قدم د.إياد قنيبي حلقة جديدة من رحلة اليقين للرد على التطوريين” العرب ” مثل د. نضال قسوم ود. رنا الدجاني، و قد شرفني بأن ضمني لهما.
في الحلقة جهد كبير يستحق الثناء بالتأكيد..خاصة في جمع المصادر وتنسيقها..هناك كم كبير من المصادر في الحلقة، كلها من مقالات في مجلات ومواقع علمية بالإنجليزية، والمصادر تظهر على الشاشة لتؤكد للفئة المستهدفة من الحلقة حقيقتها ومصداقيتها.
ود. إياد ينسب لكل هذه المصادر كلاما على طريقة “وشهد شاهد من أهلها”. فكل هذه المراجع صادرة من مجلات ومنابر التطوريين وأقلامهم وليس من أعداء النظرية.
ومن ثم هناك ملف مرفق يضم قائمة المصادر والمراجع لمن شاء أن يتحقق.
لكن هل هناك من ( الفئة المستهدفة) من يريد التحقق مما يقوله د. إياد؟
لم التحقق أصلا؟ فد.إياد قنيبي يملك مصداقية مزدوجة، فهو يجمع بين كونه ( رجل دين) و ( حامل لدكتوراه علمية من جامعة غربية). والأمران يملكان تأثيرا على هذه الفئة المستهدفة التي تعطي لرجل الدين مكانة وهالة معينة، وفي الوقت نفسه فأن ” الدكتوراه من جامعة غربية” تزيد هذه الهالة والحصانة..فهي تعبر عن علاقتنا المعقدة بالغرب ( علاقة الحب والكراهية في آن واحد).
ثم أن هذه المصادر بلغة إنجليزية وفيها مصطلحات علمية صعبة!
لم نبذل عناء التحقق من كلام يقوله رجل بمصداقية مزدوجة، ونحن أصلا نريد أن نصدق ما يقول لأنه يتناسب مع ما نشأنا عليه؟
نعم. د. قنيبي ناجح جدا في رهانه على وعي الفئة المستهدفة، وعلى أن ” إغراقها ” بالمصادر سيحقق المطلوب تماما.
لكن هل كان النقل من المصادر دقيقا؟ أم أن بعض الجمل والمعطيات في هذه المصادر قد سقطت ( سهوا ) من د. قنيبي، وجل من لا يسهو…
وربما هناك جمل أيضا أضيفت..ربما كخطأ غير مقصود في الترجمة.
**********
يقول د. قنيبي في بداية الحلقة، وفي إشارة إلى مفاهيم التطوريين ( الإنسان الحديث ظهر أول ما ظهر في إثيوبيا، قبل حوالي 195 ألف سنة) وأشار إلى ورقة علمية نشرتها مجلة Nature في عام 2005.
وإذا رجعنا إلى ورقة مجلة Nature سنجد أنها تتحدث عن تحديد عمر أحافير وجدت في إثوبيا منذ أواخر الستينات، وكان هناك خلاف حول عمرها، والورقة تؤكد من جديد ( بعد دراسة سابقة عام 1997 ) عمر هذه الأحافير ب 195 ألف سنة. وتقول الدراسة بالحرف (earliest well-dated anatomically modern humans yet described. أقدم ما عثر عليه من ” الإنسان الحديث” حتى الآن).
https://www.nature.com/articles/nature03258
الفرق بين ” أقدم ما عثر عليه حتى الآن” وبين قول د.قنيبي ( ظهر أول ما ظهر قبل 195 ألف سنة ) أن الدراسة تقول أن ” أقدم ما عثرنا عليه أنه عاش في هذا المكان قبل 195 ألف سنة، حتى الآن) ..أما الظهور الأول في بقعة ما قبل عدد محدد من السنين فهو ما لم تشر إليه الدراسة إطلاقا، على العكس، الدراسة تشير إلى إمكانية العثور على أحافير أقدم للهوموسابيانز.
لكن الإنطباع الذي يخرج به المتلقي مما قاله د. قنيبي سيؤهله للخطوة القادمة.
يقول د. قنيبي مخاطبا التطوريين العرب ( لكنه في الحقيقة يخاطب جمهوره) : إذن أنتم تقولون أننا معاشر البشر بشكلنا الحالي كان أول ظهور لنا قبل 195 ألف سنة في أثيوبيا، أليس كذلك؟ ( انتهى كلام د. قنيبي).
لقد مرر د. قنيبي عبارة ” أول ظهور” عبر نسبها إلى ورقة مجلة Nature ( وهي منها بريئة) ووضع الصفحة خلفه وأشار بالهالة الصفراء إلى رقم 195 ألف، دون أن يشير إلى ” ظهر أول ما ظهر” لأنها غير موجودة، ثم ثبّت الأمر بمخاطبته للتطوريين وسؤالهم : أليس كذلك؟
بل لقد رد نيابة عنهم فقال: ( بلى، plus minus خمسة ألاف سنة )
هنا يلقي د. قنيبي قنبلته : طيب ماذا تفعلون بالحفرية البشرية المكتشفة عام 2017 في المغرب والتي تعود إلى 300 ألف سنة حسب تقديرات المختصين بحيث عنون لها ” حفرية حفرية مكتشفة في المغرب تعيد ترتيب عائلة الهوموسابينز؟”
ثم يسخر من “الارتباك الحاصل” ويقول أن التطوريين يقولون ” مش مشكلة نعمل stretch للخط التطوري ونقول أن الإنسان الأول ظهر قبل 300 ألف سنة” والكلام كله لد. قنيبي.
الذي حدث في هذا العرض الذي قدمه د. قنيبي أنه جعل المتلقي يتوهم أن التطوريين كانوا يعتقدون أن الهوموسابينز ” ظهر أول ما ظهر” قبل 195 ألف سنة..و”ظهر أول ما ظهر” تعني أنه لم يكن له وجود سابقا .. لذلك فأن فأن ” ظهور آخر” يحدث قبل 300 ألف سنة ” سينسف” الاعتقاد السابق.
ورغم عدم وجود مشكلة في ظهور ما ينسف معتقد علمي سابق، إلا أن الأمر هنا تحديدا مضلل تماما، حفرية اثيوبيا كانت أقدم ما عثر عليها ( حتى الآن-2005 آنذاك – بلسان مجلة nature )..ثم عثر على حفرية أقدم في المغرب تعود إلى 300 ألف سنة..لم يتعلق الأمر بتاريخ ظهور الهوموسابيانز أبدا.
https://phys.org/news/2017-06-moroccan-fossil-rearranges-homo-sapiens.html
يصور د. قنيبي الأمر كما لو أن التطوريون صدموا وحزنوا وحاولوا ترقيع ” الفتق” الي نتج عن اكتشاف المغربذ ..وفي الحقيقة لو ذهبنا إلى نفس المقال الذي اشار له لوجدنا أن ما حدث كان العكس تماما…كان الاكتشاف انتصارا وفرحة كبيرة للباحثين.. إعادة ترتيب شجرة التطور بالنسبة للعلم أمر صحي وحيوي، والمقال يتحدث عن الاكتشافات باعتبارها ” عظيمة” و”ترسم صورة مثيرة عن الفوضى التي عاش فيها العالم آنذاك”. المنقبون والفرق العلمية يبحثون عن أحافير لتسد الثغرات وتعيد رسم الشجرة التطورية. هذا هو العلم. Work in Progress دوما. والعلماء والباحثون يعتبرون أنهم ” يحققون انتصارت” بهذه الاكتشافات ونتائجها. لكن د. قنيبي عكس الأمر مرتين..مرة بحكاية ( أول ظهور) – التي كررها عدة مرات، ومرة بإيهامه أن الاكتشاف لم يرق للتطوريين.
في مصدره الثالث، عن حفرية في إسبانيا، قام د. قنيبي بالإيحاء للمتلقي أنه لا يزال يتحدث عن ” الإنسان الحديث – الهوموسابيانز” وبما أن تاريخ الحفرية يعود إلى 780 ألف سنة، فأن الإيحاء سيستمر بأن ” الارتباك” في تاريخ ” أول ظهور للهومو سابيانز”..
https://www.newscientist.com/article/mg14719912-400-first-europeans-remain-in-spain
حاول د. قنيبي الإيحاء بأن هذه الحفرية تعود للهومو سابيانز لأن ( وجه الحفرية المكتشفة كوجوهنا) –كما قال ..ثم قال :
“…بحيث أن الإنسان ظهر قبل الكائن شبه البشري الذي كان يفترض أن الإنسان تطور عنه، حتى قال مكتشف الجمجمة خوان أرسواغا أن هذا مفاجئ جدا، علينا أن نعيد النظر في تطور الإنسان ليناسب هذا الوجه، فعمره 800 ألف عام ومع ذلك فمن الواضح أنه فهو كوجوهنا” انتهى كلام د. قنيبي.
