د. أحمد خيري العمري
القدس العربي -16/10/2009
الإنصاف والتفهم لا يكفيان بالضرورة للفهم الكامل ، وبالتالي لا يكفيان لتقديم الحلول .
و روبرت فيسك ، الصحفي البريطاني المعروف ، لا يعوزه الإنصاف ولا التفهم لقضايانا ، وهو لا يحتاج إلى ثناء مني ولا من سواي ، فهو من القلة النادرة التي وقفت بثبات مع قضايانا : احتلال العراق ، وغزة ، ولبنان … إلخ ؛ بينما كان بعض المثقفين الليبراليين العرب يشيدون بالتدخل العسكري وبشبهونه بأثر الغزو النابليوني على أوروبا ونهضتها .
مقاله الذي نشر بتاريخ 29 يوليو في الإندبنت البريطانية يستحق أكثر من وقفة ، وأكثر من تأمل .
عنوان المقال يطرح تساؤلا جارحا : “لماذا الحياة في الشرق الأوسط متجذرة في العصور الوسطى ؟”
Why life in the Middle East remains rooted in the middle ages?
من حق روبرت فيسك أن يسأل ، ومن حقه أن يجيب أيضا ، لكن الإنصاف والتفهم ليسا بالضرورة كافيان للتشخيص ولتقديم الدواء .
يقر فيسك أولا بأن التدخل الغربي والمؤامرات الاستعمارية لها دور في الوضع المأساوي الذي تعيشه غالبية المجتمعات العربية وفي إبقائها على ما هو عليه ، لكنه يقر أيضا بأن ذلك لا يكفي لتفسير استمرارية التدهور .
وهذا صحيح ، وهي نقطة ستحسب لصالح فيسك عندما نرى كيف أن البعض من كتابنا قد تخلوا تماما عن أي اتهام أو إشارة للغرب ، لصالح إدانة كاملة وشاملة لكل ما هو “نحن” ، فقد انتقلنا من خطابات “نظرية المؤامرة” الحماسية التي لا ترى مشكلة إلا في الغرب إلى خطابات “نظرية اللا مؤامرة” التقريعية التي لا ترى فينا إلا كل ما يستحق النبذ ولا ترى في الغرب غير ملائكة وجمعيات خيرية .
يضع فيسك ملاحظات هامة وجديرة بالاهتمام ، لكن إطار رؤيته العام سيبقى أسيراللرؤية الغربية ، وهذا ما لا يمكن لومه عليه .
يبدو ذلك واضحا من العنوان : فهو ، للدلالة على التخلف الذي نعيشه ، يستخدم مصطلح “العصور الوسطى” ، وهي الفترة الأسوء أوروبيا والتي تمتد لعشرة قرون منذ سقوط الإمبراطورية الرومانية في القرن الخامس الميلادي الى القرن السادس عشر الميلادي حيث بدأت بوادر النهضة الأوروبية والاصلاح اللوثري .
لكن ماذا كنا نفعل خلال ذلك ؟ كان ذلك هو عهد نهضتنا وازهارنا ، كان ذلك هو بالضبط عصرنا الذهبي : عصر الفتوحات الإسلامية ، عصر الرشيد والغيمة التي أينما حملت مطرها فسيعود خراجها للمركز ؛ مهما كانت لدينا تحفظات على بعض ما حصل في تأريخنا فإنه يبقى التأريخ الأنصع الذي لم تحدث فيه مجزرة كبيرة واحدة أثناء بناء الدولة وانتشارها . (لا يدخل المسلمون قائمة المجازر التأريخية إلا في فترة متأخرة جدا وفي اطار المجازر المتبادلة مع الصليبين والتي ابتدأها الصليبيون أصلا ، على فرض صحة وجود هذه المجازر وحيادية المصادر التي ذكرتها ، بينما كل الإمبراطوريات التي سبقت وتلت الدولة الإسلامية كانت ترتكب المجازر أثناء انتشارها وتوسعها).
خروج الأوروبيين من عصورهم المظلمة تزامن مع تدهور تدريجي مرت به الأمة ، ومن ثم ولوجنا في عصور مظلمة تخصنا ، واستمرارنا فيها رغم كل صيحات النهوض ومشاريع النهضة المجهضة وفرصها المهدرة .
قروننا الوسطى تملك بعض التشابه مع قرونهم الوسطى ، لكن هناك أيضا اختلافات جذرية : الكنيسة كانت تمتلك القوة والسيطرة إبان هذه العصور ، كانت تحكم بيد من حديد على كل شيء حرفيا ، الأمر كان أكبر بكثير من مجرد تحالف بين الإقطاعيين والنبلاء ورجال الكنيسة ، بل كان هناك سيطرة مباشرة على الحكم ، كانت الكنيسة هي المؤسسة الأقوى في تلك الفترة ، كان ملوك أوروبا يطلبون رضا البابوات والكرادلة ويتملقونهم بل ويخشونهم ، وقصة الملك هنري الرابع معروفة ،فقد ارتحل لأشهر من مكان إلى آخر طالبا المغفرة من البابا جريجوري السابع إلى أن وصل إلى منتجع صيفي حيث كان البابا يقضي الصيف ، وهناك “ركع” للبابا أمام الناس طالبا السماح منه .
