تجربة لينسكي من أهم التجارب إثارة للجدل بين أنصار نظرية التطور وأعدائها، فبينما يعتبرها المجتمع العلمي الأكاديمي من أهم التجارب المخبرية أهمية على حدوث التطور، فأن أعداء نظرية التطور يحاولون دوما تسخيف التجربة والتقليل من أهميتها.
هذه وقفة تبسيطية لشرح التجربة ونتائجها وأسباب الخلاف حولها.
أولا – ما هي تجربة لينسكي؟ وهي التجربة المعروفة أيضا بـ E.Coli Long Term Evolution Experiment
تعد هذه التجربة من التجارب المخبرية الرائدة طويلة الأمد في التطور المخبري ـ ابتدأت في عام 1988 وأوقفت مؤقتًا في مارس 2020 بسبب جائحة كورونا .. ثم استؤنف العمل فيها بتاريخ 22 سبتمبر 2020 .
ملخص التجربة أن لينسكي وفريقه وضع 12 عينة متطابقة من بكتيريا E. Coli (وهي بكتيريا تعيش في أمعاء الإنسان) في ظروف معينة متطابقة من ناحية درجة الحرارة والغذاء المقدم لها وراقب تطوراتها الجينية عبر الأجيال المتعاقبة وهي تتضاعف، وقد وصل عدد الأجيال إلى 75 ألف جيل تقريبًا قبل تجميد التجربة عند الجائحة، بعض التغيرات لوحظت في كل العينات، مثل قدرتها على التضاعف أسرع من “عينات نقطة البداية” وكبر حجمها..
لكن في حدود الجيل الـ 31 ألف إلى 31500 حدث شيء مثير في عينة واحدة فقط ولم يحدث في العينات الباقية، حيث تمكنت هذه العينة من هضم “السترات” ( الأحماض) وهي صفة غير موجودة عند الـ E. Coli التي تعيش على الجلوكوز حصرا.
بالمختصر المفيد: حدثت تغيرات في عينة واحدة فقط، أدّت هذه التغييرات إلى وجود سلالات جديدة من البكتيريا في هذه العينة تتمكن من هضم السيترات بينما بقيت العينات الأخرى غير قادرة على ذلك.
بعبارة أخرى: حدثت الطفرات في عينة واحدة فقط، وأدت هذه الطفرات إلى جعل هضم السيترات ممكنا في عينة واحدة فقط.
بينما لم تحدث هذه الطفرات في العينات الأخرى.
اعتبر البعض هذا بمثابة “خطوة أولى محتملة نحو التطور الكبروي” أي أن تقود هذه الصفة الجديدة إلى المزيد من التغيرات التي تقود بدورها إلى ظهور نوع جديد.
ثانيا – لماذا تستفز هذه التجربة أعداء نظرية التطور؟
التجربة مهمة جدًّا لأنها قدمت نظرة من الداخل على ما يحدث في التطور وعدلت من بعض التصورات السابقة عن وصول التطور إلى نهاية عندما تتوازن البيئة مع الكائنات فيها، حيث قدمت التجربة ما يفيد أن التطور يستمر.
مجرد إثبات وجود طفرات يزعج الأخوة محاربي نظرية التطور، فكيف إذا كان الإثبات يصل إلى أن هذه الطفرات نافعة.
الرد الذي يعجب جمهور محاربي النظرية هو مثال مباشر على سوء فهم النظرية، حيث يقولون: لكن البكتيريا بقيت في نهاية التجربة بكتيريا، ولم تتحول إلى ديناصور أو تنين أو حتى قطة؟
وهو تعليق يحتاج إلى إعادة طرح السؤال الشهير: ماذا تعرف عن المنطق؟
بعض التفسيرات للتجربة المقدمة من قبل أعداء النظرية هو أن البكتيريا أصلًا كانت لديها القدرة على هضم السترات، ولكنها لم تكن بحاجة لها لوجود الجلوكوز، ثم لما نفد الجلوكوز، استطاعت البكتيريا تفعيل “قدرتها ” الكامنة على هضم السترات..
أي حسب هذا التفسير : لم تضف “معلومات وراثية” جديدة إلى البكتيريا، لا توجد طفرة بالأساس…
ملاحظتان أساسيتان على هذا التفسير:
أولا -إذا كان الأمر كما يقول هذا التفسير، مجرد تأقلم عادي تقوم به البكتيريا باستمرار: فلماذا لم يحدث مع العينات الباقية التي استمرت بالتكاثر والتضاعف ضمن ظروفها دون أن تصل إلى هضم السترات، ولم تصل إلى ذلك بعد أكثر من 70 ألف جيل.
