كما أنه تخلى عن ربط التفسيرات السابقة بين ” جريان الشمس” و ” حركة الليل والنهار” حيث أن حركة الشمس كما نفهمها اليوم لا ترتبط بهذا.
إذن آلية ” غالبية التفاسير السابقة ووجود حديث صحيح يؤيدها ” ليست آلية صحيحة بالمطلق، بل يمكن أحيانا أن تظهر ” معطيات جديدة” تغير من تفسير ساد سابقا لآية قرآنية كريمة، ومن فهم حديث صحيح، دون أن يعني هذا إنكارا للآية القرآنية – والعياذ بالله – أو تضعيفا للحديث الصحيح.
إذا كان هذا يصح بالنسبة للشمس وحركتها، وبناء على المعطيات العلمية المعاصرة، فلماذا لا يصح أيضا بالنسبة للقمر، وقد خلقه الله كما خلق الشمس ” بحسبان”.
المعجزة الأكبر من كل معجزات الأنبياء…والأقل ذكرا ؟!
اليوم نعرف عن القمر وتأثيره على الأرض ما يجعلنا نستوعب أن حدوث انشقاق في القمر سيؤدي إلى حدوث فيضانات هائلة (بحجم تسونامي) وزلازل وبراكين على نحو يؤثر على الحياة نفسها، لا أقول هذا لكي أستخدم هذه المعلومات للدلالة على عدم ” حدوث انشقاق القمر” لأنه من الممكن أن يكون الجواب أن الله قد منع حدوث تأثيرات أرضية لانشقاق القمر، ولكني أسوق هذه المعطيات لبيان أن معجزة بحجم انشقاق القمر هي أكبر بكثير من أي معجزة أخرى لنبي أو رسول، ورغم ذلك نرى أنها ذكرت مرة واحدة فقط في القرآن ( بتفسير الجمهور للآية الكريمة) بينما معجزات أصغر منها بكثير ذكرت مرات عديدة ( عصا موسى 12 مرة، ناقة صالح 7 مرات، إحياء الموتى وشفاء الأكمه والأبرص على يد السيد المسيح بإذن الله مرتان)، بل إن معجزة ” المائدة من السماء” ذكرت مرة واحدة، لكن بتفصيل أكثر، بينما انشقاق القمر ( بكل حجم وأهمية ذلك) ذكر مرة واحدة فقط، وبأسلوب خال من التفصيل الذي جاء في ذكر المعجزات الأخرى.
ألا يجعلنا هذا نتفكر؟
ثم إن كفار مكة لم يؤمنوا بعد هذه المعجزة على كبر حجمها، ورغم ذلك لم يصبهم العذاب بتكذيبهم للرسول عليه الصلاة والسلام ومعجزته، بينما دفع قوم صالح ثمن ذلك وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ الشعراء(156) وتكرر ذلك في الأعراف 73 وهود 64 )
جاء التهديد في سورة المائدة لمن يكفر بعد تحقيق المعجزة التي طلبت قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ المائدة (115)
وتقدم لنا سورة القمر نفسها أمثلة عديدة عن تكذيب الأقوام السابقة لأنبيائها وآياتهم، وتكون النتيجة في كل مرة ” فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ”.
لكن أهل مكة – رغم تكذيبهم لمعجزة أضخم بكثير من كل معجزات الرسل السابقين، وهي معجزة انشقاق القمر حسب تفسير الجمهور- فإنهم يستثنون من هذا العذاب. بل لا توجد إشارة لاحقة تذكرهم بهذه المعجزة أو تذكرهم بمنحهم فرصة أخرى ..
ألا يجعلنا هذا نتفكر مرة أخرى؟
كفار مكة يطالبون بمعجزات مادية!
فلنرجع الآن إلى سياقات مطالبة الكفار لمعجزة مادية من الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، وكيف تعامل القرآن مع هذه المطالبات، وهل يتفق هذا كله مع تفسير الجمهور للآية؟
الآية المعنية ( اقتربت الساعة وانشق القمر ) تنزلت في النصف الأول من المرحلة المكية، بينما تتوالى الآيات لاحقا، تتحدث عن مطالبة المشركين بآية “كونية” دون أن تشير إلى أن الآية قدمت لهم فعلا..
- في سورة الاعراف وهي مكية وتسلسل نزولها 39 أي بعد سورة القمر بثلاث سور فقط. يقول تعالى: وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)
يقول الحق سبحانه وتعالى ( واذا لم تأتهم بآية ) ولم يقل ألم تأتهم بآية وهي (شق القمر) على عظمتها.. يقول الكفار لولا اجتبيتها أي لو اخترعت أنت آية لك من أجل أن تقنعنا بنبوتك مما يدل على أنهم لم يشاهدوا آية منه.
- في سورة طه مكية وتسلسلها 45 (وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133)
أي أن الله سبحانه وتعالى يرد على طلب المشركين (بآية من ربه) ألم يكفهم معرفتهم وعلمهم بالآيات التي أنزلت على الأقوام السابقة حيث أهلكوا نتيجة تكذيبهم لرسلهم وكذلك ورود علامات نبوة محمد ( عليه الصلاة والسلام) في الصحف الأولى…ولم يذكرهم أو يجادلهم بمعجزة انشقاق القمر.
- في سورة الشعراء: مكية تسلسل نزولها في مكة 47 أي بعد سورة القمر أيضا… (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)
أي لو نشاء أن ننزل على كفار قومك معجزة من السماء تلجئهم من قوتها ووضوحها وشدتها إلى الإيمان فتصير أعناق أصحابهم وجماعاتهم منقادة لها حتما.
وهذه الآية نزلت بعد سورة القمر… فهل أن معجزة (شق القمر) هي دون هذا المستوى الذي تظل أعناق الكفار لها منقادة ..حيث إنها لم تؤد إلى هذا الانقلاب في إيمان قريش؟
4 – في سورة الإسراء وتسلسل نزولها 50 نرى الكفار يطالبون بما هو أقل من انشقاق القمر
وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)
ولكن لم يأت الجواب القرآني مذكرا لهم بانشقاق القمر وتكذيبهم له، بل كان الجواب: سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا؟
- في سورة يونس وهي مكية وتسلسل نزولها 51 وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)
يقول الكفار (لولا أنزل عليه آية؟) ويأتي الجواب: (فانتظروا) ولم يقل لهم لقد أنزلت…أو يذكرهم بحادثة شق القمر.
