بقلم د. رنا دجاني
الحديث عن نظرية التطور يقود بدوره إلى الحديث عن أمور أخرى حتمًا: مثل المنهجية العلمية، ومفهوم النظرية العلمية، والفرق بين المعنى العلمي والاستخدام العامي للكلمة، والفرق بينها وبين كلمة فرضية، والفروق بين الإيمان من منطلق العقيدة والتعامل مع نتائج العلم
- بقلم رنا دَجاني بتاريخ 10 يوليو 2021
كتاب “لا شيء بالصدفة” للدكتور أحمد خيري العمري، ذو أهمية كبيرة؛ لأنه يتناول العلاقة بين العلم والدين، تلك العلاقة التي طالما أُثيرت من قبل الرأي الغربي على أنها إشكالية في حضارتنا العربية والإسلامية، برغم أن الإرث العلمي للحضارة الإسلامية خير دليل وأكبر برهان على تشجيع الدين للعلم، بل وجعل السعي وراء العلم عبادةً وواجبًا، الآيات القرآنية التي تحث على التفكر وإعمال العقل متعددة وكثيرة.
يتناول كتاب “لا شيء بالصدفة” مسألة التطور البيولوجي والإسلام، بالتسلسل الفكري المنطقي ذاته الذي طرحته أنا شخصيًّا سابقًا في أعوام 2012 و2015 في عدة مقالات علمية، بعضها تُرجم إلى اللغة العربية، والأخرى جرى طرحها من خلال عدة محاضرات علمية، يمكن الاطلاع عليها جميعًا عبر قائمة المصادر الموجودة أسفل المقال.
والجدير بالذكر أن علماء آخرين كانوا قد تناولوا في كتب لهم مسائل المنهجية العلمية والبحث العلمي والموضوعات العلمية الجدلية التي يختلف عليها عامة الناس مثل التطور وغيرها، الفرق هنا أن د.العمري كاتب وأديب تعرف عليه جمهوره من خلال رواياته المشهورة، مثل بيت خالتي، وشيفرة بلال، وكريسماس في مكة، لذلك استطاع أن يصل إلى جمهور قبل أن يتمكن العلماء من الوصول إليه عن موضوع يتناوله العامة كثيرًا للأسف من دون الاستعانة بآراء وحجج العلماء من أهل العلم والتخصص في هذه المسألة، لقد عرض الكتاب مجانًا، وقد حمِّل في الأسبوع الأول من إطلاقه أكثر من 100.000 نسخة من قِبل مجتمع يوصم بعدم القراءة، فهو بذلك يعتبر من أفضل معدلات الكتب العربية تحميلًا من على الإنترنت (بست سيلر)! لذلك كل صوت مهم.
وإنه ليسعدني تأليف د.العمري لهذا الكتاب باللغة العربية، وبأسلوب بسيط ومنطقي لكي يوصِّل لعامة الجماهير ما طرحناه من قبل في مجلات ومحافل علمية، خاصةً وأن للعمري جمهورًا كبيرًا بصفته كاتبًا معروفًا وروائيًّا مشهورًا، لديه ملكة التعبير الواضح المؤثر الذي يبرز أهمية هذه المسألة وأبعادها مترامية الأطراف في شتى مناحي الحياة، كما أن سهولة وبساطة شرحه للحقائق العلمية كي تصل إلى الجمهور العام بوضوح هي ملكة مهمة أيضًا، كل ذلك مهم جدًّا لأن المعضلة في معظم الأحيان تكمن في عدم فهم الحقائق العلمية عند غالبية القراء من الأساس، ولطالما نصحت المنتقدين بالتعمق في مطالعة الكتب والأبحاث العلمية من قِبل المتخصصين قبل الانتقاد، والآن وفر لي د.العمري مرجعًا علميًّا مهمًّا أوصيهم أن يقرؤوه، وتأكيدًا لأهمية هذه المسألة، سبق أن كرست جزءًا من كتابي الذي جاء تحت عنوان الأوشحة الخمسة خصوصًا لمعالجتها.
كتب الدكتور العمري: “هل يستحق الأمر كل هذا؟ خاصةً أنه مدعاة لغضب وعداء الكثيرين”.
بالنسبة لي، بالتأكيد يستحق، ما دام يساعد أشخاصًا على الإفلات من فخ الإلحاد، وما دام الكتاب يُسهم في تعليم الناس أن هناك طريقًا ثالثًا غير طريق الصدام مع العلم أو الصدام مع الدين، ما دام يحاول تكريس المنهجية العلمية ويمنع التصادم المتوهَّم بين العلم والدين، نعم يستحق، وأكثر”.
كما شدد “العمري” على أن نظرية التطور مهمة بالفعل، ولا يمكن حذفها ولا حذف آثارها ونتائجها، العلاقة بين نظرية التطور وعلم الأحياء –وفق كثيرين- مثل العلاقة بين قوانين نيوتن وعلم الفيزياء، وحذفها ستكون له النتائج ذاتها، فيما لو حُذفت قوانين نيوتن، أي انهيار علم الأحياء كاملًا، فقد قدمت نظرية التطور (رؤية شاملة) لعلم الأحياء، ربطت بين أجزائه المختلفة، وقدمت تفسيرًا علميًّا لكثير من الظواهر الطبيعية، خاصةً ظاهرة التنوع الهائل الموجود في الكائنات الحية.