الجملة الأولى التي قالها د. قنيبي هي استنتاجه الخاص فحسب، ولم يقل به أحد، المفاجأة كانت أن شكل الجمجمة ( في الجزء الوسطي منها (mid face أقرب إلى شكل الإنسان الحديث مقارنة بالهومو هايدلبيرغ الذي عاش بعدها ( وهذا ما توضحه مقالة ايضا أدرجها الدكتور في مصادره)، وما أحدثته هذه الحفرية هي أنها أزاحت الهومو هايدلبيرغ H. Heidelberg من قائمة أسلافنا المحتملين، وصار هذا الجديد ( الهومو انتسيسور Homo antecessor ) قريب للسلف الذي أخذنا منه ” ملامحنا”.
د. قنيبي يشرح الموضوع بطريقة معكوسة، مصر على أن الملامح للجمجمة كانت ” معاصرة” وأنها أقرب ويوحي أن هناك مؤامرة وخيالات لإخفاء ” هوموسابيانز” عاش قبل 800 ألف سنة وتسميته باسم آخر…طيب لماذا نصدق ” المختصين” عندما يكون الأمر عن أحفورة المغرب ونكذبهم عندما يتحدثون عن أحفورة إسبانيا؟ ما المعيار في رفض هذا وقبول ذاك؟
لست واثقا الحقيقة أنه يصدق بأحفورة المغرب لأنه فجأة في هذا المقطع أخذ يقول الـ ( 300 ألف سنة المزعومة) ، سمعنا منه عن ” التطور المزعوم” و” النوع المزعوم” ونتفهم هذا في سياق موقفه العام، لكنه هنا يرفض حتى الرقم الذي هو نتاج لتحليلات مخبرية لا يشترط أن تصدق بالتطور لتقبل بها..
“ولا زالت الحيرة في تفسيره قائمة- يقصد الملامح-فمن شهور قليلة نشرت مجلة نيتشر دراسة تعيد التأكيد على أن وجوه هومو انتسسر هو كوجوهنا، وتكلمت مجلة ساينس عن الحيرة في وضعه في تسلسله التطوري”.
دراسة مجلة نيتشر الحديثة استخدمت تقنية حديثة ” تحليل البروتين” لفحص طبقة المينا في أسنان تعود للهومو انتيسسر وتقارنها بنفس الطبقة للهومو إريكتس، وتكشف الدراسة عبر هذا التحليل أن الهومو انتسسر أقرب لنا من الهومو إريكتس، وهنا تأتي جملة ” This placement implies that the modern-like face of H. Antecessor—that is, similar to that of modern humans—may have a considerably deep ancestry in the genus Homo أي يشير هذا الموضع إلى أن الوجه شبه الحديث لـ H. antecessor – أي مشابه لوجه الإنسان الحديث – قد يكون له أصل عميق إلى حد كبير في جنس الإنسان )..الشبه جاء من جنس الـ Homo الذي ننتمي له، والإشارة جاءت ضمنا ولا تعبر عن حيرة بالملامح وتفسير أصولها.https://www.nature.com/articles/s41586-020-2153-8?proof=trueMay أما مجلة ساينس التي قال الدكتور إنها تكلمت عن الحيرة في وضعه في تسلسله التطوري فقد كانت تتحدث عن نفس دراسة الأسنان السابقة، وكانت تقول في عنوانها الرئيسي ” الرجل الغامض يجد مكانه في شجرة العائلة” أي أنها كانت تتكلم عن انتهاء الحيرة وليس عن الحيرة! https://www.sciencemag.org/news/2020/04/mysterious-human-ancestor-finds-its-place-our-family-tree لماذا تأخر انتهاء الحيرة كل هذا الوقت؟ لأن التقنيات السابقة لم تكن صالحة لهذا التحليل على أحفورة بهذا العمر، ولأن تقنية تحليل البروتين حديثة..ولأن العلم بطبيعته work in progressكان هذا تدقيقا على أول 4 دقائق فقط من حلقة د.قنيبي.ولنا عودة إن شاء الله.
من اسبانيا نذهب إلى كينيا..تحديدا إلى رجل كينيا مسطح الوجه.
أحفورة ” رجل كينيا مسطح الوجه” عثر عليها عام 1998 وفي عام 2001 نشرت الدراسة التي حددت عمر الأحفورة ب 3.5 مليون سنة.
ينقل د.قنيبي عن مجلة Nature ” الشعور بالصدمة الشديدة” وأن ” التاريخ التطوري معقد وغير واضح المعالم انه يبدو اليوم على شفا الإلقاء في مزيد من الارتباك بسبب اكتشاف نوع جديد يعود ل 3.5 مليون سنة”. انتهى كلام د. قنيبي ..لم تستعمل المجلة كلمة “صدمة شديدة” ..باقي النقل من المقدمة صحيح.
لكن تتمة المقال تشرح ما المقصود بهذه المقدمة..
يكمل المقال :
(حتى سنوات قليلة ماضية ، كان يُعتقد أن التاريخ التطوري لجنسنا البشري واضح بشكل معقول. فقط ثلاث مجموعات متنوعة من أشباه البشر – الأنواع أقرب إلى البشر من الشمبانزي)
الكلام منشور سنة 2001 ، وحتى سنوات قليلة ماضية كانت تعني أوائل التسعينات..الفترة التي تم تحديد وجود ثلاث أنواع من اشباه البشر ..ثلاثة أنواع ” شبه بشرية ” في فترة 2- 3 ملايين سنة.
ثم يكمل المقال :
ولكن في الآونة الأخيرة ، بُذِر الارتباك في شجرة التطور البشري. أظهر اكتشاف ثلاثة أنواع جديدة من أشباه البشر في كينيا وإثيوبيا وتشاد ، على التوالي – أن الجنس شبه البشري أكثر تنوعًا وانتشارًا مما كان يُعتقد.
المقال هنا ، عندما يقول ” في الآونة الأخيرة” وهو منشور في 2001 ، فأنه يتحدث عن اكتشافين حدثا في 1995 وآخر حدث في عام 1999…ثلاثة أنواع أضيفت إلى الأنواع الثلاثة التي عرفت سابقا…بالتأكيد هذا يكشف أن الجنس شبه البشري أكثر تنوعا وانتشارا مما كان يعتقد..
وعندما نصل إلى ” رجل كينيا مسطح الوجه ” – 2001 – يقول المقال :
(يبدو أن الارتباك (والمتعة) سيستمر في الزيادة أكثر. حيث كشف فريق ليكي البحثي عن ما أكدوا أنه جنس وأنواع جديدة من أشباه البشر الأوائل ،Kenyanthropus platyops كينيانثروبوس بلاتوبس ..)
جنس رابع يضاف خلال أعوام قليلة..ارتباك ومتعة أيضا.. كما سيحدث مع أي كشف جديد يضيف معطيات جديدة..
ثم يختم المقال …
(هذا الارتباك هو في جزء منه شهادة على جهود العمل الميداني المكثفة والناجحة التي ضاعفت تقريبًا عدد أنواع أشباه البشر المعترف بها على مدار الخمسة عشر عامًا الماضية. يمكننا الآن أن نقول بثقة أن تطور أشباه البشر ، مثل العديد من مجموعات الثدييات الأخرى ، حدث من خلال سلسلة من الإشعاعات ( التفرعات المعقدة) المعقدة ، حيث تتطور العديد من الأنواع الجديدة وتتنوع بسرعة. يبدو أنه منذ ما بين 3.5 و 2 مليون سنة كان هناك العديد من الأنواع الشبيهة بالبشر ، والتي تكيفت جيدًا مع الحياة في بيئات مختلفة ، على الرغم من أنها كانت بطرق لم نفهمها بالكامل بعد. لكن هذه الإشعاعات تجلب معها صداعًا منهجيًا ، لأنها تجعل من الصعب تحديد مكان ملائمة الأنواع الجديدة باستخدام المعلومات القياسية من أحافير الجمجمة والأسنان. سيكون التحدي في العقد القادم لعلماء الأحياء الهيكلية وعلماء الأحافير وعلماء الأحياء الجزيئية للعمل معًا لابتكار طرق تحليلية جديدة يمكن من خلالها إثارة إشارات جديرة بالثقة من هذه البيانات. أعتقد أنه سيمر وقت طويل قبل أن نتمكن بثقة من تحديد موقع Kenyanthropus platyops في شجرة التطور البشري…)
هذه هي خاتمة المقال..نجاح لجهود العمل الميداني الذي ضاعف عدد أنواع أشباه البشر خلال عقد عام..وقد رأينا ذلك عبر مراجع المقال بدأنا ب 3 أنواع في 1991 و انتهينا بأكثر من سبعة أنواع في 2001 .
https://www.nature.com/articles/35068648
المقال يقول بثقة ( عام 2001 ) أن شجرة التطور البشري فيها الكثير من الإشعاعات والتفرعات..الثقة تأتي من هذه الدراسات التي تراكمت لتوضح هذه النتيجة…لكن كل هذا لا يخلو بالتأكيد من ” الصداع المنهجي”…البحث العلمي واقعي، ولا يجعل لك من ” البحر طحينة”..هناك جهود وصداع وارتباك، ولكن هناك أيضا نتائج ومتعة وحقائق جديدة ..
