د.أحمد خيري العمري
يناير 2011
سيهب البعض دفاعا عن ما يتوهمونه نص حديث نبوي و يقومون برجمي بالحجارة اللفظية لجرأتي في التلاعب بنص حديث نبوي..
لكن الحديث رغم اشتهاره على ألسنة الوعاظ و العامة- وبعض من يعتبرون أنفسهم “خواص”- إلا أنه لا أصل له ..أي قد ثبت تماما إنه عليه الصلاة والسلام لم يقله و ثبت أيضا ضعف حديث آخر قريب من المعنى (تفاءل بما تهوى يكن !)…
رغم ذلك..فالحديث مشتهر جدا وهو حاضر دوما في “العقل الجمعي” وفي الثقافة الشعبية السائدة و حضوره مصاحب دوما لذكر إنه حديث نبوي مما يجعل له فاعلية معينة محصنة بقداسة ذكره الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام..
وقد استخدم هذا الحديث بعض مدربي ما يسمى بالبرمجة اللغوية العصبية والتنمية الذاتية..فتم الربط بين هذا “الحديث المزعوم” وبين صرعات غربية عابرة ولا أساس علمي لها (مثل ما يسمى بقانون الجاذبية- لا علاقة لها بجاذبية نيوتن قطعا!- والتي تقول إنه بإمكانك جذب الأحداث عبر السعيدة إلى حياتك عبر بعث رسائل إيجابية إلى المحيط من حولك..الخ هذه الخزعبلات والخرافات المعاصرة التي لا أرى أنها أقل خرافية وسلبية من التوسل بالأولياء والاستعانة بالجن والعفاريت..)..
نقاشان حدثا مؤخرا على الفيس بوك أثارا انتباهي إلى خطورة التفاؤل الساذج وانتشاره بين شباب هم الرصيد الحقيقي للتغيير المنشود..
النقاش الأول حدث بعد فوز دولة قطر بحق تنظيم كاس العالم لعام 2022، وكان من الطبيعي جدا أن يحدث شد وجذب بين مؤيد ومهلل وناقم وناقد..وهو أمر لا إشكال كبير فيه..المهم أن مسار النقاشات انتهى إلى فرضية صعود إسرائيل إلى التصفيات المؤدية إلى الدورة وبالتالي اضطرار الدولة المنظمة إلى القبول بمشاركتها ..
هنا انبرى البعض يتحدث بثقة عجيبة، ويذكر بأن نتفاءل بالخير،.. بل ويقرع البعض الآخر: لماذا نحن متشائمون هكذا، من قال أصلا إن إسرائيل ستكون موجودة في عام 2022؟ ، ..خيرا إن شاء الله لكن أين ستكون قد ذهبت؟..لا يهم، في البحر..، تحت الأرض.. ، “في داهية”.. المهم علينا أن نتذكر حديثه عليه الصلاة والسلام، ونتفاءل بالخير لنجده.. علينا أن نتفاءل أنها لن تكون موجودة… والباقي مجرد تفاصيل لا علاقة لنا بها..
قد يبدو للوهلة الأولى إن هذا الكلام كان مقبولا عام 1948 ،عندما ترك الفلسطينيون منازلهم على أمل عودة قريبة جدا بعد أسابيع أو أشهر، لكن في الحقيقة إن هذا التفكير لم يكن مقبولا قط لا يومها و لا اليوم من باب أولى,, لأن هذا النمط من التفكير الذي يتجاوز الواقع و السنن الإلهية التي وضعها الله في تدبير الكون، هو الذي أودى بنا إلى هذا الدرك.
هذه النظرة الساذجة عن زوال إسرائيل عام كذا وكذا، مدعمة بخزعبلات رقمية يروج لها البعض بالاستناد على ما لا سند له من استخدام الإعداد في القرآن الكريم- بتكلف شديد-وهي تجد سوقا لها عند الشباب للأسف وتبدد عندهم طاقة العمل الحقيقي الذي يتطلب الوعي والتخطيط..
