د.أحمد خيري العمري
يوليو 2010
لن نذيع سراً إذا ما قلنا إن وجود مشكلة في التعامل مع الحديث النبوي الشريف ليس أمراً طارئاً يعود إلى ظهور هذه الفئة التي تسمي نفسها بما نتشرف به جميعاً دون أن تملك به أدنى صلة، بل يعود حتماً إلى عصور مبكرة أسهمت في تقديم حلول مختلفة ومتنوعة للتعامل مع السنة النبوية..
الجذر الأصلي لمشكلة التعامل مع الحديث النبوي يعود ببساطة إلى ضرورة التثبت منه.. لقد تنبه الفقهاء العاملون، ومنذ مرحلة مبكرة جداً، قد تعود لعصر الخليفة الفاروق على الأقل، إلى اختلاف طبيعة المصدر الأول (القرآن الكريم المحفوظ عبر تواتر عام وشامل لا مجال فيه لثغرة واحدة) وبين المصدر الثاني الذي قد يشمل جملة قالها عليه الصلاة والسلام في حضور عدد قليل من صحابته، وقد يكون فهمهم لما قال متفاوتاً وبالتالي نقلهم لما قاله عليه الصلاة والسلام متأثرا بهذا الفهم..
و هكذا نشأت آليات مختلفة للتعامل مع الحديث النبوي، تهدف هذه الآليات في عمومها إلى التثبت من صلة الحديث بالرسول الكريم عليه الصلاة والسلام أساساً، ومن ثم يتم تثبيت الفهم الصحيح للحديث..
وعندما نقول “التثبت” فإن هذا يعني ضمناً أن الأصل والأساس في التعامل المباشر مع أي حديث هو الحكم بالضعف إلى حين إثبات العكس وذلك ابتداء من عصر ما بعد الصحابة..
هذا الميل المسبق إلى رفض كل ما لم يتم إثباته عنه عليه أفضل الصلاة والسلام عبّر عن حالة من الدقة العلمية (لا أرى تناقضاً كذلك إن سميتها بالورع ) وهي جزء صغير من حالة أكبر من الدقة أو الورع التي غمرت المجتمع الإسلامي ككل نتيجة تشبعه بالمفاهيم التي غرسها الإسلام عموماً والقرآن خصوصا.. كل ما في الأمر أن هذه الحالة أنتجت آثاراً صار يمكن تتبعها إلى يومنا هذا، لكن نفس الحالة كانت ولابد موجودة في تفاصيل الحياة اليومية، في البيع والشراء والمعاملات بين الناس ..
مما يلاحظ على الورع والدقة العلمية في موضوع التثبت من أحاديثه عليه الصلاة والسلام (والتي لا بد أن تكون قد طغت على الأمثلة الأخرى) أنها كانت حالة ورع إيجابية، إي إن موقف الرفض تجاه ما لم يثبت كان يؤدي إلى البحث والتثبت رفضا أو قبولاً، وكان أهل الحديث يرحلون بين الأمصار والبلدان لأشهر طويلة لأجل التحقق من أمر حديث واحد، وهذا هو الورع الايجابي ما دام يؤدي إلى العمل، إلى الدقة.. بينما نجد أحدهم اليوم يهز كتفه غير مبالٍ وهو يقول: لو كان هذا مهما لجاء في القرآن، الأحاديث مليئة بالكذب!
تميَّز هذا الورع العلمي في هذه الجزئية بأمرين في غاية الأهمية..
أولهما: أنه كان عملاً جماعياً صرفاً، تجلت فيه معاني الجماعة بأفضل ما يمكن، لا يمكن تخيل عمل الرواة وهم يتناقلون الأحاديث من واحد لآخر وعمل علماء الجرح والتعديل وهم يقيمون كل واحد من هؤلاء الرواة، لا يمكن تخيل هذا المشهد إلا كما لو كان ورشة عمل جماعي منظم بأدق القواعد والقوانين.. وهو أمر نفتقده بشدة اليوم ( ولا أستطيع أن أجزم إن كان اختفاؤه نتيجة لانسحابنا الحضاري أم إن انسحابنا الحضاري كان نتيجة له!).