بل أن كاتب المقال يقول شيئا مثيرا للغاية عن ” رجل كينيا مسطح الوجه”: أظن أن الدور الرئيسي لـ K. platyops في السنوات القليلة المقبلة سيكون ” إفساد الحفلة party spolier ” والكشف عن الألغاز المربكة في البحث في العلاقات التطورية بين أشباه البشر. الباحثون لديهم حفلة، مثل حفلة مفاجئة، وهذا الاكتشاف يفسدها بالكشف المبكر عنها!
لكن د. قنيبي لا يقول هذا كله..بل يختصره بعبارة لم ترد في المقال ( صدمة شديدة)..وعبارات ارتباك وتعقيد..
**************
مع مقال مجلة ساينس عن نفس الأحفورة هناك الشيء ذاته تقريبا..
https://science.sciencemag.org/content/291/5512/2289.full
ينقل د. قنيبي عن المجلة في مقدمة المقال ” أن الاكتشاف يهز شجرة التطور البشري من جذورها”. المقدمة خلفه والتلوين الأصفر يلون السطر ونصف الأول وينتهي عند هذه العبارة.
لكن التتمة موضحة : الاكتشاف الجديد يوضح أن الشجرة كثيرة التفرعات bushy tree بدأت بالتفرع بوقت أبكر مما كان يعتقد سابقا.
هز الشجرة من جذورها لم يكن لأنها ستقطع أو لأنها تسقط، بل لأن جذورا جديدة تضاف لها..ربما تقويها..أو على الأقل تقوي معرفتنا بها..
ثم يقول د. قنيبي نقلا عن مقال آخر في مجلة ساينس …
Experts are unanimous that the find will complicate efforts to trace the convoluted course of human evolution.
د. قنيبي ترجمها بما يلي :” الخبراء مجمعون على أن هذه الحفرية سوف تعقد الجهود لتتبع المسار الملتوي لتطور الجنس البشري….”
لكن كلمة complicate في هذا السياق لا تعني ” تعقيد” بالضرورة بل قد تعني ” تتظافر ، تجتمع ” أي أنها هنا to combine especially in an involved or inextricable manner كما في معجم مريام ويبستر عن الكلمة، وفي قاموس أوكسفورد كخيار أول.
هذه الجملة تتوسط جملة سابقة وأخرى لاحقة.. الجملة السابقة هي ثناء على الفريق البحثي الذي امتلك الشجاعة لتمييز التنوع الموجود في السجل الأحفوري لأشباه البشر.
أما الجملة اللاحقة فهي: هذه المهمة مثيرة للعقل بشكل خاص mind bending لأنه ، منذ حوالي 3 ملايين سنة ، بدأت أنواع البشر في الظهور مثل الزهور البرية في جميع أنحاء إفريقيا لكن في الفترة ما بين 3 ملايين و 4 ملايين سنة ، بدت الأمور بسيطة نسبيًا…إلى أن جاءت الاكتشافات الحديثة
https://science.sciencemag.org/content/291/5512/2289.full
لكن د. قنيبي يترك التتمة ويركز على كلمة ” الخبراء مجمعون على أن هذه الحفرية..إلخ” فيقول نصا :
مجمعون؟ بينما مروجو نظرية التطور العرب يوهم كلامهم أن الخبراء مجمعون على تسلسل واضح لتطور الإنسان…
لا أعرف من مروجي نظرية التطور العرب من يفعل ذلك. لكن لا مشكلة..
بعدها ينتقل د. قنيبي من أحفورة رجل كينيا المسطح الوجه إلى أحفورة ” توماي” ويقدم لها بهذه المقدمة:
لم يستفق الداروينيون من هذا الكف عام 2001 حتى جاءت صفعة أخرى عام 2002 ” انتهى كلام د. قنيبي..بالحرف
كف 2001 وصفعة أخرى عام 2002؟
الداروينيون لديهم حفلة بهذه الاكتشافات..يعتبرونها انتصارات، ويتحدثون عن أن الاكتشاف الفلاني أفسد حفلة العام القادم..ود.قنيبي يوحي لنا أنهم نصبوا سرادقا للعزاء، وأن النظرية سقطت وأصبحت أثرا بعد عين.
ماذا عن توماي؟
جمجة عثر عليها في تشاد عام 2002، قدر عمرها بـ 6 – 7 مليون سنة.
قال د.قنيبي عن خصائص توماي “لا تناسب هذه المرحلة الزمنية حسب الخط التطوري المزعوم فقربها من الجماجم البشرية يجعل من المفترض أنها ظهرت متأخرة نسبية، فإذا قبلوا بأن عمرها 6 -7 مليون سنة فلن يمكن القبول بأن العديد من الأنواع المتأخرة بعد توماي أسلافا للبشر وتنتمي لنفس السلالة التطورية لأن هذه الأنواع أقل شبها من الجمجمة البشرية المعاصرة من توماي، يعني ما ينفعش يكون الجنس الأقدم يكون أقرب للإنسان من الجنس الوسيط ” انتهى كلام د.قنيبي.
د. قنيبي يصور الأمر كما لو أن توماي كان وسيما يصلح لدور البطولة في فيلم رومانسي ثم من جاء بعده كائن “شبه بشري” …لكن الواقع أن المقال يتحدث عن خصائص دقيقة جدا ( حجم الأنياب، طبقة المينا في الأسنان، ومنطقة ارتباط عضلات الرقبة بالجمجمة) وهي ” متقدمة” عند توماي مقارنة بنوع واحد فقط هو Australopithecus ( الذي عاش قبل 4 ملايين سنة).
والجواب عن هذا الأمر موجود في نفس المقال : المظاهر دليل سيئ لمعرفة العلاقات التطورية. ربما أنواع من أشباه البشر والقردة أخذوا وخلطوا mixed and matched من نفس المجموعة من الصفات ، كما أن نفس السمات يمكن أن تتطور بشكل مستقل في سلالات مختلفة. ثم ينقل د. قنيبي من المقال ” جمجمة توماي هي رأس قمة هذا الجبل الجليدي الذي قد يغرق لنا أفكارنا الحالية عن تطور الإنسان”.انتهى كلام د. قنيبيوصف مخيف ؟لكن هناك تتمة لجملة رأس قمة جبل الجليد ، حيث تقول العبارة الكاملة: أي شخص لا يعتقد أن الأمور ( فيما يخص الاكتشافات) ستزداد تعقيدا، لا يتعلم من التاريخ”.ما معنى ذلك؟” قمة راس جبل الجليد” كلمة تستعمل للتحذير، هناك المزيد قادم. لو تجاهلنا هذا القادم وتحذيراته، فسنصبح مثل تيتانيك، سنغرق.بعبارة أخرى، ” حفرية توماي” تقول ( للباحثين في مجال نظرية التطور) أن هناك المزيد قادم من الحفريات، وأن الجميع عليه أن يكون مستعدا لنتائج هذه الحفريات.بعدها ينقل د.قنيبي عن خبير الانثروبولوجي برنارد وود ( وهو الذي تحدث عن قمة جبل الجليد أيضا ) : “عندما دخلت كلية الطب عام 1963 …كان تطور الإنسان يظهر كالسلم. يعقب المقال : الآن يظهر التطور كشجرة متفرعة”
سأقف هنا عند ما قاله برنارد وود، إذ أنه قال شيئا مشابها نشر في مقال قبل عام واحد من هذا المقال، وهو مقال أيضا من مقالات –مصادر د.قنيبي، وكان الحديث عن ” رجل كينيا مسطح الوجه”.
قال وود: أولئك الذين كانوا يقترحون أن التطور البشري يشبه الشجرة المتفرعة أكثر من كونه سلمًا ، ربما لم يكونوا بعيدين عن الواقع”.
https://science.sciencemag.org/content/291/5512/2289.full
إذن كان هناك من يقترح، قبل عام 2001، أن التطور البشري مثل شجرة متفرعة، وبالتدريج بدأت نظرتهم هذه تتأكد وتتضح.
لماذا ذكر وود هذا ؟ لأنه قال في نفس مقال توماي : بالنسبة لتوماي، نحن الآن في عام 1963 ..أي أن معرفتنا به قليلة.
لكن ماذا حدث بالضبط بين 1963 و 2001 ؟
وما الذي حدث بعدها أكثر وأكثر؟
ببساطة المزيد من الأحافير المكتشفة.