- في سورة الأنعام: وهي مكية وتسلسل نزولها في مكة 55 يقول تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109)
الكلام موجه للمؤمنين أنهم (أي الكفار) قد يؤمنوا إذا جاءتهم آية . ولم يقل أنهم لم يؤمنوا عند (انشقاق القمر).
- وفي سورة العنكبوت وهي من أواخر السور المكية وتسلسل نزولها في مكة 85 وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)
ها هم يطالبون، بعد 13 سنة من بدء الدعوة، في نهاية المرحلة المكية بآية، والجواب أن هذا الكتاب ( القرآن) كافٍ لمن أراد أن يؤمن وليس الآيات المادية…
- في سورة الرعد وهي مدنية وتسلسل نزولها في المدينة 10 يقول تعالى : وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)
ثم يقول في آية أخرى في نفس السورة : وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27)
الكافرون لا يزالون يطالبون بآية ” مادية” وآيات القرآن تقول أن هذه مرحلة انتهت: أنت منذر وهادي ( لكل الأقوام) أما الآيات المادية فهي تختص بقوم محددين بزمان ومكان تلك الآية.
وبعد هذا كله هناك آية كريمة تشرح بوضوح السبب في عدم إنزال آية مادية…
وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا الإسراء(59)
الآيات المادية لم تمنع تكذيب الأقوام…لماذا نرسلها إن كانت النتيجة واحدة، على البشرية أن تبلغ سن الرشد، وبدلا من التعامل مع الآيات المادية، ثمة نوع آخر من المعجزة في هذه الرسالة الخاتمة….
ألا يجعلنا هذا كله نتفكر ؟ كيف يتسق هذا الجواب القرآني الممتد عبر مختلف السور مع التفسير السائد لآية ” اقتربت الساعة وانشق القمر”؟
****
أقوال المفسرين: الرأي والرأي الآخر
سبق وذكرت أن قول جمهور المفسرين في هذه الآية هو أن الانشقاق حدث فعلا في حياته عليه الصلاة والسلام في مكة.
لكن الكثير من هؤلاء المفسرين نقلوا أيضا رأياً آخر يقول أن الآية تعني أن القمر سينشق في يوم القيامة.
بعض هؤلاء نقلوا هذا القول مع ترجيح سواه، وبعضهم نقله مع نقد شديد لمن نقله، وبعضهم – وهم الأقلية بلا شك- ذهب إلى أن الأرجح هو أن الآية تعني : سينشق القمر كعلامة من علامات يوم القيامة.
قال القرطبي في تفسيره
وَقَالَ قَوْمٌ: لَمْ يَقَعِ انْشِقَاقُ الْقَمَرِ بَعْدُ وَهُوَ مُنْتَظَرٌ، أَيِ اقْتَرَبَ قِيَامُ السَّاعَةِ وَانْشِقَاقُ الْقَمَرِ، وَأَنَّ السَّاعَةَ إِذَا قَامَتِ انْشَقَّتِ السَّمَاءُ بِمَا فِيهَا مِنَ الْقَمَرِ وَغَيْرِهِ. وَكَذَا قَالَ الْقُشَيْرِيُّ. وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَنَّ هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ: لِأَنَّهُ إِذَا انْشَقَّ مَا بَقِيَ أَحَدٌ إِلَّا رَآهُ، لِأَنَّهُ آيَةٌ وَالنَّاسُ فِي الْآيَاتِ سَوَاءٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ (البصري): اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ فَإِذَا جَاءَتِ انْشَقَّ الْقَمَرُ بَعْدَ النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ. وَقِيلَ: (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) أَيْ وَضَحَ الْأَمْرُ وَظَهَرَ، وَالْعَرَبُ تَضْرِبُ بِالْقَمَرِ مَثَلًا فِيمَا وَضَحَ، قَالَ:
أَقِيمُوا بَنِي أُمِّي صُدُورَ مَطِيِّكُمْ … فَإِنِّي إِلَى حَيٍّ سِوَاكُمْ لَأَمْيَلُ
فَقَدْ حُمَّتِ الْحَاجَاتُ وَاللَّيْلُ مُقْمِرٌ … وَشُدَّتْ لِطِيَّاتٍ مَطَايَا وَأَرْحُلُ
وَقِيلَ: انْشِقَاقُ الْقَمَرِ هُوَ انْشِقَاقُ «1» الظُّلْمَةِ عَنْهُ بِطُلُوعِهِ فِي أَثْنَائِهَا، كَمَا يُسَمَّى الصُّبْحُ فَلْقًا، لِانْفِلَاقِ الظُّلْمَةِ عَنْهُ. وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنِ انْفِلَاقِهِ بِانْشِقَاقِهِ كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ:
فَلَمَّا أَدْبَرُوا وَلَهُمْ دَوِيٌّ … دَعَانَا عِنْدَ شَقِّ الصُّبْحِ دَاعِ
قُلْتُ: وَقَدْ ثَبَتَ بِنَقْلِ الْآحَادِ الْعُدُولِ أَنَّ الْقَمَرَ انْشَقَّ بِمَكَّةَ، وَهُوَ ظَاهِرُ التَّنْزِيلِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَسْتَوِيَ النَّاسُ فِيهَا، لِأَنَّهَا كَانَتْ آيَةً لَيْلِيَّةً، وَأَنَّهَا كَانَتْ بِاسْتِدْعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ التَّحَدِّي.