ما تقوله التجربة أن طفرات معينة حدثت بحيث ” فعّلت” القدرة على هضم السيترات.
والفرق بين هذا وما يقوله هذا التفسير كبير جدا.
بعبارة أخرى: سيكون هذا التفسير وجيها في حالة واحدة فقط..، لو أن هذه التأقلمات حدثت في كل العينات.
آنذاك سيكون هذا التفسير منطقيا ومقبولا، أما عندما يكون ما حدث ( بغض النظر عن تسميته، تطور أو تأقلم أو أي اسم جديد) قد حدث في عينة واحدة فقط، فالحديث العام عن ( البكتيريا شديدة المرونة) لا معنى له في هذا السياق، وهو لا يفسر ما حدث لأنه لا يقدم تفسيرا عن عدم حدوث الشيء ذاته مع العينات المتبقية.
ثانيا – الاقتباس المتداول عند أعداء النظرية من مقال مجلة Nature يهمل السطر السابق مباشرة لهذا الاقتباس.
حيث تقول الفقرة كاملة:
At least three distinct clades coexisted for more than 10,000 generations prior to its emergence. The Cit+ trait originated in one clade by a tandem duplication that captured an aerobically-expressed promoter for the expression of a previously silent citrate transporter.
(على الأقل ثلاث “مجموعات مميزةclades ” نشأت قبل 10 آلاف جيل من ظهور السمة الجديدة لهضم السترات، هذه السمة ظهرت من واحدة من هذه المجموعات عن طريق تكرار ترادفي تمكن من “إنجاز” ناقل يعبر عن ناقل السترات)
بعبارة أوضح: مقدمات ما حدث لم تكن موجودة في البكتيريا منذ البداية، بل ظهرت بعد 20 ألف جيل، وتطورت تدريجيًّا خلال عشرة آلاف جيل آخر إلى أن ظهرت القابلية لهضم السترات.
بينما الاقتباس ( معزولا عن سياقه) يوحي لنا أن الأمر كان موجودًا منذ البداية، وأن كل ما في الأمر تكيفات حدثت مع بيئة جديدة.
ولمعرفة أدق بما حدث بالتدريج يمكن أن نتابع ماذا حصل في التجربة منذ البداية فقد نشر لينسكي نتائج تجاربه عام 1991 بعد أن حصل على 20000 جيل من البكتيريا وأشارت النتائج الأولية للتجربة إلى عدم وجود تباين جيني واضح بين المجموعات الاثنتي عشرة ، وبعد مرور عقدين من الزمن حصل التغير في هذه المجتمعات البكتيرية وبدأت تظهر الطفرات المفيدة بعد 20 ألف جيل .
نفهم من هذه السلسلة المتصلة من التجارب العلمية أن التطور الجيني ظل ثابتًا لعشرين ألف جيل ولكن الأجيال اللاحقة في واحدة من المجموعات طورت معدل طفرة مرتفع وتراكمت العديد من الطفرات الإضافية المفيدة للبكتريا والتي مكنتها من استخدام مسارات أيضية بديلة عن الكلوكوز.
بالمناسبة لينسكي ليست لديه مشكلة مع مصطلح الـ “adaptation” ، بل إن إحدى مقالاته العلمية عن هذه التجربة كانت عن الـ “adaptation” تحديدًا، ففي بحث علمي نشره لينسكي عام 2003 ناقش لينسكي “التجارب التطورية في الكائنات الدقيقة: الأساس الديناميكي والجيني للتأقلم “.
لينسكي يتحدث عن الأساس الجيني للتأقلم – adaptation- والمفردة تذكر في عنوان البحث أصلًا.
وبالمناسبة، رغم كل حديث أعداء النظرية عن مقاصد التجربة من إنكار الخالق، فإن ريتشارد لينسكي يتحدث عن العلاقة بين الدين والعلم وكيف أن لكل منهما مجاله الذي لا يجب أن يتداخل أو يتعارض مع الآخر .
رابعا – لماذا يركز أعداء نظرية التطور على مهاجمة هذه التجربة؟
ببساطة لأن التجربة معقدة وفيها تفاصيل كثيرة، وأعداء النظرية يعون تماما طبيعة جزء كبير من جمهورهم الذي لن يجد الوقت ( أو القدرة) لتدقيق ما يقال أو الإطلاع على تجربة علمية معقدة، لذا فأن ( تجربة لينسكي) ستكون فرصة مناسبة لكي نقول شيئا لجمهور لا يعرف شيئا عما نتحدث عنه، ولا يملك الوقت أو الأدوات اللازمة لمعرفة ما نقول.
