أحب – كقارئ- الكتابة التي تنبعث من بين سطورها ومضات ذكية تعبر عن روح الكاتب.
في أحيان كثيرة تكون الكتابة متقنة لغويا، المحتوى جيد، لكن لا ومضات من بين السطور.
هذا لا إشكال فيه بالنسبة لكثيرين، وكثيرا ما أضطر لتحمل ما أعتبره ” كتابة جامدة” لا روح فيها لأن المحتوى مهم وجيد، ولكن بصراحة الأمر ثقيل في أحيان كثيرة.
غالبا يعود تفضيلي هذا لمن أحببتهم كقارئ في أول تكويني، وللعلم عبارة ” الومضات الذكية” قرأتها أول مرة عن ” أسلوب غادة السمان”. وهي متوفرة عند غسان، وأيضا عند محفوظ خاصة في حواراته الروائية.
عندما أجد كاتبا جديدا ( أو لم أعرفه من قبل) ولديه ” هذه الومضات” أعامله كما يعامل بشري وجد بشريا آخر وكان يظن أن كل البشر قد تحولوا إلى قبيلة من الزومبيز.
طبعا مع كل الاحترام للأخوة الزومبيز.
هذا البشري يكون عادة فرحا باكتشافه ويعرضه على الآخرين ويسألهم: ها ؟ ها ؟ أرايتم؟ اصحيح ما قلته؟
****
الكتاب اسمه ” مضحك بالفارسية” والكاتبة اسمها فيروزة دوماس وهو عن ذكريات نشوئها كإيرانية في أمريكا، والكتاب خفيف الدم وتصنيفه سهل ممتنع بامتياز، تتكلم عن أفراد أسرتها بطريقة مرحة حتى تشعر أنك تعرفهم وربما كانوا يشبهون أفرادا من أسرتك، لكن من الصعب جدا مجاراة قدرة فيروزة على الوصف وتصويبها بدقة للنكات في مواضع محترفة جدا.
على سبيل المثال: زوجها فرنسي، تقول أن رد فعل الأمريكيين عندما يعرفون أنه فرنسي يكون بتذكر المعجنات الفرنسية والأجواء الرومانسية، أما عندما يعرفون أنها إيرانية فأنهم يتذكرون أزمة الرهائن.
أنصح بالكتاب للتعرف على ما أقصد بالومضات الذكية ( التي تشبه في أحيان كثيرة مشاهد الستاند أب كوميدي)، وللتعرف على جوانب مشتركة مع شعب أصبح بيننا وبينه سوء ظن وحواجز، وكل ذلك ضمن سياق التعرف على أمريكا أيضا.
ملحوظة مضطر لكتابتها رغم أنها بديهية: أحببت الكتاب وأسلوب كتابته، خيارات الكاتبة في حياتها الشخصية وما تتبناه من آراء أمر يخصها فقط.
وشكرا.
قبل سنوات قرأت مراجعة نقدية لكتابي ” طوفان محمد”، كتب فيها القارئ الذي نسيت اسمه ملاحظة ذكية استوقفتني مطولا.
علق القارئ على ما اسماه ( تفسيري) لاتجاه الطواف حول الكعبة قائلا: ولو كان الطواف بالاتجاه المعاكس لوجد العمري تفسيرا آخر.
كان محقا تماما. بالتأكيد لو كان الطواف باتجاه آخر، لقلت شيئا آخر. ما هو المطلوب مني في هذا الافتراض؟
****
بقيت ملاحظة القارئ معي، تلازمني عندما أكتب. بعض الملاحظات النقدية الذكية تصبح جزءا من أدوات الكاتب ومن وسائله في تطوير كتابته بل ومن طريقته في قراءة ما يكتبه، ومن ضمن هذه الملاحظات كانت هذه الملاحظة.
كنت مؤيدا لها من ناحية وجاهة الاعتراض منذ البداية، لكن مع الوقت فهمت اعتراضه أكثر، وفهمت أن اعتراضه أعمق بكثير مما قد يبدو للوهلة الأولى.
للوهلة الأولى سيبدو اعتراضه كما لو أنه يقول ( ستجدون تفسيرا لكل شيء وعكسه،…محرد كلام)، وللأمانة كان اعتراضه مصاغا بلغة مهذبة ولم يقل : مجرد كلام ولكني أريد توصيل الفكرة: أن الأمر فيي النهاية يمكن أن يفهم كما لو أنه ” بيع كلام”.
لكن في العمق هناك دافع أقوى لهذا الاعتراض.
تعودنا نبحث دوما عن التفسير، وطريقة تعاملنا مع مفهوم ” التفسير” هي طريقة أحادية جدا، دوما تفسير واحد، رغم أن كتب التفسير زاخرة بأقوال متعددة كثيرة في آية واحدة، اصطفت جنبا إلى جنب دون أن يجد أحد مشكلة في تعددها، لكن لأسباب كثيرة يجد البعض أنفسهم في مشكلة مع تعدد التفسيرات.
لكن ليس هذا هو العمق الذي انطلق منه الاعتراض برأيي.