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري : ذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ القدماء أن المُرَاد بقوله وَانْشَقَّ الْقَمَر أَيْ سَيَنْشَقُّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أتى أَمر الله أَيْ سَيَأْتِي، وَالنُّكْتَةُ فِي ذَلِكَ إِرَادَةُ الْمُبَالَغَةِ فِي تَحَقُّقِ وُقُوعِ ذَلِكَ فَنُزِّلَ مَنْزِلَةَ الْوَاقِعِ وَالَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَصَحُّ كَمَا جَزَمَ بِهِ بن مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةُ وَغَيْرُهُمَا
وقال إمام الحرمين أبو المعالي الجويني في البرهان في أصول الفقه
فأما انشقاق القمر فذهب بعض علماء الإسلام إلى أن معنى قوله تعالى: {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} 1 أنه سينشق عند قيام الساعة وشهد لذلك ذكره مقترنا باقتراب الساعة، والشيء إذا تناهى قربه يقام الماضي فيه مقام المستقبل قال الله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} 2 معناه سيأتي أمر الله وقد مال الحليمي3 إلى هذا المذهب ويمكن أن يقال انشقاق القمر آية ليلية لعله جرى والخلق نيام والمتيقظون في أكنان لا يترقبون القمر وإن لحظة لاحظ وفاقا فغير بدع أن [يحمله] على تشعب في أشعة البصر وانعراج عن الاستداد فهذا وجه التكلف فيه، فإن وقع الانشقاق فلا محل لعدم الشيوع فيه إلا ما ذكرناه، والتعويل على ما سبق من أن الأمر الضروري لا تخرمه التخييلات.
وجاء في شرح الشفا للقاضي عياض :قال الأنطاكي في قول القاضي اجمع المفسرون نظر فقد نقل السجاوندي والنسفي في تفسيرهما عن الحسن البصري أن معناه سينشق عند الساعة وكذا أبو الليث قال في تفسيره وأكثر المفسرين قالوا إن هذا قد مضى انتهى، ويمكن دفعه بأنه أراد بالمفسرين المشهورين منهم أو أنه لم يطلع على خلافهم
وجاء في مجمع بحار الأنوار القاضي: أجمع المفسرون وأهل السنة على وقوع الانشقاق، قلت: وفي الإجماع نظر وقد قيل بأنه سينشق عند مجيء الساعة.
وقال العز بن عبد السلام في تفسيره : (وانشق القمر) اتضح الأمر وظهر يضربون المثل بالقمر فيما وضح وظهر، أو انشقاقه انشقاق الظلمة عنه بطلوعه في أثنائها كما سمي الصبح فلقا لانفلاق الظلمة عنه، أو ينشق حقيقة بعد النفخة الثانية أو انشق على عهد رسول الله [صلى الله عليه وسلم] عند الجمهور، قال ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – رأيت القمر منشقا شقتين مرتين بمكة قبل مخرج الرسول [صلى الله عليه وسلم] إلى المدينة، شقة على أبي قبيس وشقة على السويداء فقالوا سحر القمر.
( وإن يروا آية يعرضوا )….آية انشقاق القمر أو أي آية رأوها أعرضوا عنها
( ملحوظة: قد يرى البعض من اعتبار انشقاق القمر آية في الآية الثانية حسب تفسير العز إشارة إلى أنه كان يؤيد حدوثها في عهد الرسول عليه الصلاة والتسليم، لكن الحقيقة أن الكفار يمكن أن يكذبوا أيضا بانشقاق القمر عندما يحدث ضمن علامات يوم القيامة).
وجاء في غرائب التفسير وعجائب التأويل للكرماني: وأجمع المفسرون وأصحاب الحديث في الصحيحين: أن القمر قد انشق على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – شقين حتى رآه الناس. قال أنس، فصار فلقتين حتى رأينا إحداهما.
الغريب بل العجيب: قول الحسن ( البصري): هذا مما يكون في القيامة، كقوله:
(إذا السماء انشقت) ، وقال: لو انشق لم يبق أحد إلا رآه، وقال علي بن عطاء: سينشق القمر.
ومن العجيب: قال ابن بحر: انشقاق القمر: عبارة عن وضوح أمر النبي – عليه السلام – وصحة الإسلام، قال: وهذا كقولهم للشيء المعروف ابن جلا وهو القمر.
وقال الرازي في تفسيره : وَفِي الصَّحِيحِ خَبَرٌ مَشْهُورٌ رَوَاهُ جَمْعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقَالُوا: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَةَ الِانْشِقَاقِ بِعَيْنِهَا مُعْجِزَةً، فَسَأَلَ رَبَّهُ فَشَقَّهُ وَمَضَى،…
وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْمُرَادُ سَيَنْشَقُّ، وَهُوَ بَعِيدٌ وَلَا مَعْنَى لَهُ، لِأَنَّ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ وَهُوَ الْفَلْسَفِيُّ يَمْنَعُهُ فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ، وَمَنْ يُجَوِّزُهُ لَا حَاجَةَ إِلَى التَّأْوِيلِ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ذَلِكَ الذَّاهِبُ، لِأَنَّ الِانْشِقَاقَ أَمْرٌ هَائِلٌ، فَلَوْ وَقَعَ لَعَمَّ وَجْهَ الْأَرْضِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَبْلُغَ حَدَّ التَّوَاتُرِ، نَقُولُ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا كَانَ يَتَحَدَّى بِالْقُرْآنِ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّا نَأْتِي بِأَفْصَحِ مَا يَكُونُ مِنَ الْكَلَامِ، وَعَجَزُوا عَنْهُ، فَكَانَ الْقُرْآنُ مُعْجِزَةً بَاقِيَةً إِلَى قِيَامِ الْقِيَامَةِ لَا يَتَمَسَّكُ بِمُعْجِزَةٍ أُخْرَى فَلَمْ يَنْقُلْهُ الْعُلَمَاءُ بِحَيْثُ يَبْلُغُ حَدَّ التَّوَاتُرِ
وقال البيضاوي في تفسيره : روي أن الكفار سألوا رسول الله _صلّى الله عليه وسلم_ آية فانشق القمر.
وقيل معناه سينشق يوم القيامة ويؤيد الأول أنه قرئ «وقد انشق القمر» أي اقتربت الساعة وقد حصل من آيات اقترابها انشقاق القمر
وقال أبو السعود في تفسيره :
وروى أنَّ الكُفَّارَ سألُوا رسولَ الله_صلى الله عليه وسلم_ آيةً فانشقَّ القمر، قالَ ابن عباس رضي الله عنهُمَا: انفلقَ فلقتينِ فلقةٌ ذهبتْ وفلقةٌ بقيتْ، وقالَ ابنُ مسعودٍ رأيتُ حِراءَ بين فلقتي القمرِ وعنْ عثمانَ بنِ عطاءٍ عنْ أبيهِ أنَّ معناهُ سينشقُّ يومَ القيامةِ ويردُّه قولُه تعالى..