لا يمكن إنكار وجود نوع من التحالف التأريخي بين بعض رجال الدين عندنا وبين السلطات ، كما لا يمكن إنكار أن هذا التحالف ساهم في أحيان كثيرة في تكريس الظلم والاستبداد ومنح الشرعية له ، لكن هذا التحالف كان أحياناً من باب “التحصيل الحاصل” لا أكثر ولا أقل ، ورجال الدين الذين انخرطوا في هذا الأمر لم يكونوا أكثر من “وعاظ” و “ندماء” مقربين للحكام، وهؤلاء “نظّروا” لسلطة المتغلب أيا كان لكنهم لم يكونوا سلطة فعلية مستقلة كما الكنيسة ، ولم يكن لديهم قوة فعلية خارج هذا القرب وبالتالي لم يكن هناك إمكانية كامنة للسيطرة التي مثلتها الكنيسة بصفتها المؤسسة الأقوى في أوروبا القرون الوسطى ؛ لا يمكن أصلا تخيل موقف مماثل لذلك الذي حدث بين البابا وهنري الرابع من قريب أو بعيد ، كان هناك رجال دين نأوا بأنفسهم عن الأمر كله – وهم غالبية تخيلت أن اعتزال الأمر سيكون بلا عواقب سلبية لاحقة– وآخرون قاموا بدور المعارضة ، ولكنها بعيدة جدا عن أن تكون معارضة أنداد ، فضلا عن أن يكون لرجل الدين فيها السطوة والانتصار . (الحوادث التي انتصر فيها رجال الدين كانت عابرة ونادرة رغم أهميتها ، مثل إبن حنبل ، و العز إبن عبد السلام ) .
إذن المقارنة تمتلك تشابهات ولكن المؤسسات التي سيطرت على الوضع في الحالتين مختلفة تماما .
يقول فيسك إن العرب لا يمتلكون انتماءا حقيقيا لأوطانهم بالمفهوم الغربي للكلمة ، لا يشعرون أن أوطانهم لهم ، كل ما هو في الشارع ليس لهم ، كل ما هو خارج إطار ممتلكاتهم الفردية الشخصية لا يعنيهم ؛ وهذه حقيقة لا مناص من الإقرار بها ؛ وهو يلاحظ أيضا أن بيوت العرب نظيفة بشكل عجيب “spotlessly clean” ولكن شوارعهم تعج بالأزبال والقمامة ؛ وهي ملاحظة صحيحة أيضا ، وهناك مقابل معاكس لها في الدول الغربية ، حيث لا توجد طقوس وتقاليد نظافة شخصية كالموجودة عندنا وفي بيوتنا ، و لكن توجد شوارع نظيفة (ليس في نيويورك !) ، والملاحظتان وإن وردتا في سياقين مختلفين في كلام فيسك إلا إنهما مرتبطتان جدا : إنه عدم الانتماء الذي نشعر به ، أو يشعر به أغلبنا على الأقل ، والذي يجعل الكثيرين غير مكترثين لما يجري خارج سور البيت ، “حوالينا ولا علينا” .
قد يكون رد الكثيرين على الأمر مرتبطا بسؤال : وماذا قدمت لنا أوطاننا كي ننتمي لها ؟ والسؤال وجيه ، ولكنه يرتبط بمنظومة فكرية كاملة هي في الحقيقة منتجة وناتجة عن هذه الأوضاع في الوقت نفسه .
يذكر فيسك أوضاعا محبطة يعيشها العرب ، ونعرفها جيدا (ويزايد قليلا في بعض الأمور التي صارت جزءا من بديهيات الإعلام الغربي والعربي أيضا رغم عدم وجود إحصاءات توثقها ، مثل ما يسميه العنف المنزلي ، وجرائم الشرف والاغتصاب ، وهو أمر تتعمد وسائل الإعلام تضخيمه لأغراض واضحة إلا إنها في الحقيقة لا تملك حجما مؤثرا أو حتى قريبا من التأثير) . يذكر عن الفساد والرشوة والدكتاتورية والمحسوبية والشباب الذين يحملون شهادة الدكتوراة ويعملون سائقين لسيارات الأجرة ، ويقول شيئا جارحا عن الشباب المتعلم الذكي الذي كل طموحه السفر إلى الخارج ، يقول بالحرف : القرآن بالنسبة لهم غال جدا ، ولكن كذلك الغرين كارد Green card!!!