الأمر الثاني: هو أن هذه الدقة كانت دقة آليات ووسائل ولم تتعدَّ حدودها المرسومة إلى “متن الحديث”.. وهذا الأمر قد يبدو للوهلة الأولى غريباً لكنه وفّر للجميع الحياد المهني اللازم الذي جعل الرواة ينقلون عن رجال ينتمون إلى الفرق الأخرى –مادامت تتوفر فيهم حدوداً معينة حددها أهل الجرح والتعديل- كما نقلوا أحيانا أحاديث يمكن أن تؤول لصالح تلك الفرق لكنهم وجدوا أن شروط نقلها حسب قواعد عملهم صحيحة.. هذه المهنية في التعامل ظاهرة لها معانٍ حضارية كثيرة، والسؤال السابق أيضا يمكن طرحه هنا مجدداً..
كل هذه الآليات التي تمثّلت بعلم ضخم له أقسامه العديدة هو علم الحديث لم تنشأ في حقيقة الأمر إلا استجابة للمشاكل الناتجة عن التعامل مع الحديث الشريف، أي من أجل التثبت منه قبولاً أو رفضاً… وهكذا فإن انتهاء الأمر بوجود عدد من الأحاديث الصحيحة الذي لا يتجاوز العشرة آلاف (بعد حذف المكرر منها) هو أمر طبيعي جداً ومتوقع ومحاولة (استكثاره) والتهويل من الأمر محاولة سخيفة جداً ولا يمكن اعتبارها بريئة على الإطلاق، فلو أنه عليه الصلاة والسلام نطق بجملتين فقط يوميا بعد الهجرة إلى المدينة وبقي ساكتاً طوال اليوم بعدها لتجمع لدينا عدد مماثل من الأحاديث، علما أن بعض هذه الأحاديث لم تكن “أحاديث” بالمعنى المباشر بل كانت وصفا لما قام به عليه أفضل الصلاة والسلام دون أن ينطق.. وهذا كله على فرض أننا حذفنا الثلاث عشر سنة الأولى من الدعوة.
هل يعني كل هذا أن علم الحديث ونتاجه لم تتخلله أخطاء؟ قطعا لا، فهو جهد بشري في النهاية، وما دمنا نفخر بأننا لا نؤمن بعصمة أحد بعد الأنبياء، فإننا يجب أن نعتبر وجود أخطاء في هذا الجهد أمر محسوم نتيجة للطبيعة البشرية، ولا يجب أن نسمح باعتبار هذه الأخطاء الطبيعية مطعناً على من بذل تلك الجهود (كما يجب ألا ننجرّ كرد فعل إلى إنكار هذه الأخطاء وإنكار حتمية وقوعها)..
الأخطاء البشرية متى تكون مقبولة ومتى ترفض؟
ما يجب أن يكون واضحاً بخصوص هذه الأخطاء (أي أخطاء وليس فيما يخص علم الحديث) أي بشريتها وكونها حتمية ولا يمكن أن تكون مطعناً، هو أمران اثنان:
الأول: أنها أخطاء ليست في صميم المنهج المتبع بل في تطبيقه فحسب، أي إن الخطأ ليس في القانون الأصلي أو القاعدة المتبعة بل في تطبيق هذه القاعدة…. بعبارة أخرى أن تكون قواعد صحة الحديث من حيث اتصال السند وعدالة الرواة صحيحة ومتماسكة ضمن منهجها نفسه، أما أن “تفلت” بعض طرق الأحاديث أو بعض الرواة من هذا المنهج، فهذا خطأ في التطبيق فحسب..
الثاني: ألاّ تكون نسبة هذه الأخطاء كبيرة بحيث تؤثر على النتيجة العامة لهذا الجهد، أي ألاّ تمرر كمية من الأحاديث الضعيفة بحيث تشوش على الصحيح وتناقضه..
