د.أحمد خيري العمري- العرب القطرية
ديسمبر 2008
صدقوا أو لا تصدقوا!.. لقد اتضح أننا فهمنا خطأ.. اتضح أننا ظلمنا بعض الأخوة.. وأنهم ليسوا كما توقعناهم، إنهم يحبون الدين.. وقلوبهم عليه.. ربما أكثر منا. بل إن هذا فعلاً ما يؤكدون عليه. كل هدفهم هو إنقاذ الدين، بعدها ليس من المستبعد أن يطالبوا بتطبيق الشريعة ويرفعوا الشعارات التي تنادي بذلك..
هذا هو ما يحدث، كما لو أننا نحلم.. (ليس من الواضح بعد إن كان هذا الحلم حلماً جميلاً أو أنه كابوس مفزع) لكنه يحدث فعلاً.. وكما يقدم بعض الإسلاميين بلاغات تطالب بمحاكمة هذا أو ذاك ممن يروجون ضد الدين، كذلك يفعل بعض العلمانيين، بل وأكثر، ذلك أن بلاغات الصنف الأول هي غالباً أشخاص أحياء.. أما الأخوة هنا فهم حريصون على الدين لدرجة أنهم صاروا يقدمون بلاغات حتى ضد الموتى الذين أساؤوا –بحسب رأيهم – للدين..
وصلوا لهذا الحد؟.. نعم، إنهم يتنافسون الآن مع المتطرفين الذين لم يطالبوا حتى الآن –وحسب علمي – بنبش القبور ومحاكمة الموتى.. ليس هذا فقط، بل إنهم من غيرتهم على الدين وحرصهم عليه، يتهمون ليس الأعداء التقليديين للدين فقط، بل يتجاوزونهم إلى أئمة الدين وعلمائه.. إنهم يرومون، حسبما يقول العنوان الثانوي لواحد من كتب هؤلاء “حماية الدين من إمام المحدثين” ويقصد البخاري، أو في كتاب آخر، هدفه “تخليص الأمة من فقه الأئمة” الذي عده بمثابة بلاغ ضد الإمام الشافعي هذه المرة..
لا تسيئوا فهمهم.. إنهم إنما يهاجمون الشافعي أو البخاري أو سيبويه (في سلسلة كتب تحمل اسم جناية الشافعي، وجناية البخاري، وجناية سيبويه تباعاً) حرصاً على الدين وغيرةً عليه، لا من أجل التهجم على الرموز الدينية.. هذا هو على الأقل ما يدّعونه، وعلينا أن نمتلك قدراً كبيراً من حسن الظن، أو من قلة العقل، أو قدراً كبيراً من الاثنين معاً، لكي نصدقهم..
ما الذي فعله البخاري من جناية تستوجب “إنقاذ الدين من إمام المحدثين”؟.. باختصار: لا شيء.. لدى هذا الكاتب الغيور على الدين بعض الملاحظات لا أكثر، يتصور أنها “اتهامات” كفيلة بإزاحة البخاري من مكانته كإمام للمحدثين، والحقيقة أن ملاحظاتِه في مجملها تعزز مكانة البخاري، إن لم تكن تزيد من أهميته، ذلك أن وجود الملاحظات، على عدد من الأحاديث بلغ أقصاه (82) حديثاً، من أصل(2602) متن حديث بدون تكرار، أي أقل من 3% من مجمل صحيح البخاري، ترسخ وتؤكد حصانة النسبة المتبقية من البخاري – وهي نسبة متغلبة طبعاً – ولو كانت هناك (أحاديث أخرى) يمكن أن يكون عليها ملاحظات لما تردد صاحبنا في إيرادها، ذلك أنه أجهد نفسه غاية الجهد في الـ (82) حديثاً التي وجدها.. وقبل أن نتحدث عن ملاحظاته، علينا أن نشير إلى أن نسبة خطأ (لو سلمنا أصلاً أنها خطأ) بمقدار ثلاثة بالمئة هي نسبة مقبولة جداً، بل إن أرقاماً أعلى منها مقبولة أيضاً.. وإن أدق الإحصاءات بل أدق القراءات الفيزيائية، بأدق وأحدث الأجهزة الإلكترونية، يمكن أن تحتوي على هامش خطأ أكبر، يشبه أن نستنتج قانوناً فيزيائياً، من 2% من النتائج، وإهمال الـ 98%!!..
