( من كتاب ليطمئن عقلي)
ليس هدف هذا المقال إيجاد توافق حرفي بين القرآن الكريم والمعطيات العلمية الحديثة، فليس مطلوبا من القرآن أن يقدم وثيقة مصادقة على كل ما يأتي به العلم…وليس مطلوبا أيضا أن نسعى إلى التوفيق بين الدين والعلم في كل شيء، فلكل منهما مجاله المختلف الذي علينا فهمه ومعرفته…..
لكن من المهم برأيي أن نجد مساحة مشتركة نرفع فيها التناقض الصارخ الذي يحاول البعض إيهامنا بوجوده ..مساحة يمكن لللإيمان بالله وقبول النظريات العلمية أن يتجاورا دون توافق حرفي بالضرورة، ولكن دون صراع حاد أيضا…،
*********
لا يمكن بأي شكل من الأشكال الحديث عن نظرية التطور، دون أن نصل إلى السؤال الحاسم: ماذا عن “أول البشر”؟.. آدم عليه السلام؟
كل ما عدا ذلك قد يكون قابلًا للأخذ والرد من قِبَل “بعض رافضي النظرية”، لكن مع الإنسان الأول، آدم.. الأمر يصل هنا إلى نقطة حساسة لا أحد يقبل المساس بها، بل وحتى غض الطرف عنها. بل إن جزءًا كبيرًا من أسباب رفض النظرية ومحاربتها يتعلق بآدم.
ملخص الإشكالية هنا هو أن نظرية التطور تقترح تدرجًا في نشوء النوع الإنساني (الإنسان العاقل) (Homo Sapiens) منحدرًا من أقرب سلف مقترح، وهو إنسان هايدلبرغ (Homo heidelbergensis ) الذي عاش قبل (300 ألف – 700 ألف سنة) وهو وقت متداخل مع أقدم ما عُثر عليه من بقايا للإنسان العاقل في المغرب .
حسب نظرية التطور ومخرجاتها؛ فإن الانتقال من إنسان هايدلبرغ إلى الإنسان العاقل كان تدريجيًا وعبر آليات التكيف مع الظروف الطبيعية الصعبة والانتقاء الطبيعي..
تميز (الإنسان العاقل) عن أقاربه من جنس الإنسان (Homo) و (النياندرتال) بحجم دماغه الكبير نسبة إلى حجم جسمه، وهو أمر لم يكن يبدو مفيدًا جدًا بالنسبة لكائنات تلك الفترة، إذ أنه يشكل ثقلًا إضافيًا في مرحلة كانت الخفة مهمة في النجاة من الافتراس، ليس هذا فقط، فقد كان هذا الدماغ الذي لا يشكل أكثر من 2 – 6% من وزن الجسم يستهلك تقريبا 25% من طاقة الجسم، بينما كان استهلاك الدماغ عند أبناء العمومة لا يتجاوز الـ 8%.
أدى هذا الأمر إلى محاولة الإنسان العاقل للبحث عن المزيد من الطعام تعويضًا عن الطاقة المستهلكة، ولكنه أدى أيضا إلى ضمور عضلاتهم مقارنة بالأقارب.. الطاقة في معظمها تذهب إلى الدماغ الضخم الذي يحملونه في جماجمهم، بينما الأقارب تذهب طاقتهم إلى عضلاتهم..
كان هذا الأمر مثل أن توجه ميزانية الدولة إلى نفقات التعليم، بدلًا من الدفاع، بينما كل الدول المجاورة منهمكة في التسليح والحرب.
أمر قد يبدو غريبًا من الناحية الاستراتيجية في عالمٍ البقاءُ فيه للأقوى..
لكن عبارة “البقاء للأقوى” ترجمة خاطئة لعبارة (survival of the fittest)، البقاء في هذا العالم هو للأكثر قدرة على التكيف معه.. وليس للقوة العضلية.
وقد أثبت الاستثمار في الدماغ، صحته الاستراتيجية على المدى البعيد..
حيث مكن هذا الاستثمار الإنسان العاقل من تطوير قدراته العصبية وتحكمه بأطرافه وأنامله على نحو دقيق، كما مكنه من البحث عن طعامه، ثم إنتاجه، والنجاة من الافتراس على نحو أفضل..