لو ألقينا نظرة على الخط الزمني للاكتشافات المهمة فيما يتعلق بالتطور الإنساني سنرى ما يلي
1840-إلى أواخر الخمسينات من القرن التاسع عشر كان هناك اكتشافان فقط
1860-إلى أواخر التسعينات من نفس القرن ثلاث اكتشافات
1900-إلى أواخر العشرينات من القرن العشرين 4 اكتشافات
1930- إلى أواخر الستينات – 3 اكتشافات
1970-إلى أواخر الثمانينات – 4 اكتشافات
1990 إلى الوقت الحالي – أكثر من 18 اكتشاف..تقريبا في كل سنة هناك اكتشاف مهم.
https://australian.museum/learn/science/human-evolution/a-timeline-of-fossil-discoveries/
وهذا طبعا يقود إلى حدوث تغيير بناء على هذه المكتشفات الحديثة..ما فائدة هذه الاكتشافات وما أهميتها إذا لم تحدث تغييرا في الصورة التطورية؟
لكن لماذا زادت هذه الأحافير في هذه الفترة؟ هل الأمر مؤامرة من مافيا التطور العالمية التي تصنع أحافير مزورة وتضعها في طبقات الأرض.
لا..ما حدث مع الأحافير هو نفسه ما حدث معنا جميعا في هذه الفترة..حواسيب، تكنولوجيا، هواتف ذكية..GPS…
هناك اليوم تطبيقات على الهواتف تساعد في البحث عن الأحافير..
أي أن التنقيب لم يعد كما كان قبل عقود، بل أصبح أيسر وأسرع ..ونتائج ذلك كانت واضحة للغاية.
الغريب مع مناوئي التطور أن لديهم موقفا مزدوجا من ” الأحافير”..
فهم ما فتئوا يطالبون بأحفورة انتقالية واحدة…واحدة فقط..ويقولونها بتحدي الواثق من عدم وجودها..
وعندما تتراكم هذه الأحافير..يقولون: ما هذه الفوضى؟!
*********
كان هذا وصولا إلى الدقيقة السادسة وأربعين ثانية من حلقة د.قنيبي.
ولنا عودة إن شاء الله.
ينقل د. قنيبي عن مجلة نيتشر في مقالها عن جمجمة (توماي) ما يلي:
“ما العلاقة بين هذه الأحافير؟ وأي منها سلف للإنسان – إن كان أي منها أصلا سلفا للإنسان، كل هذا لا يزال محل خلاف”، ثم يعلق : لاحظ مرة أخرى، هذا من مقال مجلة نيتشر، إحدى أشهر المجلات العالمية، وهي أكثرها دعما لخرافة التطور” ثم يعود فيكرر ما كتب فيها: ما العلاقة بين هذه الأحافير؟ وأي منها سلف للإنسان – إن كان أي منها أصلا سلفا للإنسان، كل هذا لا يزال محل خلاف.” انتهى هنا كلام د. قنيبي.
د. قنيبي كرر هذه الجملة التي يرى أنها تعبر عن الشك والحيرة وأكد مكانة مجلة نيتشر في دعم التطور ليؤكد على “ضعف وتهافت خرافة التطور”.
يحتاج الأمر إلى وقفة: هذا مقال عن جمجمة توماي. عمرها 6 -7 ملايين سنة. وهي الجمجمة الوحيدة التي عثر عليها من هذا النوع ( حتى الآن، والمقال عام 2002)..
لو أن باحثي مجلة نيتشر قد حسموا أمر توماي وقرروا بثقة موضعه من أصل السلالة البشرية، لقال د. قنيبي : ما هذا ؟ كيف يقررون هذا من جمجمة واحدة؟ كل شيء وأي شيء من أجل دعم خرافة التطور!
لكن فرق البحث العلمية لا تفعل ذلك، لا تندفع نحو نتائج دون تحقق أو تدقق أو البحث عن المزيد من الأدلة الداعمة أو الناقضة، وخلال ذلك فكل شيء يكون محل “خلاف”. هذا هي طبيعة العلم work in progress.
د. قنيبي يعترض هنا ويقول: ارتباك وحيرة وخلاف؟ هذا دليل إضافي على الخرافة.
مهما قال الباحثون سيكون الجواب واحدا: الاعتراض. خرافة.
ذلك أننا حددنا أصلا ما نريد قبل أن نطلع على ما قالوا.
*****
وقفة أخرى بخصوص ما قاله عن مصدر الكلام : مجلة نيتشر التي هي ” أكثر المجلات دعما للخرافة حسب قوله”.
لماذا تقوم مجلة ” داعمة للخرافة” بنشر ما يمكن أن يفضح هذه الخرافة أو يضعفها؟ هي تدعم الخرافة…فلماذا تتورط في شيء كهذا؟
هل نشرت هذه الأمور سهوا؟ أو لعل ذلك لإضفاء مصداقية مزيفة؟
أو ربما هو مجرد خلاف بين أخوة المنهج؟
أم لعل كل ذلك هو العلم في وضعه الاعتيادي..work in progress؟
****
شيء آخر بخصوص استخدام مراجع ومصادر لا تؤمن بمرجعيتها أو أهليتها، خصوصا إذا كنت تريد نسف ” مرجعيتها”..
لا يمكنك ” نسف خرافة بابا نويل” باستخدام كتاب قصص للأطفال فيه رواية بابا نويل ( ولن تحتاج إلى 60 حلقة لأجل ذلك بكل الأحوال).
ماذا عن ” من فمك أدينك “؟
هناك في تصوري حدود واضحة لأسلوب ” من فمك أدينك”، عند تعدي هذه الحدود يصبح الأمر غريبا وقد يعكس ازدواجية في النظرة لهذه المصادر ومرجعيتها.
حدود استخدام هذا الأسلوب تنتهي –في تصوري- عند بيان التناقض.
تأخذ من تصريحات سياسي معين أقوالا معينة، ثم تقارنها بأقوال أخرى له، وتبين حجم التناقض، ثم تقول من فمك أدينك.
أما إذا قضيت الأمر اقتباسات منه دون أن أن تشير إلى تناقض واحد، فأنت عمليا تقوي مرجعيته. أو على الأقل تعكس ارتباكا في تعاملك معه.
على سبيل المثال- وهو مثال حقيقي- أولئك الذين لا يتركون فرصة يطعنون فيها في صحيح البخاري لا يحق لهم اسكاتنا بحديث في صحيح البخاري!
وأنا لا أرى ان أستخدام د.قنيبي لمحلة نيتشر وساينس كان ضمن حدود ” من فمك أدينك”… كل ما أراه هو اقتباسات متناسقة مع بعضها وتدعم بعضها بعضا.
د.قنيبي يقول أن هذه الاقتباسات ” تناقض” ما يقوله التطوريون العرب.
هل مشكلته مع “التطوريين” أم مع “التطوريين العرب” فقط؟
حتى مع ” التطوريين العرب” لا نرى حتى الآن تناقضا بين ما ينقله د.قنيبي من المجلات العلمية الغربية، وبين قول محدد منسوب لهم، اللهم إلا صورة ” طابور التطور” التي وضعها د. قسوم ود. عدنان إبراهيم في خلفية حلقة لكل منهما، ود.قنيبي يعد الصورة دليلا على أن ” معلوماتهما لم تحدث منذ عام 1963″، رغم أن وجود الصورة كخلفية لا يمكن أن يعد دليلا على شيء في تصوري، وربما كانت الصورة من وضع العاملين في فريق العمل دون الرجوع إلى أي من الدكتورين.
شخصيا لم أستخدم الصورة سابقا لأن مجرد استخدامها يثير الحساسية لأسباب مفهومة، ولأن تصوري للتطور هو أقرب إلى ” تظاهرة مليونية يتقدمها الإنسان الحديث” منها إلى “طابور منظم”.
ثم ينتقل بعدها د. قنيبي إلى مقال يقول أن نشر في مجلة نيتشر عام 2005 وينقل عنه أن ” مؤخرا بذر الارتباك في شجرة التطور” لكن الحقيقة أن هذا المقال نشر عام 2001 و كان يتحدث عن اكتشافات 1995 و 1999 و بعدها رجل كينيا مسطح الوجه، وقد استخدمه الدكتور أيضا في هذا السياق..نفس المقال الذي تحدث عن الارتباك والمتعة في الاكتشاف.
بعدها يتحدث د.قنيبي نقلا عن مجلة نيتشر عن أحفورة لبقايا عظام يد عثر عليها في تنزانيا فيقول أنها ” تشبه عظام يد الإنسان الحديث وزادتهم ارتباكا إذ قدر عمرها ب أكثر من 1.84 مليون سنة “
https://www.nature.com/articles/ncomms8987
في الحقيقة لا ارتباك هناك ولا يحزنون، بالعكس، ساعدتهم هذه الأحفورة في فهم السر وراء وجود بعض الأدوات البدائية المصنوعة في نفس الفترة غير بعيد عن موقع العثور على اليد، وإذا كانت هذه اليد ومواصفاتها متقدمة على الاسترالوبيثكس Australopithecus وسلالاتهم اللاحقة، فهذا يتسق مع وجود سلالات شبه بشرية أخرى في نفس الفترة، مثل Homo ergaster
يكمل د. قنيبي ” وفي نفس العام 2015 اكتشفت أحفورة في إثيوبيا بخصائص لا تناسب الخط التطوري المزعوم “.