وهذا هو بالضبط ما حدث مع الأحاديث: منهج علم الحديث بحد ذاته متماسك ويمتلك من الحيادية والموضوعية ما جعل أهل الجرح والتعديل لا يمنعون قبول رواية بعض من انتمى إلى “فرق أخرى” مخالفة في العقيدة (مثل الشيعة و الخوارج).. أو قبول بعض الأحاديث التي يمكن أن تؤول لصالح هذه الفرقة أو تلك..
أما أن تكون هناك نسبة من الخطأ، فهذا أمر حتمي ومفروغ منه، وهي نسبة مقبولة بل هي أفضل من نسبة الخطأ المقبولة في أدق التجارب العلمية المخبرية، ومن يجعجع اليوم بغير ذلك هو واحد من اثنين: إما جاهل يهرف بما لا يعرف أو متجاهل عامد لغرض في نفسه (أو لغرض في نفس مصادر التمويل )..
في مختبر البخاري للدقة العلمية
مثال على نسبة الخطأ المقبولة (بل والممتازة( تلك التعقيبات التي وجهها الدارقطني وسواه على صحيح البخاري من ناحية وجود رواة لا يتناسقون مع المعايير العالية التي التزم بها البخاري نفسه في شروط صحة الرواية، عدد رواة البخاري من غير الصحابة 1484 راوٍ، عدد الرواة المجروحين (أي الذين هناك ما يقدح في عدالتهم ويجعلهم غير متناسقين مع شروط البخاري) 17 راوياً فقط، أي إن نسبتهم إلى مجمل الرواة لن تتجاوز 1.14%….(هل يوجد تجربة بهذه الدقة في العالم؟)
هؤلاء المجروحون لديهم ما يبلغ 23 حديثاً من أصل 7032 حديثاً أي نسبة هذه الأحاديث لا تتجاوز 0.4% ..!
من هذه الأحاديث الـ 23 هناك متابعات بأسانيد قوية حسب معايير البخاري لـ21 حديثاً… أي إن البخاري أورد عدة طرق لنفس الحديث، وأورد أولاً الطرق القوية والخالية من العلة ثم أضاف الطرق الأقل قوة.. وهذا يقلل نسبة الخطأ إلى 0.03%..
الحديثان المتبقيان لا يتضمنان أية عقيدة أو سلوك، واحد منهما عن اسم فرس للنبي عليه الصلاة والسلام والآخر يروي جانباً من حادثة الإفك وهي حادثة مروية بعدد كبير من الأحاديث في البخاري وغيره ولن يؤثر عليها حتى لو حذف هذا الحديث!
وهذا يزيد طبعاً من نسبة دقة البخاري ويجعلنا أكثر ثقة بالآليات التي أوصلت لهذه الدقة والتي جعلته دوناً عن سواه الأكثر قبولا عند الأمة..(دون أن يعني ذلك الإيمان بعصمته أو قداسته فنتاجه جهد بشري وصل لدرجة عالية من الدقة والإتقان لكنه يظل جهداً بشرياً)..
سقت كل ما سبق لا لتبجيل البخاري أو سواه من رجال الحديث بل لتوضيح الجهود الكبيرة التي بذلت لمواجهة المشاكل التي يمكن أن تنتج عن الأخذ بحديث ضعيف أو موضوع أو ترك حديث صحيح.. أكرر: كل علم الحديث، بكل ضوابطه وأقسامه، كان الاستجابة العلمية الأدق والأفضل لمواجهة مشاكل كهذه..
نقد متن الحديث و سلسلة الدومينو تباعا..
اليوم، يتصور البعض، أنه بالإمكان حرق المراحل، وتجاوز أسانيد الرواة، والحكم على الحديث بالصحة والضعف بناءً على ما يتصوره هؤلاء أنه “العقل” (علماً أن مصطلح العقل يحتاج إلى تحديد وتوصيف دقيق واستعماله عشوائيا من كل الأطراف لا يخدم العقل)..