في مرحلة ما، بين 30.000 – إلى 70.000 سنة مضت، مر هذا الإنسان العاقل بثورة عقلية cognitive revolution، مكنته من أن يكون الأقوى والأكثر نجاحًا بين (الأنواع المقاربة)، كما مكنته من السيطرة على قمة الهرم الغذائي ، وبطريقة ما، انقرض جميع الأقارب.
فلننتبه هنا إلى أن هذا يعني – حسب نظرية التطور- أن (الإنسان العاقل) لم يكن “شخصًا واحدًا”، بل كان مجموعة بشرية تميزت عن أسلافها وأبناء عمومتها بمميزات الإنسان الحديث.
*******
إذا أردنا أن نوازي بين هذه المخرجات وبين ما نعرفه من قصة الخلق من القرآن الكريم، لوصلنا إلى أن الإنسان العاقل (Homo Sapiens) لا بد أن يكون آدم عليه السلام.
لكن هنا ستبرز لنا ثلاث مشاكل رئيسية:
الأولى: أن آدم كان شخصية تاريخية، فردًا بعينه، بينما مخرجات نظرية التطور تتعامل مع مجموعة بشرية وصلت ببطء إلى ما وصلت إليه.
الثانية: وجود أنواع أخرى من الإنسان (التي سبقت الإنسان العاقل)، وكانت سلفًا لهذا الإنسان، وهو أمر لا يتفق مع فهمنا أن آدم هو الإنسان الأول.
الثالثة: وجود آدم في الجنة، و”هبوطه” إلى الأرض منها، فهذه التفاصيل لا يمكن أن تجد لها مكانًا ضمن مخرجات واستنتاجات نظرية التطور..
فهل من حل لهذه الإشكالات؟
******
آدم …مجرد رمز أم حقيقة تاريخية؟
هناك من يحاول تقديم آدم بصفته رمزًا للنوع الإنساني “العاقل” الذي ننتمي له.
لكن في هذه الحالة كل ما في القصة الدينية عن آدم وخلقه سيكون هنا رمزيًا أيضًا، وستكون هناك دروس مهمة جدًا للنوع الإنساني من هذه القصة: دور الإنسان ومكانته، إمكانية الخطأ، المغريات التي سيتعرض لها.. هذه الدروس مهمة جدًا وكل إنسان يتعرض لها كثيرًا في رحلة حياته.
لكن الحديث عن آدم بوصفه “رمزًا” فحسب، رمزًا ممثلًا عن النوع الإنساني، يعني أنه لم يكن هنا كشخص، لم يكن حقيقة تاريخية. بل يقدم كخلاصة لتجربة تاريخية مرت بها (مجموعة إنسانية) في فترة ما دون أن يكون هناك “شخص بعينه” في هذه المجموعة هو آدم عليه السلام.
مثل ذلك ما قدمه البعض من أن آدم ليس اسم علم، بل هو اسم لمجموعة بشرية، وزوجه مجموعة بشرية أخرى ، أو ما قاله آخرون أن آدم هو مجموعة أشخاص بلغ عددهم 32 شخصًا أو ما قدمه كثيرون من داعمي (التطور الإلهي Theistic evolution) من أن آدم وحواء هما رمزان أكثر منهما حقيقة تاريخية ، وما قدمه بعض علماء الاجتماع من أن صراع قابيل وهابيل كان رمزًا لصراع (مجتمع الرعي ومجتمع الزراعة) .
لكن تحويل القصص إلى رموز على هذا النحو يقتلها تاريخيًا وواقعيًا، ويفتح باب تحويل كل شيء آخر إلى رموز أيضًا، فالمعيار الذي يجب أن نقف عنده في التعامل مع القصص القرآنية بين الحقيقة التاريخية والمعنى الرمزي، على سبيل المثال: إذا كان آدم رمزًا لمجموعة بشرية أو مرحلة تاريخية، كيف يمكن ألا يتحول إبراهيم إلى رمز أيضًا بلا حقيقة تاريخية، أو موسى أو عيسى.. أو حتى الجنة والنار؟
ما الذي يمكن أن يبقى “كحقيقة تاريخية” وما الذي سيتحول إلى رمز فقط؟
لماذا نفترض أن الرموز لا يمكن أن تكون إلا من خلال قصص “لم تحدث” أي “أساطير”؟
ألا يمكن أن تكون السير التاريخية الواقعية مليئة بالرموز والمعاني في نفس الوقت؟
لا شيء حقيقيًا يبرر ذلك.
