لا يزال سائق سيارة الأجرة في بغداد يقول لك ” خليها” عندما تهم بمنحه أجرته، ولا يزال يعتذر لك بحرارة إذا كان لا يستطيع إيصالك إلى وجهتك، كما لو أنه قد أجرم بحقك.
لا يزال الشاي في بغداد شايا حقيقيا، لونه غامق ورائحته رائحة الهيل ولكن ميزته الأهم أنه يعرف مداخله إلى دماغك فورا.
لا تزال ” تفضل” تلفظ ” تفظل”، ولكنها تبقى أجمل “تفضل” في العالم.
ولا تزال أنت ” عينا” لمحدثك، سواء كان يلاطفك أو يعاتبك أو على وشك أن يتشاجر معك.
لا يزال الحمام ينوح في بغداد. لم اسمع نواحا في أي مكان زرته في العالم كنوح الحمام في بغداد، تراه تعلم منا؟ أم نحن من تعلمنا منه؟ أم أن بغداد هي التي علمتنا جميعا؟ أم أنها بريئة من ذلك، ونحن نحب النواح وهي في سرها تضيق منه ومنا؟
لكن بغداد لا تعلم النوح فقط، بل تعلمنا أشياء كثيرة، أهمها أننا غير مهمين كما نتوهم، وأنها تستمر بنا وبغيرنا أو من دوننا ومن دونهم، وأنها تكبر وتنمو وتتغير وتتركنا ننوح على ذلك إلى أن ندرك بالتدريج أنها سُنّة الحياة، كل ما في الأمر أن هذه السُنّة قد حدثت بسرعة أكبر هذه المرة، وأنها لو حدثت عبر مدة زمنية أطول لأعتدنا الأمر بنواح أقل.
بغداد مُتعَبة ومُنهَكة كما هي متعِبة ومنهِكة، ولكنها حية، أجرت بعض عمليات التجميل على وجهها العريق فزادتها العمليات تعبا وإرهاقا..فالبوتوكس والفيلر بأيدي غير ماهرة يمكن أن يؤدي إلى نتائج سلبية. لكنها مسألة وقت فحسب…أما أن يزول أثر هذه العمليات، أو أن نعتاد عليها.
قد تختلف صورة بغداد الحالية عن صورتها في أذهاننا، لكن آن أن ننتهي من حالة النوستالجيا التي يبدو أنها قد طالت أكثر مما يجب.
لا يوجد مدينة بقيت على حالها، ولا نحن بقينا كما كنا يوم غادرناها، وما دام الأمر لا يمكن تغييره، فلا مفر من تقبله والتعايش معه، وعندما نفعل ذلك، قد نجد أشياء جميلة كثيرة لا تزال في بغداد ( وأشياء كثيرة أخرى يجب أن تزال، لكن هذا لا يعني أنها لم تكن موجودة في نسخة بغداد القديمة).
*******
في تظاهرة ضد العولمة في واشنطن، قبل أكثر من عشر سنوات، وقف على جانب التظاهرة متظاهرون مؤيدون للعولمة وهم يرفعون لافتات مضادة من ضمنها لافتة كتب عليها ( جيفارا مات، تقبلوا الأمر Geuvara is dead, live with it ).
بغداد تقبلت الأمر، وحولت تشي جيفارا -الثوري الماركسي الشيوعي- من منظّر عن الصراع (الطبقي) إلى مطعم مترف يقدم ما لذ وطاب من ( أطباق) المطبخ العراقي والمطابخ العالمية.
أمر لم يكن في ذهن تشي جيفارا بالتأكيد، لكنها بغداد والتبغدد وسنن الحياة.
فلنتقبل الأمر.