وقال ابن عاشور في تفسير التحرير والتنوير :
عَنِ الْحَسَنِ (البصري) وَعَطَاءٍ أَنَّ انْشِقَاقَ الْقَمَرِ يَكُونُ عِنْدَ الْقِيَامَةِ وَاخْتَارَهُ الْقُشَيْرِيُّ، وَرُوِيَ عَنِ الْبَلْخِيِّ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ لِلْجُمْهُورِ.
وَخَبَرُ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ مَعْدُودٌ فِي مَبَاحِثِ الْمُعْجِزَاتِ مِنْ كتب «السِّيرَة» و «دَلَائِل النُّبُوَّة» .
وَلَيْسَ لَفْظُ هَذِهِ الْآيَةِ صَرِيحًا فِي وُقُوعِهِ وَلَكِنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِيهِ كَمَا فِي «الشِّفَاءِ» .
فَإِنْ كَانَ نُزُولُ هَذِهِ الْآيَةِ وَاقِعًا بَعْدَ حُصُولِ الِانْشِقَاقِ كَمَا اقْتَضَاهُ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» فَتَصْدِيرُ السُّورَةِ بِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ لِلِاهْتِمَامِ بِالْمَوْعِظَةِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ آنِفًا إِذْ قَدْ تَقَرَّرَ الْمَقْصُودُ مِنْ تَصْدِيقِ الْمُعْجِزَةِ.
فَجُعِلَتْ تِلْكَ الْمُعْجِزَةُ وَسِيلَةً لِلتَّذْكِيرِ بِاقْتِرِابِ السَّاعَةِ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِدْمَاجِ بِمُنَاسَبَةِ أَنَّ الْقَمَرَ كَائِنٌ مِنَ الْكَائِنَاتِ السَّمَاوِيَّةِ ذَاتِ النِّظَامِ الْمُسَايِرِ لِنِظَامِ الْجَوِّ الْأَرْضِيِّ فَلَمَّا حَدَثَ تَغَيُّرٌ فِي نِظَامِهِ لَمْ يَكُنْ مَأْلُوفًا،؛نَاسَبَ تَنْبِيهَ النَّاسِ لِلِاعْتِبَارِ بِإِمْكَانِ
اضمحلال هَذَا الْعَالَمِ، وَكَانَ فِعْلُ الْمَاضِي مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ. وَرُوِيَ أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ قَرَأَ وَقَدِ انْشَقَّ الْقَمَرُ.
وَإِنْ كَانَ نُزُولُهَا قَبْلَ حُصُولِ الِانْشِقَاقِ كَمَا اقْتَضَاهُ حَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَهُوَ إِنْذَارٌ بِاقْتِرَابِ السَّاعَةِ وَانْشِقَاقِ الْقَمَرِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَمَعَ الْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الِانْشِقَاقَ سَيَكُونُ مُعْجِزَةً لِمَا يَسْأَلُهُ الْمُشْرِكُونَ. وَيُرَجِّحُ هَذَا الْمَحْمَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى عَقِبَهُ: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ [الْقَمَر: 2] كَمَا سَيَأْتِي هُنَالِكَ.
وَإِذْ قَدْ حَمَلَ مُعْظَمُ السَّلَفِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَمَنْ خَلْفَهُمْ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى أَنَّ انْشِقَاقَ الْقَمَرِ حَصَلَ قَبْلَ نُزُولِهَا أَوْ بِقُرْبِ نُزُولِهَ فيمكننا تبيان إمكانية حُصُولِ هَذَا الِانْشِقَاقِ مُسَايِرِينَ لِلِاحْتِمَالَاتِ النَّاشِئَةِ عَنْ رِوَايَاتِ الْخَبَرِ عَنِ الِانْشِقَاقِ إِبْطَالًا لِجَحْدِ الْمُلْحِدِينَ، وَتَقْرِيبًا لِفَهْمِ الْمُصَدِّقِينَ.
فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَدَثَ خَسْفٌ عَظِيمٌ فِي كُرَةِ الْقَمَرِ أَحْدَثَ فِي وَجْهِهِ هُوَّةً لَاحَتْ لِلنَّاظِرِينَ فِي صُورَةِ شَقِّهِ إِلَى نِصْفَيْنِ بَيْنَهُمَا سَوَادٌ حَتَّى يُخَيَّلَ أَنَّهُ مُنْشَقٌّ إِلَى قَمَرَيْنِ، فَالتَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالِانْشِقَاقِ مُطَابِقٌ لِلْوَاقِعِ لَأَنَّ الْهُوَّةَ انْشِقَاق، وَمُوَافِقٌ لِمَرْأَى النَّاسِ لِأَنَّهُمْ رَأَوْهُ كَأَنَّهُ مَشْقُوقٌ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَصَلَ فِي الْأُفُقِ بَيْنَ سَمْتِ الْقَمَرِ وَسَمْتِ الشَّمْسِ مُرُورُ جِسْمٍ سَمَاوِيٍّ مِنْ نَحْوِ بَعْضِ الْمِذْنَبَاتِ حَجَبَ ضَوْءَ الشَّمْسِ عَنْ وَجْهِ الْقَمَرِ بِمِقْدَارِ ظِلِّ ذَلِكَ الْجِسْمِ عَلَى نَحْوِ مَا يُسَمَّى بِالْخُسُوفِ الْجُزْئِيِّ، وَلَيْسَ فِي لَفْظِ أَحَادِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَالتِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ مَا يُنَاكِدُ هَذَا.