كل ما في الأمر هو أن مخرجات الأبحاث والدراسات العلمية تشير إلى أن التطور التدريجي البطيء لا يمكن أن يُنتج “إنسانًا واحدًا فارقًا، يمكن أن يشار له ويقال هذا هو “الإنسان العاقل، أو السوبر عاقل، أو الآدمي الأول”.
أو هذا على الأقل ما يعتقده كثيرون حتى الآن.
لهذا فهم يحاولون التوفيق بين “النصوص الدينية للقصة” وبين مخرجات نظرية التطور بتحويل آدم إلى مجرد رمز إنساني.. إلى عبرة مستفادة من حكاية يمكن لكثيرين أن يقولوا إنها “لم تحدث”.
“شيء ما” حدث للإنسان العاقل
لكن الذي حدث للإنسان العاقل (الهومو سابيانز)، ليس مفهومًا تمامًا حتى اليوم.
وأعني الحدث الذي غير من موقعه بين بقية المخلوقات ومهد لسيادته على الكوكب..
ما أطلق عليه: الثورة العقلية cognitive revolution.
اللغة..
حسب البعض؛ أهم منجزات هذه الثورة العقلية التي مكنت الإنسان من بسط سيطرته تدريجيًا كانت اللغة. القدرة على استخدام اللغة كوسيلة للتواصل بين الأفراد ونقل الخبرات فيما بينهم وتكوين مجتمع متماسك (قبيلة( أكبر عددًا وأكثر قدرة على النجاة، وارتبط باللغة ونشوئها أيضًا القدرة على تكوين أفكار تجريدية، والتعبير عنها، والخيال، والفن. كما ارتبطت بها القدرة على تكوين مبادلات تجارية.
كانت هناك طرق تفاهم قبل ذلك بالتأكيد، حتى الحيوانات تتفاهم فيما بينها، لكن اللغة نقلت الإنسان العاقل من مرحلة “احذر! هناك دب عند النهر” إلى مرحلة “فلنفكر بطريقة نصطاد بها الدب” و “لو تركت هذه الفاكهة على النار أكثر لكانت ألذ” و “شاهدتهما يدخلان الغابة معًا أمس، هل يعرف زوجها بذلك؟”..
هذه التفاصيل اليومية الصغيرة التي أثرتها اللغة ساهمت في تكوين لُحمة اجتماعية جعلت للفرد فيها هويته وانتماءه .
كيف حدث هذا؟ ما الذي طرأ على دماغ الإنسان العاقل فجأة بحيث أمكنه كل ذلك؟
هناك اعتقاد علمي راسخ يربط اللغة التي تميز “الإنسان العاقل” بالحامض النوويDNA .
وكثير من العلماء يعتقدون أن الأمر يعود إلى قفزة جينية وليس إلى تغييرات تدريجية بطيئة تتكيف مع متطلبات “الصراع من أجل البقاء” . كما يعتقد أيضًا أن “طرق التفكير الجديدة” التي ميزت “الثورة الدماغية” في هذه الفترة قد تسببت بها طفرة جينية غيرت من “الربط الداخلي inner wirings في الدماغ .
ويذهب نعوم تشومسكي إلى أبعد من هذا قليلًا، حيث يعزو “لغة الإنسان” التي ميزته عن كل الحيوانات الأخرى إلى طفرة جينية واحدة أنتجت جينًا واحدًا فقط عند فرد واحد (يطلِق عليه تشومسكي اسم بروميثيوس) وذلك قبيل الخروج من أفريقيا حوالي 62000-95000 عام مضت ، ويتفق معه في نفس الفكرة البعض ، ويخالفه فيها أيضًا كثيرون .