الحديث عن نظرية التطور يقود بدوره إلى الحديث عن أمور أخرى حتمًا: مثل المنهجية العلمية، ومفهوم النظرية العلمية، والفرق بين المعنى العلمي والاستخدام العامي للكلمة، والفرق بينها وبين كلمة فرضية، والفروق بين الإيمان من منطلق العقيدة والتعامل مع نتائج العلم، ومعنى الدليل العلمي، وتراكمية العلم، وكلها أمور أعتقد أن طرحها على نطاق الجمهور الواسع غير المتخصص سيكون له أثرٌ تثقيفيٌّ كبير على المدى البعيد.
من الأسباب التي ذكرها المؤلف كدافع لتأليف الكتاب، كما يقول: “تعامُلنا كمسلمين مع هذه النظرية دون رفض مسبق متشنج، سينعكس حتمًا على تعامُلنا مع أشياء أخرى كثيرة تتعلق بتعاملنا مع النصوص الدينية وفهمنا لها”.
إن نظرية التطور منذ أن نُشرت في كتاب “أصل الأنواع” من قبل تشارلز داروين عام 1859، لاقت أول ما لاقت، في القرن التاسع عشر، عدم قبول من قِبل بعض رجال الدين المسيحيين، وما زالت حتى يومنا هذا، في المقابل، فإن موقف المسلمين من النظرية يتراوح أيضًا بين القبول والرفض، فقد لاقت النظرية تقبُّل علماء مسلمين مثل ابن الجسر (حسين بن محمد بن مصطفى الجسر من طرابلس اللبنانية /1845م مؤلف الرسالة الحميدية في حقيقة الديانة المحمدية وحقيقة الشريعة المحمدية) عندما ذاع صيتها في القرن التاسع عشر، في الفترة ذاتها التي رُفضت فيها النظرية من قِبل رجال الدين المسيحيين.
في العصر الحالي، موقف المسلمين من النظرية عند عامة الناس أقرب إلى موقف بعض المجموعات المسيحية، فالأفراد الذين يتناولون نظرية التطور، هم إما علماء دين وإما علماء علوم طبيعية، معظم علماء الدين يرفضون النظرية، وإذا تقبلوها فهم يستثنون ذلك الجزء الذى يتعلق بتطور الإنسان، أو أنهم يعمدون إلى عدم تناول هذا الأمر، فلا يتكلمون فيه، أما العلماء المسلمون العاملون في ميادين العلوم، فمعظمهم صامت لا يتكلم، والبعض الآخر وهو قليل العدد، إما أن يقبل النظرية دون الإشارة إلى آدم عليه السلام، أو يتقبلها بالكامل كأمثالي وقليل من علماء آخرين مثل العالِم الجزائري نضال قسوم.
أرى أن تناوُل هذه المسائل ينبغي أن يحظى باهتمام كبير، لأنه من وجهة نظري يمثل عرضًا من أعراض المشكلات التي واجهها المجتمع العربي الإسلامي، ألا وهي عدم تبنِّي منظومة التفكير الناقد وعلوم البحث العلمي، فإن لم نتغلب على هذه المشكلة فسندفع الثمن كأمة في مجالات أخرى، في مقدمتها تطور مجتمعاتنا العربية والإسلامية في مجال التكنولوجيا والعلوم والفكر، لذلك فإن الأمر في غاية الأهمية، ويجب طرحه على عامة الناس، ولكن علماء المسلمين في ميادين العلوم الحديثة مشغولون الآن بعلومهم، عاكفون على تخصصاتهم، وفي حين أن علماء الدين ليس لديهم الفهم الكافي فيما يتعلق بالعلوم البيولوجية الحديثة لكي يتناولوا النظرية من المنظور العلمي بالدقة والعمق المطلوبَين، لذلك يوجد فراغ في الأدب العربي والإصدارات العربية فيما يتعلق بهذه المسألة.
وقد جاء كتاب “لا شيء بالصدفة” للدكتور أحمد خيري العمري، ليملأ هذا الفراغ ويشرح ما هي نظرية التطور بلغة عربية، لكي يفهم الناس النظرية كأساس مهم قبل مناقشة الرأي الديني، ومن ثم تناول العمري لماهية النقاط التي تشكل عائق لدى المسلمين لتقبل النظرية؛ ففي الفصل الأول تكلم عن نظرية التطور بصراحة مع استعراض جميع الإثباتات الدالة على صحتها، كما تناول أيضًا معنى النظرية والبحث العلمي كمنظومة فكرية لزيادة توعية الناس بلغة بسيطة ومفهومة وقريبة للجميع، وقد استخدم لغة عالِم السلوك الحيواني والأحياء التطورية، كلينتون ريتشارد دوكينز، وأدلته للبرهنة على حقيقة نظرية التطور، وذلك لشهرة كتبه الموجهة إلى الجمهور العام، ومن أهم النقاط التي تناولها ذلك التحدي القائل بأن تقبُّل الفرد النظرية يعني إنكارًا لوجود الخالق، وقد بيَّن العمري أن هاتين المسألتين ليس بينهما علاقة، كما أنه سخَّر آخر فصل في الكتاب لمناقشة الأفراد الذين يرفضون نظرية التطور، بالرد عليهم بطريقة نقدية منطقية، يبين فيها عدم صحة الحجج التي يستخدمونها، وهى طريقة مهمة تساعد الجمهور على عدم الوقوع فريسةً للحجج غير الصحيحة.