كيف يمكن لعقل تشكل بالقرآن الكريم..، و تشرب بقصص الرسل والأنبياء أن يقتنع بأن إسرائيل ستزول خلال عشر سنين أو أقل أو أكثر..أي بغمضة عين بحسابات التاريخ بل وحتى الأفراد..كيف لعقل تشكل بالمعطيات القرآنية ، التي ركزت دوما على إن درب التغيير طويل طويل، وإن بعض الأنبياء لا يتمكنون من المضي فيه للنهاية، كيف يمكن لعقل كهذا أن يقبل فكرة إن دولة إسرائيل، يمكن أن تزول فجأة، دون مقدمات تسبق ذلك بعقود، مقدمات لا تخص إسرائيل بقدر ما تخص من يريد زوالها دون أن يفعل شيئا في سبيل تحقيق ذلك، اللهم إلا التفاؤل الساذج إياه..
هل أذيع سرا صادما لو قلت إن إسرائيل في أقوى حالاتها وإن وجود بعض الاستثناءات النادرة لهذا (مثل انتقاد بعض وسائل الإعلام لإسرائيل أو عتب البرلمان الأوروبي عليها !) لن تغير من هذه الحقيقة الجاثمة على واقعنا؟
وهل أذيع سرا لو قلت إن مواجهة الناس بالحقائق مهما كانت مؤلمة أجدى على كل الأصعدة من تخديرهم بأوهام أفيونية براقة لا تمت للواقع بصلة.. وإن مجرد تصديقهم لمقولة كهذه يدل على وجود عمى عن رؤية واقع يمكن رؤيته بالعين المجردة ولا يحتاج لأي جهد لأدراك مدى سوئه.. هل أذيع سرا لو قلت إن إبلاغ المريض بسوء حالته الصحية أجدى من الكذب عليه حتى لو أدى الكذب لرفع روحه المعنوية مؤقتا (ما فائدة ذلك إن كانت روحه ستطلع بكل الأحوال؟)..على الأقل في الحالة الأولى سيحاول المريض البحث عن علاج..
كيف يمكن لعاقل أن يتصور إن زوال إسرائيل يمكن أن يحدث هكذا بلا مقدمات ممهدة؟ حتى لو افترضنا إن زعيما ما سيشق الأرض فجأة-كما يأمل البعض- ويقودنا لتحرير فلسطين…هل سيكون صاحب معجزات حتى يتمكن من ذلك؟ حتى عصا موسى لم تفلح في تغيير نفوس قوم موسى..فلم نتصور إن تغييرنا أسهل؟ وإنه يمكن تغيير كل الأسباب الداخلية- والخارجية – التي أدت لقيام إسرائيل بضربة عصا…؟
الحدث الفيسبوكي الثاني لا يقل طرافة وإثارة للحزن في الوقت نفسه، أحدهم يملك موهبة متوسطة في الفوتوشوب و يحب “الجهاد” وبدلا من أن يبذل جهدا أكبر في تطوير موهبته، يضع صورة للفاتيكان-كنيسة القديس بطرس- ويقوم بإدخال أعلام سود عليها كتب عليها “لا إله إلا الله، محمد رسول الله”..وعبارة في صدر الصورة تقول: هكذا سيكون حالك يا روما..-!!- انتظرينا يا روما !!!
وفي ذيل الصورة نص للحديث الذي يتصور انه يعني فتح روما (لا أجد فيه شخصيا ذلك لكن هذا موضوع آخر!)..
أحد الأخوة استضاف هذه الصورة و ترك تعليقا ضد محتواها (بالضبط ضد الفكر اللافكري كما قال) فانهالت التعليقات بين مذكر ومؤنب –و كان من التعليقات ما يستحق التوقف طويلا طويلا..قال التعليق مخاطبا المستنكر و بمنتهى الجدية “إن أحياني الله ..صدقني سأجعلك واليا على روما.. أظنك ستنسى قولي هذا….