يعتبر فيسك إن هذه الأوضاع هي التي جعلت من العقل العربي غير منتمي للوطن ، وقد يكون في قوله وجاهة لا يمكن تجاهلها ، لكني أذهب إلى ما هو أبعد من ذلك ، وأزعم أن العربي كان دوما هكذا ، كان دوما لا منتميا لشيء إلا لنفسه ، ومن ثم عشيرته ؛ لم يكن له وطن أصلا ما دامت الخيمة عنوانه الدائم ، ومادام الترحال هاجسه وواقعه ؛ كيف يمكن للانتماء أن ينشأ عند من يرتحل دوما ؟
لا أتحدث هنا عن البدو والأعراب فقط ، بل عن “ثقافة جمعية” سكنت حتى المدن وجعلت من سكانها بدوا رحلا أدركوا ذلك أو لم يدركوه ، ثقافة تجعل منهم غير منتمين ، غير مساهمين ، غير منتجين ، غير فاعلين ، حتى لو كانوا يستخدمون أحدث التقنيات المستوردة .
أقول ذلك كله وأكمل : إن العربي لم يخرج من ذلك كله إلا مرة واحدة فقط ، ألا وهي عندما صار مسلما ، وحده الإسلام نجح في أن يحول ذلك النكرة الهائم على وجهه إلى إنسان فاعل ، وحدها القيم الدينية التي حملها الإسلام والقرآن إلى عقله ووجدانه جعلت منه إنسانا غير العالم في عقود قليلة ، قيم ربطت الإيمان بالعمل الصالح ، وجعلت “الأنا” تذوب في “النحن” ، وجعلت من المجتمع سفينة واحدة إما أن تنجو وينجو ركابها أو تغرق و يغرقون جميعا . كانت هذه هي معجزة الإسلام الحقيقية : أنه نجح مع أمة هي الأدنى حضاريا في مقاييس زمانها ، وجعلها – في فترة قياسية – الأمة الأفضل ؛ وهذا يجعله محتويا دوما على قيم فاعلة كامنة يمكن أن تنفع أي أمة في أي مرتبة حضارية .
فمالذي حدث بالضبط ؟ كيف تركنا عصور نهضتنا إلى عصورنا الوسطى ؟
حدث الإنفصام التدريجي بين القيم الدينية وبين الواقع ، ممثلا في نظم الحكم أولا ، لكن القيم الاجتماعية ظلت مسيرة عبر القيم الدينية ، ومع الوقت زاد الشرخ اتساعا ، وزاد من حدة الشرخ تفتت الدولة المركزية إلى دويلات متناحرة ، وصارت القيم الدينية بالتدريج قيما فردية ، يسيطر عليها الطابع الشعائري المفرغ من الفاعلية الاجتماعية ، واختفى مفهوم “فتح العالم” الذي سكن هاجس الجيل الأول وحل محله مفهوم يركز على “الآخرة” كما لو كانت منفصلة عن العمل في الدنيا .
وكل هذا كان سمادا خصبا للاستبداد والفساد والتفكك ، وعادت الدولة لتكون مجرد نسخة حديثة من العشيرة الجاهلية ، يأتي ريعها من الرعي (صار اسمه اليوم استثمارا هنا وهناك) أو من السلب والنهب (صار اسمه اليوم رشوة ومحسوبية ونسبة وعمولة … إلخ) ، وكل فرد داخل العشيرة الحديثة لا ينتمي لشيء إلا لنفسه ولعائلته الأقرب ، وكل شيء “حوالينا ولا علينا” ، ولا يعود يهم حقا إلا إذا صار “علينا” .
كلما انسحبت القيم الدينية من فاعليتها عاد ذلك الأعرابي الساكن في أعماقنا ليطل برأسه ويستبدل به رؤوسنا جميعا ، مهما كانت الشهادات الجامعية والألقاب التي نحملها ، بل مهما كانت الادعاءات والشعارات “تقدمية” و”علمانية” و”ليبرالية” ، فإن الواقع سيسيطر عليه ذلك البدوي الذي يتحكم بالعقل واللاوعي الجمعي .
وحدها القيم الدينية ، التي عندما خرجت منا خرجنا نحن من نهضتنا ، وحدها قادرة على تفعيل هذا الفرد ، وتحويله الى إنسان فاعل ، إلى جزء من جماعة ، ووحدها قادرة على الخروج بنا من عصورنا الوسطى والتي تختلف عن “عصورهم الوسطى” .
خروجهم لم يحدث إلا عبر الخروج من الكنيسة .
أما خروجنا ، و يا للعجب ، فلا يمكن إلا عبر العودة إلى القيم الدينية …