وَمِنَ الْمُمْكِنِ أَن يكون هَذَا الِانْشِقَاقُ حَدَثًا مُرَكَّبًا مِنْ خُسُوفٍ نِصْفِيٍّ فِي الْقَمَرِ عَلَى عَادَةِ الْخُسُوفِ فَحَجَبَ نِصْفَ الْقَمَرِ، وَالْقَمَرُ عَلَى سَمْتِ أَحَدِ الْجَبَلَيْنِ وَقد حَصَلَ فِي الْجَوِّ سَاعَتَئِذٍ سَحَابٌ مَائِيٌّ انْعَكَسَ فِي بَرِيقِ مَائِهِ صُورَةُ الْقَمَرِ مخسوفا، بِحَيْثُ يخاله النَّاظِرُ نِصْفًا آخَرَ مِنَ الْقَمَرِ دُونَ كُسُوفٍ طَالِعًا عَلَى جِهَةِ ذَلِكَ الْجَبَلِ، وَهَذَا مِنْ غَرَائِبِ حَوَادِثِ الْجَوِّ. وَقَدْ عُرِفَتْ حَوَادِثُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ بِالنِّسْبَةِ لِأَشِعَّةِ الشَّمْسِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَحْدُثَ مِثْلُهَا بِالنِّسْبَةِ لِضَوْءِ الْقَمَرِ عَلَى أَنَّهُ نَادِرٌ جِدًّا.
من أقوال المعاصرين
أما المعاصرون فقد كان الموقف أوضح عند بعضهم، وإن عمد الكثيرون منهم إلى التوقف في الأمر بعد ذكر التفسيرين..
ذكر أحمد مصطفى المراغي في تفسيره.. إن آية الانشقاق خبر عن حدث مستقبل لا عن انشقاق ماضٍ فقال: (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) أي وسينشق وينفصل بعضه من بعض حين يختلّ هذا العالم وتبدّل الأرض غير الأرض، ونحو هذا قوله: (إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ) وقوله: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ) وكثير غيرها من الآيات الدالّة على الأحداث الكبرى التي تكون حين خراب هذا العالم وقرب قيام الساعة .
ويرى جمع من المفسّرين أنّ هذا حدَثٌ قد حصل، وأنّ القمر صار فرقتين على عهد رسول الله ( ….) والذي يدلّ على أنّ هذا إخبار عن حدث مستقبل لا عن انشقاق ماضٍ أُمور:
1- إنّ الإخبار بالانشقاق أتى إثر الكلام على قرب مجيء الساعة، والظاهر تجانس الخبرين، وأنّهما خبران عن مستقبل لا عن ماضٍ.
2-إنّ انشقاق القمر من الأحداث الكونية الهامة التي لو حصلت لرآها من الناس من لا يحصى كثرة من العرب وغيرهم، ولبلغ حداً لا يمكن أحداً أن ينكره، وصار من المحسوسات التي لا تدفع، ولصار من المعجزات التي لا يسع مسلماً ولا غيره إنكارها.
3-ما ادعى أحد من المسلمين إلّا من شذّ أن هذه معجزة بلغت حد التواتر، ولو كان قد حصل ذلك ما كان رواته آحادا، بل كانوا لا يعدون كثرة.
4-إنّ حذيفة بن اليمان وهو ذلكم الصحابي الجليل خطب الناس يوم الجمعة في المدائن حين فتح فارس فقال: ألا إنّ الله تبارك وتعالى يقول: (اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ)، ألا وإنّ الساعة قد اقتربت، ألا وإنّ القمر قد انشق، ألا و إنّ الدنيا قد آذنت بفراق، ألا وإنّ اليوم المضمار وغداً السباق، ألا وإن الغاية النار، والسابق من سبق إلى الجنة.
فهذا الكلام من حذيفة في معرض قُرب مجيء الساعة وتوقّع أحداثها، لا في كلام عن أحداث قد حصلت تأييداً للرسول وإثباتاً لنبوته، لأنّ ذلك كان في معرض العظة والاعتبار .
كذلك هو قول الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر في أواخر الخمسينات وهو أول من أطلق عليه لقب الإمام الأكبر وقول الشيخ عبد الجليل عيسى عميد كلية أصول الدين في كتابه ” تيسير التفسير”، وقول رشيد رضا صاحب المنار ، وقول الشيخ الغزالي.
اعتراض وجيه ..
لكن إذا كانت هذه الآية الكريمة تشير إلى المستقبل، كما يقول التفسير البديل، فإلام تشير الآية التالية لها ” وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ القمر (2) ألا تؤكد هذه الآية وقوع معجزة كذب بها الكفار وقالوا عنها أنها مجرد سحر؟!
ليس بالضرورة، فالسورة بأكملها تتحدث عن تكذيب أقوام الرسل للآيات التي جاءتهم، أي أنها تتحدث عن ” نمط متكرر” من تعامل الكافرين مع الآيات المادية، وهو نمط يقول لنا أنه لا معنى من استمرار نزول المعجزات المادية، ما دام الكافرون يجدون دوما وسيلة للتهرب من الإيمان.
والتفسير البديل لا ينفي ” الانشقاق” بل يقول أنه سيحدث لاحقا، ضمن علامات يوم القيامة، ويومها ” سيعرض الكافرون أيضا ويقولون هذا سحر مستمر” هذا هو نمط تعاملهم مع الآيات في العموم. أمس واليوم وغدا.
كما أن الآيات لا يشترط أن يعنى بها دوما المعجزات المادية، بل في كل علامات الله في خلقه وفي الطبيعة من حولنا وفي أنفسنا.
سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ الأعراف(146)
ماذا عن الحديث الصحيح ؟هل تضربون به عرض الحائط؟
روى هذا الحديث عبد الله بن مسعود، وعبد الله ابن عباس وعبد الله ابن عمر ومالك بن أنس وجبير بن مطعم وحذيفة بن اليمان رضوان الله عليهم أجمعين.
لكن عبد الله بن عمر وابن عباس لم يكونا قد ولدا وقت نزول سورة القمر( وربما كان ابن عمر قد ولد قبلها بسنتين)، وكذلك كان مالك بن أنس صغيرا وفي المدينة.
جبير بن مطعم سند روايته فيه ضعف، وقد كان مشركا ولم يسلم إلا بعد ذلك بفترة طويلة ،ولم يرد عنه أي شيء في تفسير عدم إسلامه عندما شاهد الواقعة.
وحذيفة بن اليمان لم يقل أنه قد شاهد انشقاق القمر، بل ذكر الآية كاملة في خطبة تشير إلى اقتراب الحساب وضرورة الاستعداد له.