لم يتم (حتى الآن) العثور على “جين واحد” بعينه يكون مسئولًا عن القدرة على التعبير، كما لم يتم تحديد الفترة التاريخية التي حدثت فيها هذه الثورة “الدماغية” بالضبط.
*********
فلنلخص ما مضى:
أولًا: طرأت على الإنسان العاقل تغيرات كبيرة ساهمت في تغيير موقعه بين الحيوانات في العالم.
ثانيًا: تضمنت هذه التغيرات قدرات جديدة في التفكير والتعبير على نحو غير مسبوق، ومن أهم وأوضح هذه القدرات: اللغة.
ثالثًا: هذه التغييرات حدثت فجأة، ولم تكن تدريجية وبطيئة مثل بقية مخرجات آلية الانتقاء الطبيعي التي تأخذ وقتًا طويلًا.
رابعًا: بسبب فجائية التغييرات فإن العلماء يميلون إلى حدوث “طفرات جينية” أحدثت الفرق الجذري سريعًا.
خامسًا: لا يستبعد بعض العلماء أن تكون هذه الطفرة قد حدثت لفرد واحد فقط، ومن ثم انتقلت منه وسادت حتى تكونت 7000 لغة في عالم اليوم.
رجل واحد؟
*******
هل يمكن ألا نربط كل ما مضى أعلاه، بشيء آخر مر معنا في النسخة القرآنية من قصة آدم عليه السلام؟
(وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)
(البقرة: 31).
علم آدم الأسماء؟
هل هي اللغة؟ القدرة على التجريد؟ هل هي المقدرة الدماغية على ذلك؟
من الصعب جدًا عدم الربط بين الأمرين.
*****
هل يمكن أن يكون هناك (من الناحية العلمية) رجل واحد وامرأة واحدة ننتسب لهما جميعًا بكل التنوع العرقي الموجود في العالم اليوم؟
من الناحية الجينية، هذا ممكن بالفعل.
الدراسات الجينية التي أجريت على مجموعة من الرجال من مختلف الأعراق، تشير إلى أن كل الكروموسومات الذكورية Y يمكن أن تعود إلى رجل واحد عاش قبل حوالي 100.000 سنة مضت، بالمقابل، فإن كل المايتوكوندريا الوراثية mtDNA تنقل من الأم إلى أبنائها ذكورًا وإناثًا، والدراسات وجدت أن كل هذه المايتوكوندريا الوراثية للبشر اليوم يمكن أن تعود إلى امرأة عاشت في نفس الفترة التي عاشها ذلك الرجل تقريبًا أو أن على الأقل ثمة تداخل في الوقت التقريبي المقترح لوجودهما ، كما تشير دراسة أخرى إلى أن كل التنوع الجيني الموجود حاليًا يعود في أصوله إلى الفترة ما بين 200.000 إلى 100.000 سنة مضت .
فلنوضح هنا أن هذه الدراسات لا تقترح بأي شكل من الأشكال اقتران هذا الرجل والمرأة، لكنها تشير إلى وجود أصول مشتركة لكل البشر الموجودين على وجه الأرض.
*****
ليس من وظيفة العلم أن يثبت لنا وجود آدم وحواء، وليس من وظيفته أن يقدم لنا عقد زواجهما أو شهادة ميلاد طفلهما الأول. ولكن لا يمكن للمؤمن عندما يرى كل ما يقدمه العلم الحديث من معطيات إلا أن يقول: نعم، ممكن جدًا إذن.. لا شيء “حقًا” ضد ما أؤمن به.. ما دام يمكن أن يحدث مع جد الكروموسوم Y وجدة المايتوكوندريا الوراثية، فيمكن أن يحدث مجددًا مع آخرين.. آخران تزوجا وأنجبا فعلًا.. ويمكن للعلم أن يثبت ذلك ويمكن أن لا يفعل.. ولكن حاجتنا إلى الإثبات ليست قوية بقوة حاجتنا إلى عدم وجود إثبات “للنفي”.. وقد كان..
آدم وزوجه كانا شخصيتين تاريخيتين. لم يكونا رمزًا للنوع الإنساني أو لقبيلة ما أو مجموعة بشرية ما.