المقال الذي ظهر خلفه على الشاشة وأيضا في قائمة المصادر لا علاقة له بما تحدث عنه ، المقال يتحدث عن إعادة تركيب ” رقمي digital” لأحفورة عثر عليها في تنزانيا عام 1964 ومقارنتها بالأحفورة الأصلية.
https://www.nature.com/articles/nature14224
لكن د. قنيبي يتحدث بالفعل عن أحفورة عثر عليها في أثيوبيا عام 2015 ونشر عنها في مجلة ساينس
https://science.sciencemag.org/content/347/6228/1352
هذه الأحفورة التي قال عنها د. قنيبي ” بخصائص لا تناسب الخط التطوري المزعوم” في الحقيقة حلت لغزا، والعنوان الذي أشار إلى الخبر ( وموجود أيضا ضمن مصادر د. قنيبي) يقول: حفرية فك في إثيوبيا تعثر على “الحلقة المفقودة” في أحجية التطور البشري.
Fossil jaw found in Ethiopia a missing link in the human evolution puzzle
ويقول الخبر أن هذه الأحفورة التي يعود عمرها إلى 2.8 مليون سنة، يمكنها أن ” تغلق فجوة في السجل الأحفوري حيرت العلماء لخمسين عاما”. خصائص الأحفورة “وسطية” وتناسب ” الخط التطوري المزعوم” وأهميتها في توضيح الصفات الانتقالية في شكل الفك والأسنان في فترة ” قليلة الأحافير”.
لكن د.قنيبي أكمل حديثه عن هذه الحفرية بهذه الجملة : ..وعلق عليها بروفيسور الانثروبولوجي كولن غروفز قائلا: لا نعلم كم نوعا تواجد( يعني من أسلاف الإنسان المزعومة) ولا نعلم أيها يتبع لأيها..وقال عن هذه الأحفورة really upsets the applecart يعني كأن عربة التفاح قلبت رأسا على عقب. ) انتهى كلام د. قنيبي.
هنا ارتكب د.قنيبي خطأ كبيرا للغاية، وعدم تنبيهه عليه من قبل جمهوره يدل على ما قلته سابقا عن ثقة د.قنيبي بوعي “الفئة المستهدفة”.
كلام البروفيسور غروفز لم يكن عن الأحفورة المكتشفة حديثا في إثيوبيا على الإطلاق.
بل كان عن الدراسة الأخرى التي ظهرت بالخطأ خلف د.قنيبي والتي أعادت تركيب أحفورة أخرى رقميا وقارنت مع الأصل المكتشف سابقا.
كيف حدث هذا الخطأ الكبير ؟
العثور على الأحفورة تزامن ( في نفس الشهر) مع نشر نتائج دراسة ” إعادة التركيب الرقمي” لذلك عندما نشرت وكالة ABC خبر ” اكتشاف الأحفورة الجديدة” تطرقت أيضا إلى نتائج دراسة إعادة التركيب، ونقلت تعليق البروفيسور غروفز عليها، الذي قال أن هذه الدراسة ” قلبت عربة التفاح”.
ولأن هناك من يبحث فقط عن أي عبارة يمكن أن تفهم بشكل سلبي، فقد خيل له أن العبارة تخص ” الأحفورة وخصائصها” -بينما الأحفورة الإثيوبية بريئة من نتائج الدراسة التنزانية- وقرر أن يستخدمها عن الأحفورة ونضعها أمام الجمهور لنؤكد له مرة أخرى أن التطور مجرد خرافة قلبت عربة التفاح…أو أن الدراسة الجديد قد قلبت عربة تفاح خرافة التطور..أي شيء..
كل ما قاله غروفز كان عن فريق الباحث سبور Fed Spoorوتجربة تقنية جديدة في تركيب الأحافير، وليس عن الأحفورة الجديدة.
يكمل د. قنيبي بعد أن قلب عربة التفاح.. ” طب مش يمكن الصورة اتضحت في السنتين ثلاثة الأخيرات؟ لا. بل اكتشف العديد من الاكتشافات المربكة حتى علق المحرر العلمي ل بي بي سي بول رنكون في المقال المنشور من شهور في 2 / 4 / 2020 قائلا : في وقت ما كنا نتصور أن تطور البشر يسير في شكل خطي…حيث يظهر الإنسان الحديث في نهاية الخط باعتباره ذروة التقدم والتطور لكن أينما ننظر الآن نرى بشكل متزايد أن الصورة الحقيقية كانت اكثر فوضوية من هذا بكثير much messier “
تقرير البي بي سي تحدث عن 3 دراسات نشرت في ظرف أسبوع واحد، الأولى أثبتت ( بثلاث تقنيات حديثة) عمر أحفورة هومو اريكتوس عثر عليها للمرة في جنوب إفريقيا، والثانية حددت بتقنية جديدة عمر أحفورة عثر عليها في 1921 واثبت أن عمرها متناسب مع الخط التطوري، والثالثة مقارنة للبروتين في أحافير تابعة للهومو اريكتوس ( عثر عليها في جورجيا) مع الهومو انسستر ( التي عثر عليها في إسبانيا) ..أهمية تحليل البروتين أنه يعوض عن عدم إمكانية تحليل الـ DNA بسبب تحلل الجزيئات، خلصت الدراسة إلى أن الهومو انتسسر ينتمي إلى close sister lineage خط تطوري شقيق من السلالة البشرية.
” أكثر فوضوية مما كنا نعتقده في وقت ما؟”
بالضبط. طابور التطور لم يعد له وجود..والفضل للتطور في الدراسات واكتشاف الأحافير..الصورة أصبحت مزدحمة..ولكن أوضح..
Work in progress
أكملنا الدقيقة التاسعة، ولنا عودة إن شاء الله.
***
يفتتح د. قنيبي الدقيقة التاسعة من حلقته بهذه الجملة التي تحتاج إلى عدة وقفات :
” كان محسوما لدى الداروينيين ولفترة طويلة من الزمن أن الإنسان الأول ظهر في إثيوبيا ورسموا قصة خروج سلالته وانتقالها لأنحاء أخرى في العالم..لكن هذا الحسم تبعثر تماما بهذه الاكتشافات التي ظهرت في المغرب وكينيا وتشاد وتنزانيا- قالوا إذن لنقل أن أصل الإنسان في أفريقيا بشكل عام فهذه الدول كلها في أفريقيا ” انتهى هنا كلام د. قنيبي.
مرة أخرى يعود د. قنيبي لقصة ( ظهور أول إنسان في إثيوبيا) التي نسبها لمقال في نيتشر في بداية الحلقة والتي وضحنا أنه ربما هناك خطأ غير مقصود في الترجمة حول المعنى تماما ( من “أقدم أحافير عثر عليها حتى الآن” إلى ” ظهر الإنسان الحديث أول ما ظهر” )….عدا قصة ” أول ظهور” فكلمة ” حسم” نادرة الاستخدام في الأمور العلمية ، الحسم لا يكون في أمور لا تزال عرضة للبحث والاكتشافات والتدقيق والتحليل، ولو كان الأمر ” محسوما” كما قال لما استمر الداروينيون بالبحث والتنقيب أصلا.
لكن هذا كله تمهيد لجملة تالية..
” لكن هذا الحسم تبعثر تماما بهذه الاكتشافات التي ظهرت في المغرب وكينيا وتشاد وتنزانيا …”
د, قنيبي مرر الأمر كمسلمة..الإنسان الأول في أثيوبيا …ثم الاكتشافات تبعثر المسلمة الأولى…المغرب وكينيا وتشاد وتنزانيا..
المتلقي هنا سيتعامل مع الأمر كما لو أن الاكتشافات وجدت ” الإنسان الأول” –الذي كان في إثيوبيا فقط- وجدته في المغرب وكينيا وتشاد وتنزانيا..
بالنسبة للمغرب صحيح..هنا ” هومو سابيانز”…مثل الذي في أثيوبيا..لكن كل الاكتشافات الأخرى التي أشار إليها كانت لأنواع أشباه بشرية، ولا تخص الهوموسابيانز على الإطلاق. لكنها مرت هنا للأسف كما لو أنها تخص نفس النوع..
ثم يكمل :
” في إفريقيا ؟ ماذا تقولون عن هذه الأحافير في الصين التي نشر عنها في 2017 وقالت عنها new scientist : أحافير غريبة من الصين تظهر أصولا آسيوية لنوعنا الإنساني وتعيد كتابة قصة تطور الإنسان. الصين؟ مش مشكلة . صحيح مش نفس القارة لكن من نفس الكوكب على الأقل” انتهى كلام د. قنيبي.