****
من الجدير بالذكر أن التجربة قد وجدت من يعتبر نتائجها ” مؤيدة” للتصميم الذكي، أو لمبدأ وجود ” خالق” صمم التطور بحيث يصل إلى ما وصلنا إليه من مخلوقات شديدة التعقيد.
من هؤلاء العالم الشهير مايكل بيهي صاحب اعتراض ” التعقيد غير القابل للاختزال”، ففي مقال منشور له تحدث عن كونه من أشد المعجبين بريتشارد لينسكي وبعلميته، ورغم وجود ملاحظات له على نتائج التجربة إلا أنه أوضح أنها ” أكدت له صعوبة حدوث التطور فقط حسب الآليات الداروينية”.
بعبارة أخرى: بما أن التجربة قد استغرقت ما يعادل مليون سنة في المخلوقات كبيرة الحجم، مع نتائج تعتبر بسيطة إذا قيست بمقياس التطور الكبير بين الأنواع، فأن مايكل بيهي اعتبرها دليلا إضافيا على ضرورة وجود “تدخل” من ” مصمم ذكي” لكي يقود التطور إلى نتائجه النهائية.
هذا الاستنتاج الذي لا يسفه نتائج التجربة ولكن ينظر لها من منظور مختلف هو استنتاج جدير بالاحترام والتعامل معه بجدية.
والنظر إلى التجربة من هذا المنظور يمكن أن يجعلنا نقول بعد تفكر عميق: سبحان الخالق.
من كتاب ” لا شيء بالصدفة” بتصرف.
المصادر :
Test Tube Evolution Catches Time in a BottleTim Appenzeller Science 25 Jun 1999:
Vol. 284, Issue 5423, pp. 2108 https://msu.edu/~lenski/sciencearticle.html
Updated: Labs go quiet as researchers brace for long-term coronavirus disruptions By Kelly Servick Mar. 16, 2020
https://www.sciencemag.org/…/updated-labs-go-quiet…
They are Back! Telliamed Revisited September 22 2020
https://telliamedrevisited.wordpress.com/…/22/theyre-back/
We Interrupt this Nasty Virus with Some Good News about Bacteria Telliamed Revisited ( Richard Lenski Blog) February 24 2020
https://telliamedrevisited.wordpress.com/…/we…/
Historical contingency and the evolution of a key innovation in an experimental population of Escherichia coli
Zachary D. Blount, Christina Z. Borland, Richard E. Lenski Proceedings of the National Academy of Sciences Jun 2008, 105 (23) 7899-7906
https://www.pnas.org/content/105/23/7899
Test Tube Evolution Catches Time in a BottleTim Appenzeller Science 25 Jun 1999:
Vol. 284, Issue 5423, pp. 2108
https://msu.edu/~lenski/sciencearticle.html
On the Evolution of Citrate Use Telliamed Revisited February 20 2016
https://telliamedrevisited.wordpress.com/…/on-the…/
Blount, Z. D., Barrick, J. E., Davidson, C. J., & Lenski, R. E. (2012). Genomic analysis of a key innovation in an experimental Escherichia coli population. Nature, 489(7417), 513–518. https://doi.org/10.1038/nature11514
https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC3461117/
ong-Term Experimental Evolution in Escherichia coli. I. Adaptation and Divergence During 2,000 Generations Richard E. Lenski, Michael R. Rose, Suzanne C. Simpson, and Scott C. Tadler The American Naturalist 1991 138:6, 1315-1341
https://www.journals.uchicago.edu/doi/abs/10.1086/285289
Barrick, J., Yu, D., Yoon, S. et al. Genome evolution and adaptation in a long-term experiment withEscherichia coli. Nature 461, 1243–1247 (2009). https://doi.org/10.1038/nature08480
https://www.nature.com/articles/nature08480
Elena, S., Lenski, R. Evolution experiments with microorganisms: the dynamics and genetic bases of adaptation. Nat Rev Genet 4, 457–469 (2003). https://doi.org/10.1038/nrg1088
https://www.nature.com/articles/nrg1088
“Science and Religion: Vive la Différence” by Richard E. Lenski
[This text of a talk that was presented October 18, 1998, in East Lansing, Michigan, as part
of a forum on “Our Evolving World: Challenge to Mind and Spirit.”
http://myxo.css.msu.edu/…/history/science_and_religion.pdf
https://telliamedrevisited.wordpress.com/…/philosophy…/