آدم، كان شخصًا حقيقيًا.. من لحم ودم.. مثلنا جميعًا.. جد الجميع..
*****
بشر قبل آدم؟
الفهم السائد المباشر لقصة الخلق كما جاءت في القرآن هو أن آدم كان أول البشر.
ولكن في نفس القصة هناك إشارات ضمنية يمكن أن تشير إلى أن الأمر ربما ليس بهذه الحرفية المباشرة.
هناك أولًا تساؤل الملائكة الشهير..
(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (البقرة: 30).
كيف عرف الملائكة هذه “الميول” ما لم يكن الأمر مرتبطًا بتجربة سابقة على إخبار الله لهم بأنه سيجعل فيها خليفة؟
السؤال موجود، ولكن هناك إجابة معروفة وسائدة: كان هناك “الجن” قبل البشر، وهؤلاء أفسدوا وسفكوا الدماء، وتوقع الملائكة أن الأمر سيكون مماثلًا مع آدم.
وهذه الإجابة لا تعتمد على نص ديني (قرآني أو نبوي)، بل هي من أقوال المفسرين في تأويل الآية الكريمة.
ولكن الجواب الإلهي لا يوحي بأن هذا هو مقصد الملائكة من السؤال.
الجن غير البشر، وهذا أمر لا بد أن يكون ضمن علم الملائكة، لو كان هذا مقصدهم.
لذا فجواب: (إني أعلم ما لا تعلمون) قد لا يكون مناسبًا للسؤال لو كان مقصد الملائكة عن الجن، بل سيأتيهم الجواب منبهًا على الفروق بين الجن والخلق الجديد.
إذن لعل مقصد الملائكة كان عن حالة مشاهدة تخص النوع الإنساني قبل أن يختصه الله بميزات القدرة العقلية المتفوقة (التي يعلمها الله ولا تعلمها الملائكة بعد).
******
آية الاصطفاء تطرح أيضًا ما يمكن أن يصب في أن آدم لم يكن الإنسان الأول.
(إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) (آل عمران: 33).
والاصطفاء قرآنيًا هو اختيار وتفضيل جزء من كل.
كل الآيات القرآنية التي وردت فيها هذه اللفظة ومشتقاتها كانت تشير بوضوح إلى ذلك..
(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) (النمل: 59).
(وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ) (الصافات: 153).
(وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران: 42).
(وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة: 247).
(قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ)
(الأعراف: 144).
(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِير) (فاطر: 32).
(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (البقرة: 130).
(اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (الحج: 75).
في كل هذه السياقات، الاصطفاء كان لفرد من مجموع ينتمي له ابتداء.
حتى في الآيات التي لا تتحدث عن فرد أو أفراد، فهي تتحدث عن تخليص شيء معين من شوائب..
(وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
(البقرة: 132).
إذن جزءٌ يُصطَفى من كل..
لا يوجد أي سياق ضمن هذه الآيات كان الاصطفاء فيه يأتي بناء على انتماء مستقبلي (أي تم اختيار آدم من بين أولاده الذين لم يولدوا بعد، مثلًا)..
الاصطفاء في كل هذه السياقات يحدث من بين مجموعة متشابهة في صفات معينة، لهم وجود مشترك في فترة مشتركة.. الله لم يصطفِ نوحًا من بين أهل مكة أو أهل روما.. بل اصطفاه من قومه، في الفترة التي عاشها هو بنفسه.. أما أن يكون هذا الاصطفاء قد جعله “أفضل” منهم – ومن بقية العالمين – فهذا أمر مؤكد بلا نقاش..
لكن عملية الاصطفاء ابتداء حدثت مع قومه..
وكذلك مع كل الاصطفاءات الأخرى..
لماذا نتوهم الأمر مختلفًا مع آدم؟
الآية يمكن أن تفهم كإشارة إلى احتمالية وجود مجموعة “بشرية” انتمى لها آدم أصلًا، لكن الله اصطفاه منها وميَّزه منها بما قد يسميه العلماء “القفزة الجينية الكبيرة” التي جعلته الإنسان الأول من ناحية استخدامه لقدرات لم تكن موجودة من قبل..