إذن فملاحظات هذا الكاتب، التي جعل منها محضراً لاتهام البخاري (تذكروا!.. حرصاً على الدين وإنقاذاً له!) هي ملاحظات ترتكز على نسبة إحصائية مهملة، وهذا يضعها فوراً في خانة الإهمال.. هذا إن أقررنا أساساً أن كل ملاحظاته هي ملاحظات أصلاً.. ذلك أن أكثر من نصف الملاحظات لا تخص عمل البخاري ونتائجه، بل تخص شرح الحديث، الذي للكاتب ملاحظات عليه، وهذا يخرج البخاري من الموضوع، فليسَ هو من شرح الحديث، بل شراح آخرين مختلفين، وقد انتقى الكاتب منهم من شاء، ليعلن ملاحظاته تلك، وقسم منهم يفصل بينه وبين البخاري قرون عديدة.. ما جناية البخاري في ذلك؟.. ومشكلة الكاتب مع شرح الحديث أنه يقيم الشرح ويحاكمه بناء على مرجعيته العلمانية التي يفترض أنها الأقرب إلى سنته عليه الصلاة والسلام، وإن الشراح إنما ظلموا السنة والحديث بابتعادهم عن المنظومة الليبرالبية العلمانية التي ينتمي لها الكاتب..
وهناك نسبة أخرى من ضمن الـ 3% هذه، يرفضها الكاتب لأنها تقع في سياق الطبيعة البشرية التي يبدو أنه يتصور أن الأنبياء – ومن حول الأنبياء أيضاً – منزهين عنها.. وهذا شأنه أيضاً.. وليس شأن البخاري من قريب أو بعيد..
عدد آخر من الأحاديث لم تعجب هذا الكاتب، إما لأنه لم يفهمها كما يجب، أو لأنها لم تعجبه دون سبب واضح.. مثال على ذلك رفضه لحديث: “قال الله عز وجل: أعددت لعبادي ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.. الحديث”. لماذا يا ترى؟.. لأنه يقول: إن هذا يتناقض مع وصف الجنة الموجود في أحاديث أخرى كثيرة.. لا يبذل الكاتب محاولة واحدة للجمع بين الأحاديث، أو لملاحظة الجانب “التجريدي” في الوصف الذي يشير إليه الحديث، يرفض الكاتب الحديث، ويعتبره وصمة مزعومة في جبين البخاري..
وهكذا، فإن معظم اتهامات الكاتب ستسقط، لتبقى بضعة ملاحظات لا أكثر، بنسبة إحصائية أكثر إهمالاً، وهي ملاحظات اشتغل عليها أهل العلم قديماً وحديثاً، في سياق علمي جاد بعيد عن التصريح والسطحية، وبعضها ملاحظات تخرج عن إطار عمل البخاري، إلى إطارات أوسع، وتتعلق بالأخذ بحديث الآحاد وموقعه في الفقه والعقيدة.. وهو موضوع عميق وشائك، ولا يمكن تحميله على عاتق البخاري..
جناية الشافعي، كما يسميها الكاتب، من نفس الطراز، ليس سوى ملاحظات متناثرة هنا أو هناك، قلما تخص علم الأصول الذي أسسه بحق الإمام الشافعي، بل هي مجرد ملاحظات على بعض فتاويه وآرائه الفقهية التي طرحت ضمن سياقها التاريخي، كما أنه يأخذ عليه أن تلامذته اشتغلوا على تعريف المصطلحات التي وضعها أكثر مما فعل هو، وهو أمر طبيعي، فمؤسس أي مذهب علمي أو فقهي، كصاحب أية نظرية، لا يضع كل تفاصيلها، بل يضع خطوطها العامة ولبنتها الأساسية، التي تفرز التفاصيل بالتفاعل مع المحيط ومع تحديات المحيط، ومن خلال أشخاص آخرين آمنوا بالخطوط العامة.. يستوي في هذا الشافعي مع أبي حنيفة ومالك وابن حنبل، وهو السبب في أن علماء آخرين، وضعوا خطوطاً عامة لا تقل أهمية، لكن نظرياتهم لم تتحول لتصير مذاهبَ، لأنها لم تجد الحاضنة المناسبة لتحويل الخطوط العامة إلى بناء فقهي متكامل.. كما أن الكاتب في بلاغه ضد الشافعي، يقول: إن أسلوبه ممل!.. وهو يتصور أن هذه تهمة شنعاء يستحق الشافعي أن يحاكم عليها! كما أنه يأخذ على الشافعي قوله في بعض كتبه: “كما ذكر بعض أهل العلم” بدلاً من أن يعطينا قائمة بأسمائهم وعناوينهم ومتى بالضبط ذكروا ذلك، ولعل الكاتب يود من الشافعي أن يقدم لنا مراجعه حسب تصنيف ديوي!.. على الرغم من أنه هو شخصياً يستخدم أسلوباً مشابهاً، أو أقل علمية فيقول: “كما جاء في الأثر” دون أن يحدد أي أثر، ويكون أثراً ضعيفاً بالطبع، ولكنه يريد تمريره تحت شعار أنه “أثر” ويا سبحان الله، يكون هذا الأثر دوماً محتوياً على مطعن بواحد من الأسماء التالية “عائشة وعمر وعثمان وأبي هريرة!” ولكن لا تسيئوا الظن ولا تتصوروا أن هناك رائحة طائفية في هذا!