مقال الصين يستعرض تاريخ دراسة الأحافير في الصين …ففي بداية القرن العشرين كانت كل الأنظار تتجه إلى آسيا عموما والصين تحديدا باعتبارها المكان الذي قدم أحافير مهمة تاريخيا في سياقها، من ضمن هذه الأحافير أحفورة Peking man عام 1923.
بقي الأمر كذلك حتى الخمسينات، ثم حدثت اكتشافات أكثر أهمية في إفريقيا جعلت أنظار الباحثين تتجه لها، إلى أن أصبحت ” سردية الخروج من إفريقيا out of Africa exodus ” هي السائدة. وسردية الخروج من إفريقيا هي الرؤية التي تقول أن الإنسان العاقل الأول الهوموسابيانز انتشر من إفريقيا إلى كل العالم.
من المعلوم تماما- عبر أحافير كثيرة- أن أنواع شبه بشرية كانت قد انتشرت قبل ” الخروج من إفريقيا ” بوقت طويل..حيث أن هناك أحافير كثيرة للهومو إريكتس في أوروبا وأسيا..ولم يعترض أحد على وجود أنواع أخرى شبه بشرية في القارتين لكنها كانت تعد ” قد توقفت تطوريا evolutionary dead ends “.
عام 2009 اكتشف العلماء الصينيون فك يعود إلى 110 ألف سنة في منطقة Guangix، وقدروا أنه يعود إلى الهوموسابينز. لو صحت هذه التقديرات فهذا يعني أن الخروج من أفريقيا حدث قبل ما كان يعتقد من قبل.
في 2015 أكتشف 47 سنا في منطقة Daoxian ، تعود إلى الهومو سابيانز، وعمرها بين80.000, و 120.000 الف سنة، وهذا يقوي الاعتقاد بأن الخروج من أفريقيا حدث في وقت أبكر مما كان يعتقد..
لكن بعض الباحثين الصينين يحاولون الدفع بأن هناك هوموسابينز صيني تطور بمعزل عن الهوموسابين الإفريقي، وهو ما ينظر له البعض بعين الريبة بدوافع ” وطنية – صينية”، والصحيح أن دراسة الجينات عند الصينيين اليوم تثبت أن 97% من جيناتهم من إفريقيا.
خلاصة المقال في خاتمته:” الحقيقة أن قصة التطور لا تزال تكتب ويعاد كتابتها ولا نعرف كيف ستنتهي، المؤكد أن آسيا لا يمكن أن تتجاهل بعد الآن، من المحتمل أن الأنواع التي انحدرنا منها قد هاجرت إلى أفريقيا قبل أن تتطور لتكون الهوموسابيانز، ثم غادرت أفريقيا مرة أخرى كهوموسابيانز قبل حوالي 100 ألف سنة وذهبوا إلى أوراسيا وانتشروا فيها خلال ألف سنة” . انتهى المقال.
افتتاحية المقال وعنوانه الرئيسي توحي بأن هناك ” سر خطير” قد يطيح بفكرتنا عن التطور الإنساني، وهو ما حرص د. قنيبي على تقديمه، بينما كل ما يقوله المقال هو أنه ربما الهوموسابينز خرج من إفريقيا قبل الوقت المقترح سابقا.
ثم يكمل د. قنيبي : وهذا مقال منشور منذ شهور في 2020 تحت عنوان ( اكتشافات حديثة تعمل إصلاحات رئيسية لتصورنا عن من أين جاء البشر ومتى) ويقول أنه مع الاكتشافات الحديثة فأنه الكثير من افكارنا السابقة عن من نحن ومن اين أتينا…ظهر أنها خطأ”. انتهى كلام د.قنيبي.
رغم أنه من الطبيعي جدا، بل من الصحي جدا أن تعمل الاكتشافات الحديثة على تقديم “إصلاحات رئيسية” – فهذا علم، يتطور باكتشافات متراكمة تؤدي إلى إصلاحات رئيسية- أي أن الأمر في تصوري نقطة لصالح المشتغلين في الأبحاث المرتبطة بنظرية التطور، إلا أن هذا المقال تحديدا يتطلب توضيحا.
المقال برابط د.قنيبي هو من موقع science alert ، لكن هناك توضيح في نهايته بأنه نشر أولا في موقع
Business insider، وهذا طبعا لا يقدح في مصداقية المقال، لكنه طبعا موجه لجمهور مختلف، لذا فالمقال عندما يتحدث عن ” اكتشافات حديثة” فهو يتحدث عن “اكتشافات حدثت خلال العقد الماضي ” التي ربما لم يكن القارئ العادي مهتما بها، أي أنه يقدم خلاصة ما حدث من اكتشافات ويركز فعلا على الخروج المبكر من أفريقيا ..ومرة أخرى: الإصلاحات الرئيسية في العلم أمر إيجابي للغاية..والتنقية المستمرة للأفكار أمر حتمي في كل مجال علمي.
ثم يقول د. قنيبي “..هذا هو واقع السيناريوهات التطورية للإنسان، مبعثرة، غرقانة، مربكة، ملتوية، معقدة، غامضة، فوضوية، مهتزة من جذورها..”
نعم: وخلال ذلك : كاشفة، ممتعة، party spoiler ، تحل ألغازا، ناجحة، تضيف جذورا جديدة، محذرة..، الغامض يجد مكانه، تجد ” الحلقة المفقودة”…
يمكن أن لأي منا أن يجتزأ ما يشاء من العبارات أعلاه وعكسها، فكلها مستخدمة في المقالات العلمية المشار إليها …لكن الحقيقة أن طريق العلم شاق ومليء بالمصاعب والتحديات، وهو لا يمر بطرق ” معبدة سلفاً”، بل عبر طرق تحفر في الصخر وتعيد الحفر في اتجاهات أخرى إلى أن تصل إلى ” هدفها المرحلي”..
يقول د. قنيبي ” طيب ماذا يفعلون بما أن كل خط تطوري للإنسان ينهار مع كل اكتشاف جديد؟ ” انتهى سؤال د. قنيبي.
افترض د. قنيبي هنا أن كل اكتشف جديد يؤدي إلى إنهيار ” الخط التطوري للإنسان”. ثم تعامل مع هذه الفرضية كأمر مسلم به .
لكننا تابعنا كل ما حشده د. قنيبي مشكورا من ” اكتشافات” في العشر دقائق الأولى من الحلقة. منذ أن تعامل مع ” أقدم الأحافير المكتشفة حتى الآن” على أنها تعني ” أول ظهور للإنسان” وصولا إلى ” اكتشافات الصين” التي ” تقترح خروجا أبكر من أفريقيا”…
لم يحدث إنهيار لأي خط تطوري في هذه الاكتشافات، على العكس: الاكتشافات قادت إلى ” تحديثات” مستمرة تزيد الوضوح لرؤيتنا للتطور، وستكون هناك اكتشافات أخرى وأخرى تزيد وضوح الرؤية من جوانب أخرى..
يكمل د. قنيبي مجيبا على السؤال الذي طرحه
” أصبحوا يلجؤون لرسم أشجار متفرعة بحيث إذا تم اكتشاف شيء جديد فرعوا فرعا من الشجرة ووضعوا أحفورة عليه وانتهى الموضوع ويتجنبون رسم علاقة مباشرة بين كائن وكائن” انتهى كلام د.قنيبي.
ماذا يقترح د. قنيبي بدلا عن ” التشجير”؟
يجد الباحثون أحفورة بصفات خاصة، تشبه ما سبقها زمنيا في صفات معينة، وتختلف عما يليها زمنيا، ولا أحفورة أخرى تليها قد أخذت صفاتها المميزة..ما هو الاقتراح الأمثل ؟ يرجعونها إلى باطن الأرض مثلا؟ يطحنونها ويتخلصون منها كي لا يبقى دليل على وجودها ويبقى ” الخط التطوري مستقيما بلا تفرعات؟”..
الاكتشافات الجديدة تحتم التعامل مع معطياتها الجديدة، وهذه المعطيات الجديدة ستضع تعديلات على الصورة الأصلية. لماذا يستمر الباحثون أصلا بالبحث إذا لم يكونوا يتوقعون العثور على معطيات جديدة؟
ألا يمكن على الأقل- إذا سلمنا جدلا بأن هذه الاكتشافات محرجة للتطوريين، وهي ليست كذلك- إلا يمكننا على الأقل أن ننتبه إلى مصداقيتهم ؟!
لو أن الأمر كله كان تحت إشراف مافيا التطور العالمية التي تسيطر على ” مؤسسات البحث العلمي” وتدعم ” الخرافة” فلم سمحت هذه المافيا أصلا بتسريب هذه الأحافير ” المحرجة”؟
يكمل د. قنيبي :
“..وهو التفاف من المهم جدا الوقوف عليه، يعني الأحافير التي أفسدت عليهم خيالاتهم السابقة وأعربوا عن انزعاجهم منها اصبحوا يضيفونها في مكان من الشجرة..” انتهى كلام د. قنيبي.