لكن صدقني .. سأذكّرك
إن شاء اللهلكن صدقني.. سأذكرك إن شاء الله”..
أكرر: هذا التعليق قيل بمنتهى الجدية، و الشخص القائل مهندس ميكيانيك شاب..أي أنه قد نال تعليما أكاديميا عاليا ..
هناك إذن من يعتقد إن المسلمين سيقومون في غضون عقود قليلة- باعتبار إن المعلق يتحدث عن بقائه حيا – بالوصول إلى روما وفتحها..!!
هذا ليس بتفاؤل طبعا. كل من يتصور ذلك إن هذا نوع من التفاؤل عليه أن يعيد حساباته… بل هو عجز حقيقي عن رؤية الواقع المحيط وإصرار على دفن الرؤوس في مستنقع من الأحلام التي توفر نوعا من الملاذ المؤقت العابر… لا أناقش هنا مفهوم الفتح و لا الحديث –الذي يفهم منه البعض البشارة بفتح روما- و سأفترض جدلا فقط إن الفتح المقصود هو “الفتح العسكري فقط” و إن روما المقصودة هي عاصمة إيطاليا.. وإن التعامل مع أحاديث الآحاد يجب أن يكون بهذه الحرفية في مسألة اعتبرها لا تقل أهمية عن مسائل العقيدة..
سأفترض كل ذلك وأتجاوز كل الملاحظات المحتملة في كل فقرة للوصول إلى مدى واقعية النقاش برمته، الذي يجعل شابا يدرس الميكانيك -أي الحركة الناتجة عن القوى المسلطة على الأجسام..أكثر العلوم التطبيقية ارتباطا بالسببية بأوضح مفاهيمها-..يجعل هذا الشاب يعتقد إن بيننا و بين فتح روما – أي غزوها بالمعنى المباشر الذي يقصده- مجرد عقود قليلة يمكن عبورها في حياة فرد..ليس هذا فقط.. بل هو متفائل لدرجة تجعله يتصور إنه سيكون من المكان والمكانة ما يؤهله لتعيين أحدهم واليا على روما!!! و لم هذا الاختيار؟ فقط لأن هذا الشخص ليس متفائلا لهذه الدرجة.. أي فقط لنريه كم هو مخطئ في سوء تقديراته!
كلمة “أحلام اليقظة” قد تبدو هنا مخففة.. كذلك كلمة الجهل.. لا أشك في وجود “حسن للنية” عند هذا الشاب أو سواه من المتفائلين.. لكن النية لا تصلح العمل الخاطئ..(يجب أن يكون العمل صوابا والنية كذلك) فكيف ستصلح النية الطيبة “اللاعمل”.. كيف ستصلح النية الحسنة أحلام يقظة تعمي الشباب عن رؤية الواقع الحقيقي وتنقلهم إلى عالم خيالي لا صلة له بالمحيط الخارجي الفعلي..
في حلم اليقظة هذا جملة من المفاهيم التي يجب أن تدق صفارات إنذار.. هناك مفهوم “الفتح” الذي من الواضح إنه لا يزال مقتصرا على الصورة الذهنية المسلحة (رغم إن الطرح القرآني بعيد تماما عن هذا.. بل إن الفتح أرتبط في القرآن بالصلح -!!- و بنصر لم تهرق فيه قطرة دم واحدة..!)..
هناك أيضا مفهوم “الوالي” –وتعيينه!- الذي تعامل معه الأخ كما لو كان من ثوابت الإسلام- وهو في الحقيقة مجرد مفهوم تاريخي عابر فرضته ظروف تنظيمية و تنفيذية خاصة بذلك الوقت وليس من المنطقي التمسك بها والتعامل معها كما لو كانت أصلا ثابتا من أصول الإسلام..