ولم يتناول العمري فقط قضية التطور بشكل عام، بل تطرق إلى تطور الإنسان، وهي القضية التى تشكل -في العادة- العائق الأكبر أمام تقبُّل نظرية التطور بشكل عام، وهي خطوة مهمة جدًّا، كما كانت خطوةً جريئةً من العمري، الذي تناولها بذكاء، إذ عرض على القارئ طرقًا للمقارنة بين العلم والدين دون رفض نظرية التطور، ودون رفض للدين، بالرغم من أنه في كتابه أصر على الفصل بين الأمرين، ولكن لحساسية موضوع سيدنا (آدم) حاول أن يجد حلًّا وسطًا عندما تحدث عن آدم، وعلى الرغم من أن نظرية التطور نظرية شاملة -ولا يمكن أن نأخذ بعضًا منها دون الآخر، ولكن من الجائر القول بأن الكاتب استخدم هذا الأسلوب لكي لا يخسر القارئ تمامًا، وفي هذا السياق اقترح على غير المقتنعين إن كانوا بجد مهتمين أن يكرسوا أنفسهم للبحث والدراسة لإيجاد بدائل علمية وليس فقط الرد بالكلام بالرفض دون تقديم الدليل، كما في الآية القرآنية 260 في سورة البقرة، )وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿٢٦٠﴾ ﴿البقرة﴾
جدير بالذكر أن العمري كان قد وثق جميع ما كتبه من مراجع علمية محكمة، غير أنه لم يذكر مراجع لعلماء مسلمين معاصرين ليثبت موقفهم من النظرية ولإثراء جمهوره بمراجع بالعربية، أو مراجع كُتبت من قِبل علماء مسلمين، لكي يتسنى للقارئ أن يقرأ من مراجع كُتبت بأقلام علماء مسلمين مباشرة، وليس فقط العلماء الغربيين، مما يجعل حجته أقوى، بطبيعة الحال، لقد انقسم جمهور العمري حول كتابه هذا، ما بين جمهور مساند وجمهور متشكك وآخر رافض لما جاء في الكتاب، وهذا متوقع، ولكن هكذا هي دائمًا بداية أي جديد.
كلنا نجتهد والله أعلم، وكما جاء في حديث الرسول محمد، صلى الله عليه وسلم: «إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثم أَصابَ فله أَجْرَان، وإِذا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثم أَخْطَأَ فله أَجْرٌ». وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى…”، إلى آخر الحديث.
جزاك الله خيرًا على جهودك دكتور العمري!
ــــــــــــــــــــــــــ
قائمة مصادر سابقة، لكاتبة هذه السطور، تتعلق بموضوع المقال للاطلاع:
- محاضرة في جامعة كامبردج في بريطانيا:
- محاضرة في جامعة الأخوين في المغرب:
- سلسلة محاضرات في اللغة العربية:
Part 1https://www.youtube.com/watch?v=Vpdpv3g00QY
Part 2https://www.youtube.com/watch?v=FbMAVXmi1-E
Part 3https://www.youtube.com/watch?v=2E3Y25vng2I
Part 4https://www.youtube.com/watch?v=rrycCBHUAFE
- مقالات علمية منشورة عام 2012:
https://onlinelibrary.wiley.com/doi/abs/10.1111/j.14679744.2012.01259.x
- مقالة علمية منشورة عام 2015:
http://muslim-science.com/task-force-essay-evolution-and-islam-is-there-a-contradiction/
- مقالة علمية منشورة عام 2015 في مجلة نيتشر باللغة الإنجليزية وأخرى بالعربية:
https://www.nature.com/news/why-i-teach-evolution-to-muslim-students-1.17364
https://arabicedition.nature.com/journal/2015/06/520409a/%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D8%A3%D9%8F%D8%AF%D8%B1%D9%91%D9%90%D8%B3-%D9%86%D8%B8%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B7%D9%88%D8%B1-%D9%84%D9%84%D8%B7%D9%84%D8%A7%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86%D8%9F
مراجع أخرى:
إعلان
عن الكتّاب
رنا دَجاني هي أستاذة بيولوجيا الخلايا الجزيئية بالجامعة الهاشمية في الأردن. وهي مؤلفة كتاب “الأوشحة الخمسة – تحقيق المستحيل”، كما أنها رئيسة جمعية النهوض بالعلوم والتكنولوجيا في العالم العربي، وهي شبكة من كبار العلماء العرب المغتربين تبني جسورًا مع أقرانهم في العالم العربي لإتاحة التوجيه والإرشاد وفرص البحوث التعاونية.