نقد متن الحديث بمعزل عن سنده ليس ظاهرة حديثة، فقد كتب فيها ابن القيم كتاباًً مهماً هو “المنار المنيف في الصحيح والضعيف” حدد فيه أربعاً وأربعين علامة يمكن من خلالها معرفة ما إذا كان الحديث ضعيفاً قبل النظر في سنده، واستخرج بعض الباحثين عشر قواعد ذهبية في نقد متن الحديث عند ابن تيمية… هذا الجهد المؤصل لم يهدف إلى تضعيف حديث ثبتت صحته سنداً، بل كان بمثابة التعضيد للأول، أي الوصول إلى النتيجة ذاتها عبر طريق وقواعد مختلفة..
لكن ما الذي يحدث عندما يبدو لنا أن هناك تناقضاً ما، أو خللا ما بين متن حديث صحيح ومنطوقه وبين نصوص أخرى أو مبادئ عامة مستمدة من نصوص قاطعة..؟
حلّ التناقض عبر القول إن الحديث ضعيف –حتى لو صح سنده- ليس حلاً، بل هو انتحار،.. لأننا نفتح أبواب مشاكل أكبر تباعاً.. فالحديث صحيح سنداً، وإذا حدث وضعّفناه فإن لا شيء عملياً سيمنع تطبيق هذا التضعيف على كل حديث نراه مغايرا لما نفهمه من مبادئ عامة.. سيكون هذا التضعيف بمثابة إسقاط لقطعة دومينو تجر وراءها سلسلة الأحاديث الصحيحة كلها (وهذا هو بالتأكيد ما يريدونه!)
ما هو أسلم وأكثر علمية هو بذل بعض الجهد (بعد التأكد من صحة الحديث سندا) في فهم السياق المحتمل الذي ورد فيه هذا الحديث الذي يناقض غيره من نصوص، فلنتذكر هنا أن الحديث النبوي ليس قرآنا حفظ كلمة بكلمة وحرفا بحرف، بل هو أحياناً رواية لصحابي عن واقعة ربما شهد جزءاً منها، وربما رواها بالمعنى لا باللفظ وهو أمر مقبول عند أهل الحديث، وهذا كله يحتم علينا-ما دام السند صحيحاً- أن نبحث عن تفاصيل ساقطة من السياق أو سبب يمنح الحديث خصوصية، عبر البحث عن كل ما يمكن إيجاده عن الواقعة..
إرضاع الكبير:زوبعة في فنجان حليب!
على سبيل المثال: حديث إرضاع الكبير الذي عرف شهرة كبيرة مؤخراً لأسباب لا تخفى، الحديث صحيح وهو في البخاري ومسلم، يمكن أن ينجرّ البعض بسهولة إلى رفضه لأسباب واضحة، لكن ذلك سيفتح باباً ما لا يمكن معرفة عواقبه من أبواب عديدة ومختلفة لرفض أي حديث صحيح بناء على أنه لا يتوافق مع فهمنا لنصوص أخرى.. وهكذا سيتم تضعيف وإقصاء نصوص صحيحة لصالح نصوص أخرى تتسق مع رؤية معينة يريد أصحاب أجندة معينة تمريرها.. لا أتحدث هنا عن حديث “إرضاع الكبير” على الإطلاق بل عن المبدأ ككل.. أيُّ تضعيف لحديث صحيح بناء على ما نعده غرابة متنه سيفتح الباب مشرعاً أمام أصحاب الأهواء ليمرروا ما يريدون..
وما دمنا في حديث إرضاع الكبير، فإن البحث عن تفاصيل السياق، التي قد لا تظهر في الحديث مجردا، وبالتأكيد لا تظهر في وسائل الإعلام التي تصطاد في الماء العكر، سيدلنا على خصوصية القصة ضمن سياقها الطبيعي المتدرج في المرحلة التي تلت تحريم التبني، فسالم كان ابناً لأبي حذيفة بالتبني قبل أن يحرم الإسلام التبني، كانت امرأة أبي حذيفة قد ربت سالماً على حجرها كما لو كان ابناً لها،.. إلا أنها لم ترضعه، فصار زوجها أبو حذيفة يتحرج من وضع سالم الجديد بينهم (لم يعد ابناً لهم بل صار مولى).. وهكذا كان إرضاعه(بالواسطة حتما أي دون تماس بين البشرتين) هو الحل الذي يخص سالما وحده ولا يخص أيَّ أحد سواه ولا يمكن أن يبنى عليه حكم فقهي يتجاوز هذه المرحلة الانتقالية..