هذا كله يجعل من ” عبد الله بن مسعود” الشاهد الوحيد الذي ذكر شهادته للواقعة، بينما ( ابن عباس وابن عمر وأنس بن مالك) نقلوا عنه أو عن شخص آخر روى الواقعة ( لا نعرف من هو إن لم يكن ابن مسعود).
هذا لا يقلل من صحة الحديث بكل الأحوال، لكنه يجعل شهود الواقعة أقل حتما، ويكاد ينقل الأمر من ” خبر الآحاد” إلى ” خبر الواحد”، وهو أمر قد يملك إشكالية مع فكرة ” المعجزة” ( وجود عدد كبير من الشهود لتحديهم، خاصة أنها أكبر حجما من أي معجزة أخرى) ومع “الطبيعة البشرية” التي جبلت على نقل ما هو غريب وخارج عن المألوف.
ومرة أخرى هذا لا يعني ” تضعيف حديث صحيح متفق عليه” ، بل إعادة فهم متنه على نحو لا يمس بمنظومة الحديث الشريف من ناحية السند، ولا بعدالة الصحابي بأي شكل من الأشكال.
لعلي هنا أنقل جانبا مما كتبه الشيخ رشيد رضا عن هذا الحديث تحديدا..
(..وإذ قد اقتضت الحال الآن تحرير المسألة رواية ودراية فإننا نبدأ بالرواية فنقول:
(أ) الروايات في انشقاق القمر وعللها:
زعم بعض العلماء المتقدمين أن الروايات في انشقاق القمر بلغت درجة التواتر! وهو زعم باطل كقول ابن عبد البر الآتي أنه نقله جماعة كثيرة من الصحابة والتابعين، وإن تلقاه الكثيرون بالقبول حرصًا على إثبات مضمونه كعادتهم في الفضائل والمناقب ودلائل النبوة، فأما الشيخان فالذي صح عندهما مسندًا على شرطهما إنما هو عن واحد من الصحابة رضي الله عنهم يخبر عن رؤية وهو عبد
الله بن مسعود رضي الله عنه، وقد أخرجاه عنه كأحمد وغيره من طريق سفيان بن عيينة عن أبي نجيح عن مجاهد عن أبي معمر ومن طريق الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمر، وصح عندهما مرسلاً من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه من طريق قتادة فقط، ومن حديث ابن عباس رضي الله عنه من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أحد الفقهاء السبعة، وإنما كان هذان الحديثان مرسلين لأن الحادثة وقعت بمكة قبل الهجرة بخمس سنين، ولم يكن ولد عبد الله بن عباس،
وأما أنس فكان في المدينة ابن خمس سنين، والخلاف في الاحتجاج بالمرسل معروف، ومن يحتج بمراسيل الصحابة مطلقًا يبني احتجاجه على أنهم يروون عن مثلهم؛ ولكن ثبت أن بعضهم كان يروي عن بعض التابعين حتى كعب الأحبار، وعلى كل حال لا يصح في مراسليهم ما اشترط في التواتر من الرواية المتصلة إلى من شاهد المروي، ورواية الشيخين المتصلة من طريقين فقط..
ورواه مسلم من طريق شعبة عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عمر وهي أحد الطريقين عن ابن مسعود، وليس فيها أنه حَدَّثَ عن رؤية وقد تردد الحافظ في هذه الرواية: هل هي إسناد آخر عند مجاهد (أو قول من قال ابن عمر وهمٌ من أبي معمر؟) وقد روى الحافظ أن ابن عمر هاجر وهو ابن عشر سنين، وفي رواية أخرى أنه كان سنة الهجرة ابن ست.
ورواه الإمام أحمد وتبعه ابن جرير والبيهقي عن جبير بن مطعم رضي الله عنه من طريق سليمان بن كثير عن حصين بن عبد الرحمن عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه..
فأما جبير فقد أسلم بعد عام الحديبية وقبل فتح مكة، وقيل في الفتح، وقد كان مع المشركين في غزوة بدر وأسره المسلمون، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة الطور، قال: فكان ذلك أول ما دخل الإيمان في قلبي، وليس في حديثه أنه رأى، ولكن ظاهره أنه كان مسلمًا، ولم يكن مسلمًا، ولو رأى ذلك في حال شركه لعده بعد إسلامه مما أثّر في نفسه..
وأما السند إليه فضعيف: فسليمان بن كثير ضعَّفه ابن معين كما ضعَّف ولده محمدًا الذي روى هذا الحديث عنه، وقال ابن حبَّان: كان يخطئ كثيرًا، وأما حصين بن عبد الرحمن فقد كان ثقة إلا أنه تغير في آخر عمره هذا أقوى ما ورد من الأحاديث في هذه المسألة، وعليها اقتصر الحافظ ابن
كثير في تفسيره، ورواه الترمذي في جامعه وغيره، ولها ألفاظ أخرى في التفسير المأثور وكتب الدلائل غربلها الشيخان، واختارا ما أشرنا إليه وسنذكره بنصه،
وذكر السيوطي في الدر المنثور سائر مخرِّجيها وألفاظهم وزيادتهم على الصحيحين فيها، وزاد ما أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، وابن جرير وابن مردويه وأبو نعيم عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: خطبنا حذيفة بن اليمان بالمدائن فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ القَمَرُ} (القمر: 1) ألا وإن الساعة قد اقتربت، ألا وإن القمر قد انشق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق، ألا وإن اليوم المضمار وغدًا السباق. اهـ، وابن جرير لم يذكر أن ذلك كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والراوي عن أبي عبد الرحمن: عطاء بن السائب وعنه شعبة وابن علية، واتفقوا على أن عطاء بن السائب قد اختلط في آخر عمره وتغير فلا تقبل رواية أحد عنه في آخرته؛ ولكن شعبة من قدماء الرواة عنه، وقد روى ابن المنذر أنه – أي حذيفة – قرأ (وقد انشق القمر) والرواية تدل على أن هذا خطأ؛ فإنه قرأ الآية في خطبته كما رواها القراء بالتواتر، ثم قال: ألا وإن الساعة قد اقتربت، ألا وإن القمر قد انشق، وهذا من كلامه على أنه تفسير، على أن أمثال هذه الروايات الآحادية الغريبة لا يثبت بها القرآن، بل لا بد من تواتره. )[1] اهـ
ولعلي هنا أذكر بوجود سند آخر، أقل صحة بالتأكيد من السند الصحيح المتفق على صحته، لكنه سند ” حسن” أورده الطبراني في معجمه الكبير (11642 ) وعبد الرزاق في مصنفه ( 4941 ) : عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: ” كُسِفَ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: سُحِرَ الْقَمَرُ فَنَزَلَتْ {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ} [القمر: 1] الْقَمَرُ إِلَى قَوْلِهِ {مُسْتَمِرٌّ} [القمر: 2] “.