حلم اليقظة هذا إذن لا يفضح التفاؤل الساذج فقط كما قد نتصور للوهلة الأولى.. بل هو يحمل في ثناياه جذور الأزمة التي جعلتنا نصل إلى واقع هو كالكابوس وأكثر: عجزنا عن التفريق بين ما هو ثابت وأصيل و ما هو عابر و مجرد إجراء تنفيذي في ديننا..
يعكس الحلم أيضا حقيقة إن هذا التفاؤل هو مثل عصابة وردية اللون يضعها البعض على أعينهم كي لا يروا كم هو سيء هذا الواقع الذي يعيشون فيه..
لنفترض فقط- على سبيل الجدل- إن فتح روما هو غاية إسلامية ثابتة…كيف يتصور أي شخص عاقل – ناهيك عن كونه متعلما- إن هذا ممكن في غضون عقود قليلة بينما نحن بهذا العجز والتخلف وعواصمنا بعضها محتل رسميا و بعضها محتلة بشكل غير رسمي!!.. عندما يعتقد البعض إن بيننا و بين الفتح عقود قليلة بينما نحن نعجز عن صنع الإبرة.. ناهيك عن صنع الصاروخ والدواء والطائرة والحاسوب وكل ما يمكن أن تستمر الحياة به..عندما يعتقد البعض إن ذلك ممكن – ولو من باب التفاؤل- فهذا يعني إن علينا أن نستجوب كل ما جعل رؤيتنا ضبابية و مشوشة لهذا الحد..
عندما تكون مريضا لحد الاحتضار وتجهل ذلك بل تصر إنك بخير فهذا يعني إن مرضك مزدوج وإن الخروج منه سيكون أصعب بكثير من المريض صاحب نفس الحالة المرضية الذي يقر بمرضه و يسعى بالتالي للعلاج.. عندما تكون أعيننا عاجزة عن رؤية البون الشاسع بيننا وبينهم، ويؤدي هذا العجز إلى الاعتقاد إلى التصور الساذج بأنه يمكن تحقيق انتصار عسكري – بل فتح عاصمة من عواصمهم!!- في غضون عقود ثلاثة أو أربعة.. فإن الأمر يتجاوز-في رأيي- السذاجة و عمى البصيرة إلى ما يقرب أن يكون خللا عقائديا ..
كيف؟.. العلاقة بين الأسباب والمسببات –المادية والاجتماعية و النفسية- كلها تندرج ضمن السنن الإلهية التي وضعها خالق الخلق لتصريف الكون.. تجاوز هذه السنن وتداخل أسبابها ومسبباتها و نتائجها هو خلل عقائدي أولا لأنه يحاول تجاهل الإرادة الإلهية التي “اختارت” السنن لتكون أداة للتصريف.. وعندما أقول اختارت فأني أعني إن السنن الإلهية –التي لا فكاك منها ولا تبديل لها- تستغرق وقتا.. وإن هذا الوقت هو جزء من السنة الإلهية..
كل ما في الخطاب القرآني يؤكد ذلك.. وكل ما في سيرته وسنته عليه الصلاة والسلام يجسد انعكاسا بشريا و تطبيقا عمليا لذلك..