لا. لم يكن الأمر هكذا قط، على الأقل في الشواهد التي استعملها د. قنيبي..
لديك مواد صعبة في الجامعة تشكل تحديا لك، صعوبتها وانزعاجك من هذه الصعوبة أمر طبيعي، ولن يغير هذا شيء من أهمية هذه المواد.
ويكمل أيضا ..
” تحول الدليل الهادم للتطور إلى دليل للتطور، على طريقتهم التي جئنا عليها بشواهد كثيرة..” انتهى كلام د. قنيبي.
دليل هادم للتطور؟
هل هناك أصلا شيء كهذا من الناحية العلمية؟
علميا هل يمكن أن يكون هناك ” دليل واحد” يهدم نظرية علمية قائمة؟
لا طبعا. يمكن لنظرية علمية أن تهدم، لكن ليس على طريقة ” الضربة القاضية” أو ” الدليل الواحد الهادم”، ولكن عندما تفشل هذه النظرية في تفسير ” الظواهر الموجودة في الطبيعة” أو عندما تقوم نظرية علمية بديلة بتفسيرها على نحو أكثر تماسكا..
أما مثال ” الدليل الهادم” فهو يذكر بالضربة القاضية في حلبات المصارعة، وهو أمر قد يروق لبعض أنواع الجمهور، لكنه لا يرتقي به إلى ” منهجية أكثر علمية”.
ثم يقول د. قنيبي :
” يقولون مثلا الإنسان والشمبانزي تطورا عن أصل مشترك فيظن البعض أن هذا الأصل هو كائن معروف لديهم، يوجد أحافير تدل على وجوده تاريخيا ..أبدا..إنما هو الكائن الافتراضي A كما في نيتشر، افترضوا وجوده وأعطوه اسما HCLCA ( آخر سلف مشترك بين الإنسان والشمبانزي)..هل هناك دليل علمي عليه؟ أي معلومات عنه؟ أبدا وإنما لا بد من اختراع وجوده تطوريا ” انتهى كلام د. قنيبي.
من صفات الظرية العلمية قدرتها التنبؤية predictive
أي أن تكون هذه النظرية، قد توقعت أول ظهورها نتائج معينة لم يكن عليها أي دليل وقت ظهور هذه النظرية.
من الامثلة الكلاسيكية على هذه القدرة التنبؤية: توقع اكتشاف نيبتون بناء على حسابات رياضية مبنية على نظرية نيوتن للجاذبية.
نظرية التطور كانت لديها توقعات كثيرة: توقع داروين أن عمر الأرض أكثر بكثير مما كان يعتقد في عصره، وتبين أنها أكبر حتى من توقعاته، توقع وجود ” أحافير انتقالية” في وقت لم يكن هناك فيه أي منها، وفعلا تراكمت الملايين منها لاحقا..
من ذلك: توقع وجود ” آخر سلف مشترك يربط بين الإنسان وأقرب أقربائه المعروفين حتى الآن، الشمبانزي”.
سواء رمز له بـ ” A ” أو أحرف تختصر ” آخر سلف مشترك” فهو ” كائن تتوقع النظرية وجوده” كما توقعت أشياء أخرى كثيرة، استعمال أحرف مختصرة له حاليا ليس مؤامرة لتمرير كائن افتراضي، هو كائن ” متوقع” ولكن لم يعثر عليه بعد.
ماذا كان سيحدث لو عثروا عليه؟ لو توفرت على وجوده ألف أحفورة مفصلة وكاملة؟ هل سيقبله د. قنيبي؟
قطعا لا. سيقول عنه ما قال عن كل الاكتشافات السابقة: حيرة، ارتباك، صدمة، ..قلبت عربة التفاح رأسا على عقب.
على العموم، رغم أن ” آخر سلف مشترك” لم يحدد حتى الآن، إلا أن هناك ترشيحات عديدةـ من ضمنها أحفورة لجمجة كاملة عثر عليها عام 2017 ، لكن هذا خارج الموضوع الآن.
كيف يفسر د. قنيبي هذه الأحافير التي يرفض دلالتها التطورية ؟
يقول د. قنيبي موضحا : ” لا علاقة لها ( يقصد هذه الأحافير) بتحول تطوري ولا كائنات انتقالية ولا أشباه بشر ولا حاجة وإنما ببساطة عندنا أحافير لقردة، وأحافير لبشر…أحافير القردة هي لقردة متنوعة الأشكال لكنها تبقى قردة. وأحافير ما زعموا أنهم أشباه بشر هي أحافير لبشر بينها من التنوع كما بين البشر الحاليين..” انتهى كلام د. قنيبي.
أعترف أني أضطررت أن أعيد المقطع عدة مرات لخطورة ما يقول د. قنيبي هنا.
فهو هنا يعترف بوجود هذه الأحافير لكنه يعدل من تصنيفها، فكل ما كان تابعا للجنس homo بعمومه يصبح هوموسابينز أي من ضمن الإنسان العاقل ( إذا كنت فهمت ما قاله صحيحا ).
أما ما عدا ذلك، من خارج جنس الهومو، فهو قردة متنوعة الأشكال .
عظيم، هذه خطوة مهمة، رغم أن د. قنيبي أجرى هذا التعديل للتصنيف ( عن بعد) وبحسم لا وجود له عند التطوريين، ودون أن يتفحص أي من هذه الأحافير.
لكن لا مشكلة.
د.قنيبي هنا يقول بوضوح أنه يقر بوجود هذه الأحافير. يختلف في تفسيرها نعم، لكنه لا يقول أنها ” فبركات” أو ” أكاذيب”.اعتراضه على تفسيرها فحسب.
هو يقول أن هذه الأحافير مختلفة عن بعضها ” اختلاف تنوع”، أي مثل الاختلافات الموجودة بين معاشر البشر الحاليين..مثل اختلافات الطول والعرض واللون والملامح.
كل الهوموسابينز الحاليين لديهم اختلافات فيما بينهم، فهل كل منهم ينتمي لنوع مختلف؟ لا قطعا.
جميل.
هناك نقطتان مهمتان هنا…
الأولى أن هذه الأحافير ( التي يقر د. قنيبي ببشريتها ) لم تعش في وقت واحد أو حقبة زمنية واحدة، بل عاشت في فترات متباعدة ( وأفترض أن د. قنيبي قد وافق على أعمارها ما دام قبل بوجودها).
بعبارة أخرى: هذه ” التنوعات” – التي يعتبرها د.قنيبي مشابهة لتنوعاتنا الحالية- ارتبطت بفترات زمنية متلاحقة.
صفات تظهر في مرحلة زمنية، ثم تختفي، وتحل محلها صفات أخرى في مرحلة زمنية لاحقة؟
ألا يشبه هذا ” التطور”؟ هل المشكلة هنا هي تسمية هذه المخلوقات والقول أنها تطورت؟ هل سيكون الأمر مقبولا أكثر لو أننا أسمينا هذا الكائن بـ ” بشر 1 ” و ” بشر 2″ و ” بشر 3 “…؟ هل تنتهي المشكلة هنا؟
النقطة الثانية : الاختلافات بين أنواع أشباه البشر كانت أعمق بكثير من الاختلافات في الطول والشكل الموجودة بين أعراق البشر الحاليين..لا أحد ينكر وجود اختلافات عرقية، لكن الموضوع بين الأنواع لا يحسب هكذا..حجم الدماغ مثلا في الهومو هابيليس يتراوح بين ( 550-687) سم مكعب، في الهومو ارغاستر ( 700 -900 ) ، في الهومو اريكتس ( 600-1250 ) وفي الهومو هايدلبيرغ (1100 -1400 ) ، عند الإنسان العاقل (1400 ) عند الهومو نياتدرال هي أعلى من البشر (1200 -1750 )..والأمر هنا لا يتعلق فقط بحجم الدماغ بل بنسبته أيضا إلى الجسم ونسبة كل جزء من الدماغ أيضا، وبالتأكيد هناك ” فروقات” فردية حتى داخل النوع الإنساني، لكنها لن تصل إلى هذه المستوى من الفروقات بأي حال من الأحوال.
كذلك فأن موقع الثقب الأعظم ( foramen magnum)- والتي يمر من خلالها النخاع الشوكي- في جمجمة الإنسان العاقل تختلف عن موقعها في جماجم الأنواع الأخرى، بينما هذا الأمر لا يمكن أن يكون فيه اختلافات كبيرة ضمن النوع الإنساني الحديث…
كذلك الأمر لشكل الجمجمة، الفك، الأسنان..كلها أمور أساسية في تفاوتها بين أنواع الهومو ولا يمكن أن تعد ” مجرد اختلافات كالموجودة بين البشر”.