هذه الرواية تشير إلى تزامن ” الكسوف” مع نزول الآية الكريمة ..والكسوف آية كونية لا شك فيها، وهي تدل أيضا على عظمة خلقه عز وجل، فهل حدث ” خلط” بين الأمرين؟ هذا تساؤل لا يقدح في صحة حديث متفق عليه، بل يسلط الضوء على فهم آخر لمتنه، فِهمٌ قد يساهم في تخفيف أو إزالة التعارضات التي تشكلت عند البعض بين عموم نصوص القرآن وبين فهم سائد لواحدة من آيات القرآن الكريم..
ولعل الشيخ الغزالي يلخص ذلك كله بما كتبه عن الأمر في كتابه ” الطريق من هنا”.
” …واعلم أن من مفكري المسلمين ومفسري دينهم من اعتبر الانشقاق من أشراط الساعة، وأن من المتكلمين من توقف في أخبار الآحاد، كما قال إبراهيم النظام: «إن القمر لا ينشق لابن مسعود وحده»، وابن مسعود هو الذي روي عنه الحديث المذكور.
ربما قال لي قائل: كيف تتهاون في حديث صحيح على هذا النحو؟!
وأجيب: إن رد حديث بالهوى المجرد مسلك لا يليق بعالم، وقد رد أئمتنا الأولون أحاديث صحاحًا لأنها خالفت ما هو أقوى منها عقلا ونقلا، وبذلك فقدت مقومات صحتها، ومضى الإسلام بمعالمه ودعائمه لا يقفه شيء!
وقد قلت: إنني لا أربط مستقبل ديننا بحديث آحاد يفيد العلم المظنون، وأزيد الموضوع بيانا فأقول:
إنني أومن بخوارق العادات، وأصدق وقوعها من المسلم والكافر والبر والفاجر، وأعلم أن قانون السببية قد يحكمنا نحن البشر، بيد أنه لا يحكم واضعه تبارك وتعالى!
وعندما قرأت حديث الانشقاق شرعت أفكر بعمق في موقف المشركين، أنهم انصرفوا مكذبين إلى بيوتهم ورحالهم بعدما رأوا القمر فلقتين عن يمين الجبل وشماله وقالوا: سحرنا محمد، ومضوا آمنين سالمين لا عقاب ولا عتاب، قلت: كيف هذا؟!
في سورة الأنبياء يحكي الله سبحانه سر كفر المشركين بنبيهم محددين مطلبهم منه:
« بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ »
ويحكي القرآن لماذا لم يجابوا إلى طلبهم، يقول الله تعالى في سورة الأنبياء:
مَا آمَنَتْ قَبْلَهُم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا، أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ»؟!»
إن التكذيب بعد وقوع الخارق المطلوب يوجب هلاك المكذبين، فكيف يترك هؤلاء المكّيون بدون توبيخ ولا عقوبة، بعد احتقارهم لانشقاق القمر؟! ويؤكد القرآن الكريم هذا المنطق في سورة الإسراء:
(وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ، وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا، وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا)
فإذا كان إرسال الآيات ممتنعا لتكذيب الأولين بها، فكيف وقع الانشقاق؟! بل كيف يقع أو يقع غيره، والله يقول في سورة الحجر:
« وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ. لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ »
ثم إن المشركين في مواطن أخرى ألحوا في طلب الخوارق الحسية كقوله في سورة الأنعام:
«وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا، قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ، وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ « لَا يُؤْمِنُونَ
فلماذا لم يقل لهم: سبق أن انشق لكم القمر فكذبتم؟! أيمر هذا الحدث ليعقبه صمت تام؟!
وفي سورة أخرى قيل للكافرين وهم ينشدون المعجزات الحسية: حسبكم القرآن، فيه مقنع لمن نشد الحق، كقوله في سورة العنكبوت:
(وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ، قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ. أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)
إن مئات الآيات، في سور كثيرة طوال العهد المكي، دارت في إثبات الرسالة على محور إيقاظ العقل وتعريفه بربه، واعتبار صاحب هذا الوحي إمام السائرين إلى الله المعتصمين بحبله، وتجاوزت مقترحات الكفار أن يروا آية مادية معجزة.
من أجل ذلك لم أقف طويلا عند حديث الانشقاق وأبيت بقوة أن أربط مستقبل الدعوة به أو بغيره من أحاديث الآحاد التي تصطدم بأدلة أقوى منها، ولست بدعا في هذا المسلك فأبو حنيفة ومالك ردوا أحاديث من هذا الطراز عارضها من دلالات القرآن ما هو أقوى منها.
إننا لا ننكر الخوارق من حيث هي، وإنما نناقش الأسانيد التي جاءت بها، ونوازن بين دليل ودليل، وإيماننا بالخوارق هو الذي جعلنا نحن المسلمين نصدق بميلاد عيسى من غير أب، فالقرآن قاطع في هذه القضية، وإذا ثبت قول الله فلا كلام لأحد» اهـ من كلام الغزالي.