الخطاب القرآني عندما سرد قصة الخلق ركز على استغراق ذلك “سبعة أيام” وأشار إلى نسبية مفهوم الزمن ” تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ” المعارج(4)
” وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ” الحج (47)
أي إن سبعة أيام الخلق هي سبعة أيام بحسابات مختلفة عن حساباتنا ويمكن أن تعادل مئات الآلاف السنين بحساباتنا.. ما علاقة هذا كله بما نتحدث عنه؟…العلاقة وثيقة..السنن – سواء كانت سنن الخلق أو سنن التغيير أو سنن الفتح أو سنن الإصلاح- كلها تستغرق وقتا لكي تتحقق و تنجز نتائجها.. وهو درس كبير على الإنسان المؤمن أن يفهمه ويعيه أولا.. كان يمكن لقصة الخلق أن تستغرق برهة.. أن تكون كلمح البصر.. كذلك كان يمكن لقصص الرسل والأنبياء أن تكون مختصرة بنصر إلهي يغير نفوس الكفار ويقيم الحق والعدل وينسف الباطل من أساسه.. كان ذلك ممكنا كله بقدرة الله اللانهائية.. لكنه لم يحدث.. كان يجب على المؤمنين تحمل مسئوليتهم في التغيير و قيامهم بدورهم في معادلة السنن الإلهية.. حتى لو أستغرق ذلك وقتا طويلا جدا.. بل حتى لو استغرق ألف سنة إلا خمسين..
فهم هذا والإيمان به حد التشرب جزء أساسي من التخطيط لأي مشروع حضاري نهضوي.. جزء أساسي من التغيير الذي يتطلب رؤية بعيدة المدى وطول نفس يتجاوز العمر الفردي للأشخاص وصولا إلى عمر الأمم.. وكلما كانت نقطة الهدف بعيدة عن نقطة الانطلاق.. كلما كان الوقت المستغرق بالوصول أطول و الدرب أكثر صعوبة ووعورة.. وليس في معرفة ذلك والوعي به أي إحباط أو يأس.. إنه حقيقة يجب التعامل معها كما هو التعامل مع أي حقيقة علمية عن نسبة الأوكسجين في الهواء مثلا..القافزون فوق هذه الحقيقة –عبر تفاؤل ساذج غير منضبط بالحقائق القرآنية- إنما يعارضون سننا وحقائق قررها القرآن.. إنهم يحاولون السير عكس حركة السنن الإلهية.. حتى كلمة سير هنا تبدو غير مناسبة.. لأنهم لا يسيرون أصلا.. إنهم يحلمون فقط.. يحلمون عكس السنن القرآنية.. وهو نوع من الحلم لن يجد السبيل لتحقيقه ما دام يتجه عكس هذه السنن.. حتى لو كان مليئا بنوايا طيبة لا محل لها من الإعراب ما لم تلتحم بالعمل..
بل إن أولئك الذين يحلمون بفتح روما خلال عقود إنما يتصورون أنهم سيحققون ما لم يحققه عليه الصلاة والسلام.. لقد استغرقت رحلة هدم الجاهلية و بناء المجتمع الإسلامي ثلاث عقود رغم إن المسافة بين إمكانات الطرفين لم تكن بحجم المسافة بيننا وبينهم اليوم.. كانت هناك مسافة قيمية حتما.. لكن مسافة الإمكانات والوسائل لم تكن بعيدة، بل إنها سرعان ما انقلبت لتكون لصالح المجتمع الوليد الذي جعل النظام والتنظيم أساسا من أساساته..
المسافة اليوم بين النقطة التي نحن فيها الآن والنقطة التي يحلم هؤلاء بالوصول إليها شاسعة وحافلة بالتعقيدات.. مسافة تراكمت فيها الوسائل والإمكانات و القيم التنظيمية لصالحهم.. بينما فقدنا نحن الكثير من رصيدنا القيمي… فقدنا القيم الإيجابية القرآنية التي كانت بمثابة المحرك الداينمو الذي جعل الإنسان المسلم ينهض ليغير العالم يوم كان ما كان.. و أحللنا بدلا عنها قيم السلبية والخرافة والتواكل والاستسلام لكل ما تأتي به الرياح.. وألبسنا ذلك كله لباسا إسلاميا بينما القيم الإسلامية الحقيقية هي الضد من كل ذلك..
بعض هؤلاء المتفائلين قد لا يستخدم الحديث الذي لا أصل له بل يستخدمون نصوصا صحيحة ولكنها تُقسر على مفاهيم لا علاقة لها بأصل النص أو فهمه الصحيح..