أعتقد أننا نبحث دوما عن تفسير، حتى في الأشياء التي لا ينبغي أن يكون فيها تفسير. بالغ ( بعضنا) في ذلك، حتى وصلنا إلى هذه المرحلة.
بعض الأشياء التي لا ينبغي أن يكون فيها تفسير؟ أنت تقول ذلك؟
نعم. أنا الذي يوجد اسمي أعلاه أقول ذلك. بعض الأشياء لا يجب أن يكون فيها تفسير. لو وجدنا التفسير فخير وبركة، ولو لم نجد فخير وبركة أيضا، بالتأكيد لن يتغير شيء في حياتنا.
أمثلة؟
( لماذا صلاة الظهر 4 ركعات بينما المغرب ثلاث؟ ها ؟ ها؟ اشرح لنا السبب العلمي العقلاني يا فيلسوف عصرك)
لا يوجد سبب لهذا. على الأقل لا يوجد سبب معروف أو مقنع أو يمكن تسميته سببا، ولا يجب أن يكون هناك سبب أصلا، ولو وجد أحدهم سببا علميا عقلانيا لذلك فعلى العين والرأس، ولكن ليس كل ما هناك يجب أن يكون فيه سبب حسب مسطرة القياسات العقلانية. هناك بعض الأشياء تكون ” هكذا”.
لا أحد يقول عن سباق المائة متر لماذا لا يكون سباق المائة وخمس أمتار أو المائة وعشرين متر ( دون تشبيه) كذلك بعض الأمور يجب أن تعير في ( عدد معين) وتنظم على هذا الأساس ويجب القبول بها بسبب قبولك بمرجعية من وضع هذا المعيار، وليس من المنطقي مراجعة كل شيء أصدره المرجع في كل خطوة ( معي أم فقدتكم؟)
سيقول المعترض: أنت من تقول ذلك؟ بعض الأشياء لا تحتاج إلى تفسير؟
أرد: أكرر، نعم.
سيقول: خير إن شاء الله ( كما أفعل عندما أريد أن لا أستمر في النقاش)، لكنه في الحقيقة يريد أن يقول لي: لماذا إذن تحشر نفسك في أسباب الطواف بهذا الاتجاه وأسباب شكل القيام والركوع والسجود؟
هنا الفرق وهنا المشكلة.
نحن عموما لا نفرق بين إيجاد السبب وإيجاد المعنى.
فرق كبير بين الأمرين.
السبب علاقة شرطية بين أمرين. المطر ينزل بسبب تجمع قطرات الماء في الغيوم إلى أن تصبح ثقيلة فتسقط مطرا. هذا هو ” السبب”.
المزارع يجد في المطر نعمة ورزقا وفرصة للحياة، هذا هو ” معنى” وجده المزارع، وقد يجد المقاول صاحب البناء ” معنى مختلف تماما”، وكذلك سائق السيارة أو أي شخص ترتبط حياته مباشرة بالمطر وبما ينتج عنه، كل منهم يجد معنى ربما مختلف عن الآخر.
نرى الشمس تشرق كل يوم، ” سبب” ذلك معلوم، لكن ذلك الشخص الذي قضى ليله يتقلب في حيرة قد يجد في شروقها ” معنى” أن يقوم ليواصل حياته أو يحسم أمره أو يتغلب على حيرته، وقد يجد فيها آخر رسالة أن ينسى كل ما حدث بالأمس، وآخر يجد معنى ثالث…
عندما أتحدث عن اتجاه ” الطواف” ، فلا تفسير عندي وربما لا تفسير عند أي أحد إلا إذا كان هناك نص واضح محدد بذلك، ولكن إيجاد ” المعنى” أمر مختلف تماما.
نحن مجبولون على أن نبحث عن المعنى في كل شيء، هذا جزء من طبيعتنا البشرية، وهذا المعنى ليس بالضرورة مقنعا للجميع، كما أنه ليس السبب الذي شُرع من أجله اتجاه الطواف. لكن المعنى الذي أجده قد يساعدني ويساعد سواي في التدبر والتفكر، خاصة في أولئك الذين يحاولون أن يجدوا المعنى…
لو كنت قلت أن هذا هو (السبب/ التفسير )الذي شرع من أجله اتجاه الطواف، أو هيئة الركوع أو هيئة السجود، لكان كلامي مرفوضا مني قبل أن يرفض من سواي.
لكن ” البحث عن معنى” مختلف عن ” البحث عن سبب”.
وربما كان يجب أن أكون واضحا في التمييز بين الأمرين منذ البداية.
شكرا للقارئ الذي نسيت اسمه، وشكرا لكل القراء الذين نأخذ منهم ملاحظاتهم النقدية ونصادرها لتصبح جزءا من أدوات الكتابة…
ملحوظة: أعرف أني سأدفع ثمن هذا المنشور باستلام عدد كبير من الملاحظات النقدية، هذا ليس ” سبب ” منشوري، ولا ” المعنى” في ذهني، ولكن : خير إن شاء الله.