نحن الآن في الدقيقة 13 تقريبا…
لنا عودة أخيرة إن شاء الله..
*****
تحدث د. قنيبي عن عظام لوسي باعتبار أنها كانت متناثرة قبل جمعها وعثر على بعض أجزائها بعد مضي أسابيع، مشككا في أنها تعود لنفس المخلوق أساسا.
والحقيقة أن عظام ” لوسي” منذ أن عثر عليها في 1974 تعرضت للفحص مرات عديدة بتقدم تقنيات الفحص، وظهرت النتيجة مؤخرا ( 2014 ) لصالح لوسي، من أصل 88 عظمة تشكل ” لوسي” اكتشف أن هناك عظمة واحدة ليست لها. لا أعتقد أنه يمكن أعتبار هذه العظمة ” دليلا هادما” على التطور.
ثم تظهر مقالتان خلف د. قنيبي وهو يقول أن ” إعلام الخرافة تعامى في ذلك كله عن الكثير من الأبحاث التي تشكك في جزئيات كثيرة والتي بنيت مبكرا عن لوسي والأبحاث التي تنفي بالكلية أن تكون لوسي وعائلتها من القردة العفارية سلفا .
المقال الأول نشر عام 1995 ويتحدث أن ” وقفة لوسي المنتصبة لم تكن تشبه وقفة الإنسان الحديث” ولكنه لم يفسر هذه الوقفة.
https://www.sciencedirect.com/science/article/abs/pii/S0047248485710172
والمقال الثاني نشر عام 2000 ولم أجد له علاقة بلوسي.
https://www.sciencedirect.com/science/article/abs/pii/S0047248499903603
ثم يظهر خلف د. قنيبي غلاف مجلة فرنسية وكتب على غلافها ” وداعا لوسي”
وقال عنه د. قنيبي ما يلي ” ذكر الأدلة على أن كل عائلة الأسترالو بثيكس التي تنتمي لها لوسي يجب أن تزال من شجرة عائلة الإنسان”.
للأمانة لم أجد نسخة للمقال، ولم أجد اسم كاتبه، علما أن ما قاله د. قنيبي نقلا عن المقال يتطابق مع ما قاله هارون يحيى الذي روج لهذا الغلاف.
لكن الأحفورة التي أشار لها هارون يحيى والمعروفة باسم ” القدم الصغيرة little foot ” – لا تعود للوسي بل لنفس عائلتها- وهي أحفورة أثبتت دراستها أن المخلوق صاحب الأحفورة كان قادرا على المشي بانتصاب، ولكن ربما أيضا لديه قدرة على التعلق بالأشجار.
***
كنت أنوي أن أستمر في التدقيق في الحلقة لولا أن د. قنيبي قد خرج في بث مباشر قبل يومين.
سأتناول الآن ما يخصني فقط في هذه الحلقة، ومن ثم أعلق على البث المباشر.
قال د. قنيبي عني ” يروج أيضا لفكرة فهم آيات بناء على نظرية التطور”
أي آيات هذه بالضبط؟ فصل مع د. رنا ومع د. قسوم في استدلالاتهم، لكن معي لم يحدد.
كل من قرأ بالفعل ما كتبت يدرك أني أتحدث عن ” عدم التعارض” لا عن ” إعادة تفسير” بناء على نظرية التطور. الفرق كبير. بل أني ممن كتب في كون آدم شخصية حقيقية تاريخيا رافضا فكرة ” المجاز” تماما.
فرق كبير بين أن تعيد تفسير ( رغم أن إعادة التفسير تحدث دوما وأعاد د. قنيبي تفسير آيات عديدة في سياق حديثه هذا وسواه)، وبين أن تضع مساحة من عدم التعارض بين ” المعطيات العامة” للنظرية وبين آيات القرآن.
ثم أكمل عن كتابي ليطمئن عقلي ونقل عني فقرة أخيرة من فصل التطور: ولعله من نافلة القول أنه لا يمكن لنظرية علمية أن تكون بديلة لنظرية التطور دون أن تأخذها أولا على محمل الجد التام والدراسة العلمية المكثفة خاصة أن سجل الأحافير الذي تستخدمه نظرية التطور يضم ملايين الأحافير إن لم يكن المليارات منها” انتهى الاقتباس، ثم يعلق:
جملة مصاغة بطريقة توهم أن هناك الملايين أو المليارات من الأدلة على الخرافة من الأحافير… سجل الأحافير الذي تستخدمه نظرية التطور..بعيدا عن المبالغة الشديدة في الأرقام فهذا السجل مليء بهياكل بشرية وحيوانية لمخلوقات مثيلة تشبه المخلوقات الموجودة حاليا..” انتهى كلام د. قنيبي.
نعم الأحافير بالملايين، وكلامي عن السجل الأحفوري لكل المخلوقات وليس عن ما يخص الإنسان فقط. ملايين وعشرات ومئات الملايين..
https://www.facebook.com/photo.php?fbid=10158371397384870&set=a.34276534869&type=3&theater
ثم أكمل د. قنيبي : ود. العمري لديه مشكلة في تعريف الإيمان نفسه ووضع فيديو أقول فيه :
“في الحقيقة الإيمان بأي شيء –بالتعريف- يتطلب هذه القفزة – leap – أن تؤمن بشيء دون كل الأدلة القاطعة الحاسمة”
أولا ما علاقة هذا بنظرية التطور موضوع الحلقة التي يرد فيها على التطوريين ” العرب”؟
د. قنيبي مصر على أن الإيمان يأتي عبر أدلة عقلية متوفرة في كل مكان. عظيم.
ما هو تعريف الإيمان في كتب العقيدة؟
إقرار باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالأركان.
والجنان هو القلب.
بالنسبة لي، ولكثيرين غيري، القلب غير العقل، تصديق القلب يحتاج إلى شيء آخر غير ” الأدلة العقلية”- التي لا يقلل أحد من اهميتها-..ولكن القلب يحتاج إلى ” شيء آخر” غير العقل..يحتاج التسليم الذي يشبه القفزة الواثقة بأنك لن تسقط في الفراغ..
أستغرب أصلا أن يكون من يتوقف عند هذه الجملة ليحولها إلى مشكلة كبيرة تستحق الحديث عنها.
****
لكن البث المباشر، شيء مختلف تماما..
عنوان البث هو ” أغبي وأسخف فكرة في التاريخ”.
والبث كان مليئا بهذه العبارات: أغبياء، جهلة، انتحار عقلي، باطل، بطلان، خرافة..علم زائف، تمرير للعقيدة الإلحادية العمياء
وفيه جملة ” من يحسن الظن بالعلماء الغربيين الذين يروجون لخرافة التطور فهو يسيئ الظن بالله”..نعم هكذا..وجمل أخرى..منها استخدامه لآية قرآنية ليشرح أن مروجي نظرية التطور علم الله ما في قلوبهم فمنعهم من رؤية بطلانها !!
طبعا هو يتحدث عن ” نسخة خاصة به من نظرية التطور، نسخة قش من نظرية التطور صنعها من قراءاته لأجزاء من النظرية ربما بنفس الطريقة التي تعامل بها مع مصادر حلقة 54 ( الرد على التطوريين العرب)..
إلى أن قال : ” اعتقد جازما أننا المسلمون حين طردنا الكفر من الباب دخل علينا من الشباك بالف قناع وقناع، من اهمها قناع العلم الزائف، قناع الساينس، اختلط الساينس بالعلم الزائف، لذلك لما تروني أني أطيل النفس في الحديث عن التطور وعن نظريات العلم الزائف فاعلموا أن المسألة مسالة إيمان وكفر، حق وباطل” دقيقة 16 وما يليها من بث مباشر “أغبى واسخف فكرة في التاريخ”
..ثم قال أن هذا لا يعني أن عنده حكم مسبق من النظرية لأنه قدم حلقات علمية مؤصلة سابقا.
ليست المشكلة في الحكم المسبق. يا ليت كان الأمر في الحكم المسبق.
لقد قالها. أخيرا قالها.
إيمان وكفر..
بدأ الأمر باستخدام كلمات الانتقاص ” خرافة ” وأكاذيب ….ثم استخدام آيات القرآن بنبرة التهديد…
هل هناك من لم يقتنع بعد؟
إذن، كفر وإيمان..
المسألة مسألة كفر وإيمان…( هل تفاجئ أحد؟! )
*****
ما المغزى من النقاش إذا كان سيف ” الكفر” يرفع في النقاش عن نظرية علمية؟
إلى أين يقودنا هذا كله؟ إلى نسخة إسلامية من صدام العلم مع بعض من يتحدثون باسم الدين؟
لماذا يصر البعض على وضع الجيل الجديد أمام مفترق الطريق بين الكفر والإيمان على هذا النحو؟
في الحقيقة : شيء آخر هو الذي ” خرج من الشباك”، ويدخل الآن من الباب.
ويا ليت من يؤثرون يعلمون…