وهذا أكثر علمية ودقة من مجرد رفض الحديث لأن متنه لم يوافق ما نفهمه..
ليتهم كانوا مثل الغزالي..
لكن ليس كل من ينقد متن الحديث ويرفضه يقصد الطعن بالسنة بالضرورة، ولا يمكن أن تغيب عن بالنا هنا محاولة معروفة في كتاب (السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث) والذي رفض فيه بضعة أحاديث صحاح لما وجد فيها من معانٍ عدّها شاذة..
على سبيل المثال، الاعتراض على متن حديث “إن أبي وأباك في النار” والتساؤل عن الحكمة والفائدة في زجّ والده عليه الصلاة والسلام في النار وقد توفي قبل بعثته الشريفة؟.. لكن متابعة نص الحديث قد تجعلنا نفهم شيئا آخرا ،حيث أن أحدهم قد سأل الرسول عليه الصلاة والسلام عن أبيه (أي أبي السائل) فقال له الرسول: في النار، فلما انصرف الرجل، ناداه الرسول ليقول له “إن أبي وأباك في النار” (الحديث في صحيح مسلم) والسياق العام هنا –كما هو واضح- لا يشير إلى شخص والد الرسول ابتداء بل جاء ذكره عرضا أي أنه من المحتمل إنه يشير إلى ضرورة التخلص من التفكير غير المجدي في الآباء، في ضرورة إحداث قطيعة تامة لإرث الجاهلية، في ضرورة البدء من جديد والانسلاخ من كل ما يعطل ذلك،.. تقبل فكرة أن كل ما مضى سيكون في النار، مهما كنا متعلقين عاطفيا به، سيؤهلنا لإحداث هذه القطيعة الضرورية للبدء والبناء بمعزل عن أنقاض الماضي.. هكذا فإن جملة ” إن أبي وأباك في النار” يمكن أن تفهم في سياق لا يمس شخص والد الرسول بقدر ما يمس مفهوم الآبائية برمته..
ثمة اعتراض آخر أيضا على الحديث المتفق عليه من أن ملك الموت عندما أمره الله أن يقبض روح موسى عليه السلام فإن موسى رفض ذلك ولطمه على عينه وفقأها.. والاعتراض ليس على تمثل ملك الموت بل على عدم رغبة موسى في الموت ولقاء ربه وهو ما اعتبره البعض شاذاً إذ إن العباد الصالحين يكونون مشتاقين للقاء الله فكيف بنبي كريم بل من أولي العزم من الرسل مثل موسى؟
لكن لِمَ لا يكون موسى قد تمنى عدم الموت في تلك الفترة -بغضّ النظر عن تمثُّل ملك الموت وحادثة لطم العين التي قد تكون مجازاً- لأنه ببساطة كان يودّ إكمال مهمته قبل الموت، كان موسى آنذاك في طريقه لا يزال يقود قومه خروجاً من التيه إلى فلسطين، وكان يودّ كأي صاحب رسالة أن يلاقي ربه وقد أتمّ مهمته.. أي إن عدم رغبته في الموت كان رغبة في المزيد من العمل وإصلاح قومه.. ولا علاقة للأمر بنظرتنا التقليدية للعبد الصالح الذي يشتهي الموت أكثر من أيّ شيء آخر..(كما إن نص الحديث في بعض طرقه يشير إلى ذلك صراحة،إذ يطلب موسى منه عز وجل أن يقربه من الأرض المقدسة).