جوهر الأمر في الجناية المزعومة لكل من البخاري والشافعي، أن الكاتب يزعم أنه ينطلق من مسلمة خاطئة، ثم ينتهي إلى اكتشاف أنها خاطئة، فيقيم الدنيا ولا يقعدها على هذا الأساس، كما لو أنه قد اكتشف نظرية جديدة تاهت عنها الإنسانية طويلاً.. هذه المسلمة الخاطئة هي أن الشافعي والبخاري ليسا من البشر، وأنهما لا يخطئان، بعدها انطلق يبحث في الحواشي والهوامش عن خطأ.. فوجد هامشاً من الخطأ بنسبة إحصائية تكاد تكون مهملة.. لكنه يطير فرحاً بها كأنه فتح عكا.. وينتهي إلى “أنهم بشر”.. ويعتبر أن هذه الحقيقة يجب أن تغير التاريخ وتصدم البشرية جمعاء.. على الرغم من أن بشرية البخاري والشافعي وسواهما أمر مفروغ منه.. ذلك أن انتفاء العصمة عن البشر واحدة من أعظم نقاط قوة الإسلام وواقعيته وتميزه، والظروف التي دفعت (فئة معينة) من أهل القبلة إلى إضفاء طابع القداسة والعصمة على بعض الأئمة هي ظروف خاصة وغير مبررة ولم تنطلق لتعمم على كل مذاهب أهل القبلة.
نعم، البخاري والشافعي ومسلم وأبو حنيفة كانوا بشراً.. ووجود الخطأ في الجهد البشري أمر حتمي ولا مفر منه.. وأي شيء غير ذلك سيكون موضع شك.. الأمر في الخطأ هو نوعه وكمه.. هل نوعه في بنية العمل والخطوط الأساسية له.. أم إنه في تفاصيله؟ وهل كم الخطأ كفيل بنقض البنيان كله، أم إنه مجرد هامش خطأ مقبول؟.. هذان السؤالان، مع الأخذ بنظر الاعتبار السياق التاريخي الذي طرحت فيه النظرية وبذل فيه هذا الجهد الإنساني، كفيلان بإسقاط كافة التهم عن البخاري وعن الشافعي وعن سواهما من أئمة الفقه والحديث…
جناية “بعض” العلمانيين، أنهم يستخدمون بالضبط الأساليب التي يتهمون فيها أعداءهم، إنهم يستخدمون شعارات الحرص على الدين والغيرة عليه، من أجل الوصول إلى ما يريدون (مثلهم مثل غيرهم!).. وهذا يجعل مرجعيتهم مزدوجة ومرتبكة، وتشبه أن لا مرجعية لهم على الإطلاق، وهو أمر غير باعث على الاحترام، و لكنه لا يعمم على كل العلمانيين، فهناك من العلمانيين من يربأ بنفسه عن الهبوط إلى هذا الدرك، وهذا أكثر جدارة بالاحترام بل وبالحوار، على الأقل مع العلماني الجاد الذي لا يستخدم الدين شعاراً، هناك خطوط واضحة في الحوار يمكن أن تجعله مثمراً..
أيها العلمانيون، كونوا علمانيين – أو لا تكونوا – لكن لا تكونوا هذا الـ “بين – بين” الذي لن يؤدي إلى أي مكان.. إلا إلى المزيد من الخيبة والفشل.