********
(وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) (الأنعام: 133).
الآية يمكن أن تقدم إشارة أخرى إلى أن النوع الإنساني ارتبط وجوده بنوع بشري آخر سابق عليه، بل إن المعنى الظاهر للآية قد يصب في هذا إلى درجة أن الطبري في تفسيره قد ذكر:
(كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) (الأنعام: 133)، كَمَا أَحْدَثَكُمْ وَابْتَدَعَكُمْ مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ آخَرِينَ كَانُوا قَبْلَكُمْ. وَمَعْنَى (مِنْ) فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: التَّعْقِيبُ، كَمَا يُقَالُ فِي الْكَلَامِ: أَعْطَيْتُكَ مِنْ دِينَارِكَ ثَوْبًا، بِمَعْنَى: مَكَانَ الدِّينَارِ ثَوْبًا، لَا أَنَّ الثَّوْبَ مِنَ الدِّينَارِ بَعْضٌ، كَذَلِكَ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِقَوْلِهِ: (كَمَا أَنْشَأَكُمْ) (الأنعام: 133) لَمْ يُرِدْ بِإِخْبَارِهِمْ هَذَا الْخَبَرَ أَنَّهُمْ أُنْشِئُوا مِنْ أَصْلَابِ قَوْمٍ آخَرِينَ، وَلَكِنْ مَعْنَى ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُمْ أُنْشِئُوا مَكَانَ خَلْقٍ خَلْفَ قَوْمٍ آخَرِينَ قَدْ هَلَكُوا قَبْلَهُمْ).
أي أن ظاهر الآية كان واضحًا في أن المقصد هو (أنهم أنشئوا من أصلاب قوم آخرين) ولذلك يقول الطبري إن المقصد هو “مكانهم”، وهو أمر مفهوم ومتوقع حسب السياق المعرفي والمعطيات في عصر الطبري.
يمكن بطبيعة الحال أن تُقدم تأويلات أخرى (أن المقصود مثلًا هو ذرية قوم نوح) ولكن المعنى هنا يكون غير واضح؛ إذ ما المغزى من الإشارة إلى قوم نوح هنا، بينما المعنى يمكن أن يتسق في خطاب عام للإنسانية في المن عليها بإمكانية ظهور خلق آخر، كما حدث مع خلقهم، وهو ما يتوافق مع كون سياق الآيات يتحدث مخاطبًا “معشر الإنس والجن”.
******
ماذا عن آية (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (آل عمران: 59).
تعتبر هذه الآية عند البعض دليلًا على أن آدم قد خُلِق “مرة واحدة” كما خُلِق عيسى عليهما السلام..
لكن ربما هناك معانٍ أخرى لو تأملنا في تفاصيل المقارنة..
فعيسى عليه السلام كانت ولادته معجزة بالتأكيد من ناحية أنه وُلِدَ من غير أب، لكنها لم “تكن مباشرة وفورية” كما قد يُفهم من “كن فيكون” فقد حملت به أمه وانتبذت به، ثم جاءها المخاض كما يحدث مع بقية الخلق، أي أن المماثلة هنا لا تقود إلى أن آدم “لم يولد من امرأة”.
أما سياق “كن فيكون” فقد جاء في عدة مواضع في القرآن الكريم، ولكن لا يوجد فيها سياق يعزز فكرة “فورية التنفيذ” كما نفهمها، بل تدل في أغلب السياقات على قدرته عز وجل – هو المتعالي عن الزمان وقياساته البشرية – كما أن هناك سياقًا يربط “كن فيكون” بمراحل الخلق دون أن يُفهم منها أن “كن فيكون” تعني إلغاء هذه المراحل:
(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (غافر: 68).