أنا هنا لا أقول إن هذه القراءة لما بين سطور الأحاديث هي قراءة نهائية وقاطعة، بل هي مجرد أمثلة على تأويل أراه متماسكا مع بقية النصوص وأعتقد أنه يبقى أسلم من فتح باب “رد الأحاديث الصحيحة”..
الموقف فعل طبيعي تجاه تطرف”السنة قاضية على الكتاب”
ينبغي هنا أن نثبت أن الموقف هنا كان “رد فعل” تجاه تطرُّف لا يمكن إنكار وجوده تجاه الحديث النبوي، تطرُّف ساوى بين القرآن والسنة، وقرأ القرآن بعيون السنة بدلاً من العكس، وجعل “السنة قاضية على الكتاب”-صراحة وبصوت عالٍ- بدلاً من أن يكون الاحتكام إلى الكتاب هو الأساس في فهم الأحاديث ووضعها في موضعها المناسب وبحجمها المناسب.. هذا التطرُّف ليس وليد اليوم ولا هو ظاهرة حديثة، فهناك أثرٌ واضح له في التراث ، لكن العقود الأخيرة شهدت ازدهارا كبيرا لهذه الظاهرة لأسباب لا مجال للخوض فيها الآن ولا يمكن أن تعالج هذه الظاهرة إلا بنظرة جذرية تعيد ترسيم العلاقة بين القرآن والحديث النبوي وتضع كلاً منهما في مجال فاعليته الرئيسية.. أي دون إفراط في مساواة الحديث بالقرآن أو تفريط في رفضه لمجرد أنه لا يناسب ما نتصور أنه العقل..
القرآنيون:رد فعل..أم فعل مع سبق الإصرار والترصد؟
لكن أين من يطلقون على أنفسهم اسم “القرآنيين” من كل ذلك؟ وهل يمكن اعتبار موقفهم كرد فعل تجاه هذا التطرف في مساواة القرآن بالسنة على سبيل المثال؟ هل يمكن اعتبارهم رد فعل على ما يفعله الإعلام الموجه من تضخيم لفتاوى شاذة من أشباه علماء لغرض تشويه النظرة إلى الدين ورجاله؟..
الحقيقة هذه النظرة تبالغ في حسن الظن، فتعامُل القرآنيين مع الحديث الشريف أبعد ما يكون عن ذلك، وسنرى في مقال لاحق نماذج من التعامل المليء بالدس والتدليس مع صحيح البخاري على سبيل المثال..
كما أن “فوضاهم” تفوق بمراحل كل ما عرفناه من تطرف في الفتاوى عند البعض من أشباه العلماء..(تخيلوا أنهم مختلفون بشدة على كون الخمر حراماً أم حلالاً!..البعض منهم يرى حرمتها –جزاهم الله خيرا على ذلك!، البعض الآخر يرى أن لاشيء فيها !.. والبعض منهم يرى أن الأذان للصلاة بدعة!!.. إلى آخر هذه المهازل التي تمس حياة الفرد اليومية بينما فتوى إرضاع الكبير مثلا غير قابلة للتطبيق أصلاً..)..
تعامل هؤلاء مع الحديث الشريف والمشاكل التي يمكن أن تنتج عن الأخذ بحديث ضعيف أو ترك حديث ضعيف، يشبه وصفة تقدم لشخص يعاني من بعض الصداع.. كل الوصفات السابقة التي قدمها المختصون كانت تركز على علاج المرض وأسبابه وإزالة أعراضه (وهذا هو علم الحديث ورجاله وكل جهودهم المستمرة حتى اليوم)..
أما وصفة القرآنيين للتخلص من الصداع فهي تحل مشكلة وجع الرأس عبر قطع الرأس..! إنها تقضي على الصداع فعلا.. ولكنها تقتل في الوقت نفسه المصاب بالصداع….
هذه هي وصفة القرآنيين لنا..إنهم يقترحون حلاً لا يقبله عاقل..و نسف السنة النبوية والحديث الشريف هو انتحار يخسر من يقوم به الدنيا والآخرة على حد سواء..
وللكلام بقية..