لماذا هذا الموضوع تحديدا؟
يمكن لقائل أن يعترض متسائلا على جدوى ومآلات فتح هذا الموضوع للنقاش، سيقول أن الناس تؤمن بهذه الواقعة في العموم وفتح النقاش في الأمر قد يقود إلى التشكيك بما يعده كثيرون من المسلمات التي بني عليها دينهم وإيمانهم. لم الإصرار على فتح هذا الأمر؟
أولا: ثمة خطر كبير في أن يبنى ” الإيمان” على واقعة بعينها خاصة أنها تمتلك كل ما سبق من ” اعتراضات” على ثبوت حدوثها. هذا بحد ذاته يجب أن يستدعي إعادة النظر في مسلمات الإيمان وقواعده. وقد سبق لي أن اصطدمت بنفس الموقف مع من آمن بمعجزات ” مولد النبي عليه الصلاة والسلام” على نحو جعل إيمانه مبنيا عليها، رغم أنه لا مجال للمقارنة بين قوة سند ” انشقاق القمر” وضعف –وأحيانا وضع- روايات خوارق المولد، إلا أن الفكرة واحدة: أن يرتكز الإيمان على حدث ” خارق”، بحيث أن التشكيك بصحة فهم هذا الحدث قد يطيح بكل الإيمان، بينما بني إيمان المسلمين الأوائل على تعقل الظواهر الطبيعية الموجودة حولنا وربطها معا في عقيدة مؤمنة توحد الخالق القدير دون استثناء وجود خوارق للطبيعة، لكن هذا الاستثناء ليس هو ما يبنى الإيمان عليه.
ثانيا: ثمة حاجة متزايدة من استعادة مساحة العقلانية التي أفردها القرآن الكريم في الإيمان، أقول مساحة، مساحة لا تطغى على كل شيء ولكن أيضا لا تُمحى ولا تُهمش كما هي للأسف في الخطاب السائد حاليا. ثمة تخوف كبير في الوقت الحالي من مجرد لفظة ” العقل”، بل إنّ كلمة ” عقلاني” تعتبر تهمة عند البعض، وعند أي نقاش يتطرق لأمور ” تتعارض مع العقل” يتم على الفور استحضار صراع المعتزلة وأهل الحديث ويتم إطلاق تهمة ” تقديم العقل على النقل” كما لو أنه يمكن فهم أي نقل أصلا – دون عقل، وكما لو أن العلاقة هي بالضرورة ” تقديم وتأخير” بين الاثنين، ولا يمكن أن تكون استخداما للعقل من أجل فهم النقل بأبعاده المتجددة، وهو الاستخدام الذي عرفه الجيل الأول في تعاملهم مع القرآن دون حاجة لنظرية مصاحبة تشرح ذلك وتؤصل له، وهو التعامل الذي صاغه القرآن بالأساس في مطالبته المستمرة ” أفلا تعقلون ..لعلكم تعقلون…أفلم تكونوا تعقلون ” – 24 مرة- ” لقوم يعقلون” – 8 مرات .
ثالثا – من ضمن سوء سمعة ” العقل” في التيار السائد حاليا اعتبار كلمة ” العقل” مرادفة مهذبة للهوى. أحيانا يقال الأمر بهذه الصراحة. العقل هو الهوى. وهذا ناتج بدرجة ما، عن الخلط بين مفردة ” عقل” وبين ” طريقة تفكير أي شخص”، وهكذا يقول البعض ببساطة في معرض نقد العقل: أن ما يقوله عقلي مختلف عما يقوله عقلك، للدلالة على كون الأمر ” غائم” و” مائع” ويمكن أن يفتح الباب لكل الأهواء. لكن الحقيقة أن العقلانية لها قواعدها العامة الثابتة التي لا علاقة لها بنمط التفكير الشخصي، بل هي قواعد عقلية منطقية عامة من الصعب أن تسخر لخدمة أهواء عابرة.
رابعا – ثمة نزعة سائدة من التعامل الصفري- الكل أو لا شيء- في تعاملنا مع الحديث الصحيح، عليك أن تقبل متنه بظاهره ما دام سنده صحيحا وهذا من دلائل تسليمك وإيمانك حتى لو لم يكن محتوى هذا الحديث متوافقا مع ” العقل”، إن بدر منك غير ذلك فهذا دليل على وجود مشكلة في إيمانك، للأسف هذه النزعة السائدة المدعومة من قبل البعض ليست صحيحة بهذا الإطلاق، وكثير من العلماء لم يأخذوا بمتن أحاديث صحيحة لتعارضها مع ما هو أقوى منها ، ولا يعني هذا أنهم ” كذبوا” راوي الحديث أو “ضعفوا” سند الحديث. هذان أمران مختلفان تماما، وللأسف لا ينتبه بعض العقلاء لهذا فيخلطون بين ” رفض فهم سائد لحديث صحيح، وتأويله على نحو آخر” وبين ” تكذيب حديث صحيح ” وهو أمر لا أشك أن مآلاته كارثية وتزيد بكارثيتها على مشاكل التعامل السائد مع الحديث.
خامسا – آلية التعامل السائدة في حسم الأمر ( ما اتفق عليه جمهور المفسرين ووجود حديث صحيح) يتم التغافل عنها عندما يكون الأمر متعلقا بمعطيات علمية لا مجال لإنكارها، هذه الانتقائية في استخدام الأمر لا تنذر بطول سلامة، وربما تكون مقدمة لانهيار كبير لاحق في منظومة الفهم والتعامل مع النصوص، وهو أمر لا يرغب أحد حقا بالوصول إليه.
****
وبعد، فهذا المقال لن ينهي الموضوع بالـتأكيد، ليس من ضربة قاضية ساحقة ماحقة في هذا النقاش المستمر منذ قرون دون حسم نهائي..
كل ما في الأمر أن أولئك الذين يجدون إيمانهم أقوى في ” مساحة العقلانية” تلك، يحتاجون إلى أن يدافعوا عن حقهم في ذلك، في أن يلجأوا لتلك المساحة دون أن يتهموا في إيمانهم..
ودون أن يعني ذلك قدحا في سواهم…
ملحوظة: كل ما يتداول عن وجود مؤشرات علمية من ناسا أو غيرها تؤكد حدوث الانشقاق أمر لا صحة له وهو متداول بقوة ” كسل التدقيق” في أحسن الأحوال، كذلك الأمر بخصوص الملك الهندي الذي أسلم لأنه شاهد انشقاق القمر، إلخ.
للمزيد يمكن الإطلاع على مقال الأستاذ محمد رضا عن الشواهد التاريخية المزعومة
وفي تتمة ما كتب الشيخ رشيد رضا عن الأمر حديث مستفيض عما يقول أنه ” تناقضات” في متون الحديث، فمن شاء أن يراجعه.
https://al-maktaba.org/book/6947/3989