ما الذي تقصده الآية إذن من تشبيه عيسى عليه السلام بآدم؟
المقصد والله أعلم هو المعجزة الإنسانية برمتها.. هل ولادة عيسى من غير أب معجزة أكبر من خلق آدم وبداية خلق النوع الإنساني؟ كل ما في الأمر أننا تعودنا على )خلق النوع الإنساني) أكثر مما يجب، بحيث أننا لم نعد نستشعر عجيب القدرة الإلهية في خلقنا نحن.. الخلق المتجدد الذي أصبح مألوفًا جدًا بالنسبة لنا، كما في تكرار أي آيات مُعجِزة أصبح من الصعب علينا أن نتوقف عندها، مثل آيتي الليل والنهار، وآيتي الشمس والقمر.
ماذا عن خلق آدم من تراب، سواء في هذه الآية أو في آيات أخرى كثيرة (من تراب أو من طين أو من سلالة من طين)؟
لا جدال في أن بدء خلق النوع الإنساني – وكل الأنواع الأخرى – كان من هذه البداية، ولكن التدرج في أمر الخلق ومروره بمراحل واضح في كثير من الآيات..
(الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) (السجدة: 9)
فبداية الخلق هي من الطين، ولا شيء يدل على فورية اكتمال الخلق، بل الحديث عن “سلالة” ومع استخدام متكرر لكلمة “ثم” التي تدل على “التراخي في الزمن” أي وجود فترة زمنية بين المراحل.
جنة آدم على الأرض؟
هذه المسألة خلافية منذ البداية، ولا علاقة لنظرية التطور بالأمر.
فقد نقل عن أبي حنيفة وأصحابه، وعن سفيان بن عيينة، بل روي حتى عن ابن عباس أن جنة آدم هي غير جنة الخلد.
وقد ناقش رشيد رضا القولين ونقل جملة أسباب تجعل من جنة الأرض (البستان الظليل، وقد وردت بهذا المعنى فعلًا في القرآن الكريم) خيارًا منطقيًا:
1- أَنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ فِي الْأَرْضِ لِيَكُونَ هُوَ وَنَسْلُهُ خَلِيفَةً فِيهَا، فَالْخِلَافَةُ مَقْصُودَةٌ مِنْهُمْ بِالذَّاتِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ عُقُوبَةً عَارِضَةً.
2- أَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ أَنَّهُ بَعْدَ خَلْقِهِ فِي الْأَرْضِ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ وَلَوْ حَصَلَ لَذُكِرَ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ عَظِيمٌ.
3- أَنَّ الْجَنَّةَ الْمَوْعُودَ بِهَا لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ، فَكَيْفَ دَخَلَهَا الشَّيْطَانُ الْكَافِرُ الْمَلْعُونُ؟
4- أَنَّهَا لَيْسَتْ مَحَلًّا لِلتَّكْلِيفِ.
5- أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ مَنْ فِيهَا مِنَ التَّمَتُّعِ مِمَّا يُرِيدُ مِنْهَا.
6- أَنَّهُ لَا يَقَعُ فِيهَا الْعِصْيَانُ.
وأضاف إلى ذلك إلى أنه لو أن جنة المأوى كانت جنة آدم، لما صح عليها قول “الدار الآخرة” لأنها ستكون الدار الأولى في هذه الحالة .
السؤال المباشر سيكون ماذا عن “هبوط” آدم وزوجه من الجنة إلى الأرض؟
كما في: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى) (طه: 123).
(فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) (البقرة: 36).
(قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة: 38).
(قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) (الأعراف: 24).
أليس تكرار (الهبوط) هنا يدل على أن جنة آدم كانت في السماء؟
على العكس، الكلمة هنا تدل على أن جنة آدم في الأرض، لأن الهبوط غير النزول، وبينما استخدم القرآن لفظ النزول لما يأتي من السماء كما في (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا) (الفرقان: 48).. فإنه استخدم الهبوط في سياق آخر تمامًا كما في:
(وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) (البقرة:61).
(قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ) (هود: 48).
فبنو إسرائيل عندما “هبطوا” إلى مصر لم يكونوا في السماء..
ونوح عندما هبط كان في السفينة فحسب ولم يكن في السماء..
وكذلك الأمر بالنسبة لهبوط آدم وزوجه إلى الأرض.. كان انتقالًا من مكان مرتفع قليلًا في الأرض.. إلى عمومها..