مثلا.. سيقولون لنا إن الله قادر على كل شيء وإن ذلك كله ليس على الله بعزيز وإن أمره بين الكاف و النون.. إذا قال لشيء كن فيكون.. وهذا كله مما لا جدال فيه ولكن لا علاقة لهذا بما نتحدث عنه.. الله لم يخلقنا لكي يستجيب لدعواتنا وطلباتنا.. لقد خلقنا لكي نستجيب نحن له.. وهو ينصر عباده فعلا ويمدهم بعونه.. لكن ذلك مشروط أولا بنصرهم له..أي بالتزامهم بسننه وقوانينه و تعليماته.. لن ينصرهم عندما يكون “اللافعل” هو كل ما يفعلونه (النوم والأحلام مدرجة ضمن اللافعل هنا)..
أمره بين الكف والنون؟ بالتأكيد.. لكن المسافة بين الكاف والنون نسبية جدا.. وقد خلقنا نحن بالذات لنجسرها..لنقطع تلك المسافة بين الكاف والنون.. خلقنا لنكون نحن.. خلقنا لكي ننفذ إرادته… وليس لكي نتفرج على ما يحدث بين الكاف والنون…
يستخدم البعض منهم الحديث القدسي الصحيح “أنا عند ظن عبدي بي” ليبرر هذا التفاؤل الساذج.. يعتقد إنه يمكن أن يظن بأن الله سيقدم له النصر كهدية من السماء لكي يحدث هذا النصر فعلا.. وينسى هذا البعض إن الحديث كله جاء في سياق التزام العبد بالطاعة أي قيامه بعمل أساسا قبل “الظن المجرد”.. “أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم وإن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا وإن أتاني يمشي أتيته هرولة..“
البعض منهم سيستخدم أثرا صحيحا ويحاول مطه ليكون بحجم خيباتنا و خدرنا… سيقول أنه عليه الصلاة والسلام كان يعجبه “الفأل الحسن”.. نعم كان يعحبه ذلك.. وهذا لا علاقة له بشيء مما قيل.. الفأل الحسن هو الكلمة الطيبة تقال دون قصد مسبق فتشجع على العمل وعلى المضي فيه.. وهي عكس الطيرة تماما.. ولا يمكن أبدا تطبيقها على أحلام العاطلين عن الفعل العاجزين عن رؤية الواقع…
التفاؤل الساذج-الذي يستجدي الدعم من نصوص دينية ضعيفة أو صحيحة مجتزأة- هو مرض عضال ينتهي إلى اليأس القاتل.. بل إنه يأس يضع قناعا مبتسما ليس إلا.. فبعد قليل سيدخل الشباب –الذين أصيبوا بهذا التفاؤل- معترك الحياة الحقيقية وطواحينها المباشرة ليكتشفوا إن الأمر أصعب بكثير مما زين لهم تفاؤلهم.. وتذوب تلك الأمنيات والأحلام لأنها لم تجد وعيا يحتضنها ويضعها في إطارها المنضبط بالسنن الإلهية والنصوص الثابتة..
لا شيء أبدا يبرر التساهل في الإبقاء على هذه المفاهيم دون اجتثاثها من جذورها..فليس أكثر من مضيعة لجهود الشباب من هذا التفاؤل الذي يمنع عنهم الوعي و يحجب عنهم الرؤية..
“أليس الصبح بقريب؟”.. بلى،هو كذلك..الصبح قريب.. لكن فلنتذكر… لقد سبقت هذه الإشارة وفي نفس الآية الكريمة الإشارة إلى السير ليلا.. “ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ”
الصبح لن يأتي إلا إذا سرنا إليه.. لن ينتظرنا في نومنا و يسير إلينا..
نحن من يجب أن نتحرك باتجاهه.. مهما كان الدرب وعرا ومظلما..