***************
هل من شيء قاطع وحاسم في كل ما سبق؟
لا بالتأكيد. وليس من المطلوب أصلًا أن يكون كل شيء قاطعًا وحاسمًا في كل تفصيل. ولا من المطلوب من العلم أن يقدم إثباتًا لكل ما يقوله الدين، ولا الدين مطالب بأن يختم بالموافقة على كل ما يقوله العلم.
لكن رفع التناقض الصارخ مهم.
وغاية ما تقدمه المناقشة السابقة هو أنها تمنح مساحة مشتركة بين القصة الدينية كما جاءت في القرآن (والكتب السماوية عمومًا)، وبين مخرجات العلم الحديث.
لا يضطر المؤمن المعاصر أن يكون في مواجهة يومية مستمرة مع العلم، بينما هو يبسط سيطرته على العالم اليوم.
ثمة مواجهات مجدية أكثر.
*****
في كل الأحوال أجد نفسي مضطرًا إلى التذكير مرة أخرى: نظرية التطور لا تبحث في سؤال: من بدأ الخلق؟ كي تزج بسهولة في جدل الإلحاد والإيمان.
هي لا تبحث في كيف نشأت الخلية الحية الأولى وأصل وجودها.. هذه المباحث وغيرها قد تكون سبيلًا إلى الإلحاد، لكن كل هذا خارج نطاق نظرية التطور، وجر النظرية وما تطرحه إلى نطاق الإيمان والإلحاد يعبر غالبًا إما عن عدم فهم لما تطرحه النظرية، أو عن رغبة مسبقة للوصول إلى حكم معين ضدها أو ضد الإيمان.
https://www.theguardian.com/science/2017/jun/07/oldest-homo-sapiens-bones-ever-found-shake-foundations-of-the-human-story
Sapiens, A brief history of Human Kind, Yuval Noah Harari,p16
Sapiens, A brief history of Human Kind, Yuval Noah Harari, p 26
Language is in the genes | Max-Planck-Gesellschaft
https://www.mpg.de/10751617/simon-fisher-language-research
Languages evolve in sudden leaps, not creeps | New Scientist
https://www.newscientist.com/article/dn13267-languages-evolve-in-sudden-leaps-not-creeps/
Sapiens, A brief history of Human Kind, Yuval Noah Harari ,p 24
Why Only Us: Language and Evolution,Robert C. Berwick and Noam Chomsky,MIT press 2016
كذلك في :
The TruthAbout Language: What It Is and Where Did it Come From,Michel C Corballis,2017 University of Chicago Press. Page 30
Later Date for Out of Africa | Human Migration
https://www.livescience.com/28086-when-humans-left-africa.html
BBC News | SCI/TECH | ‘Single mutation led to language’
http://news.bbc.co.uk/2/hi/science/nature/693744.stm
Why Only Us: The language paradox | New Scientist
https://www.newscientist.com/article/2078294-why-only-us-the-language-paradox/
Genetic Adam and Eve did not live too far apart in time : Nature News & Comment
https://www.nature.com/news/genetic-adam-and-eve-did-not-live-too-far-apart-in-time-1.13478
Why Should Mitochondria Define Speacies Mark Stoeckle, Davidt Thaler Human Evolution 33(n1-2) · May 2018.
https://phe.rockefeller.edu/docs/Stoeckle_Thaler%20Human%20Evo%20V33%202018%20final.pdf
.
وقد تعامل الإعلام مع هذه الدراسة بعد أشهر من صدورها على نحو “شعبوي” حاز على جماهيرية كبيرة، حيث قيل إنها تثبت وجود آدم وحواء
كما في:
All humans may be descended from just TWO people, study suggests | Daily Mail Online
https://www.dailymail.co.uk/news/article-6424407/Every-person-spawned-single-pair-adults-living-200-000-years-ago-scientists-claim.html
واعتبرها البعض ضربة إلى الداروينية، مما دعا الباحثين واضعي الدراسة إلى إصدار بيان أضيف إلى المقالة، يوضحان فيه دعمهما لنظرية التطور واتساق دراستهما معها.
تفسير المنار / رشيد رضا /ج1 ص 230
من كتاب ” ليطمئن عقلي”