هناك مقولات شائعة يرددها بعض المؤمنين في خضم محاربة نظرية التطور، وهي مما يجب ألا يقولها أي شخص لديه أدنى معرفة بالعلوم الحديثة أو بمبادئ التفكير العلمي.
أولًا، يقال عنها إنها “مجرد نظرية” كما لو كان هذا يعني أنها مجرد “وجهة نظر”! كما ذكرنا سابقًا وكما يجب أن نكرره: في الحياة اليومية نستعمل مفردة النظرية لنعبر عن ذلك فعلًا، لكن في العلم، الأمر مختلف، لا تكون النظرية نظرية إلا بعد أن تنتقل من مرحلة الفرضية إلى الإثبات والتحقق.. النظرية تفسر مجموعة ظواهر بعوامل متعددة وتخضع للتحقق والإثبات العلمي.
عبارة “الفرضية” هي الأقرب إلى أن تكون ما نقول عنه إنه مجرد تخمين، وإن كان هذا علميًّا أعقد بكثير من مجرد تخمين.
ونظرية التطور لا تزال تقدم النموذج التفسيري الأكثر قبولًا علميًّا لتفسير الكثير من الظواهر المتعلقة بالكائنات الحية، ولكي تزول هذه النظرية، يجب أن يكون هناك نموذج تفسيري بديل يتجاوز نظرية التطور ويحصل على المزيد من القبول العلمي.
ثانيًا، يقال أيضًا إن نظرية التطور تقول إن أصل الإنسان قرد، ويستدعي هذا كل ردود الفعل من الدراما إلى الكوميديا.. ولكن في الحقيقة أن النظرية لا تقول هذا بالضبط، بل تقول إن لدينا أسلافًا مشتركين مع القردة، هذا السلف المشترك عاش قبل 13 مليون سنة . الإنسان لا يمكن أصلًا أن يكون أصله قرد لأن أي مخلوق معاصر لا يمكن أن يكون (سلفًا أو جدًّا بعيدًا) لمخلوق معاصر آخر.
هل السلف المشترك كان قردًا؟ لا. لم يكن قردًا بالمعنى المعاصر للكلمة. تسميته “بالقرد الأعلىGreat ape” مجرد تسمية اصطلاحية لا تعني أنه “قرد” كما نعرف القرد اليوم.. هل لو غيرنا اسم السلف المشترك إلى “شبيه البشر” أو “إنسان الغابة الأول” تنتهي المشكلة؟
ثالثًا، يقال دومًا إن الاكتشافات العلمية “الحديثة” أثبتت خطأ النظرية.. وأن النظرية سقطت في الغرب.. وأنها محض خرافة، إلخ. دومًا نسمع كلامًا كهذا يقال بمنتهى الثقة، وهذا ببساطة كلام غير صحيح، كل الاكتشافات تعدل فيها باستمرار.. نظرية التطور تتطور دومًا.. ليست جامدة ولا مقدسة.. وهي بها أخطاء ونواقص كما أي عمل بشري، ولكن الدعم العلمي لها مؤكد ولا شك فيه، بل متزايد باستمرار لأنها ببساطة لا تزال “النموذج التفسيري الوحيد” للكثير من الظواهر الطبيعية.
رابعًا، “لماذا توقف التطور؟” “لماذا لم تتطور الكائنات منذ آلاف السنين حتى الآن، ونحن نرى صورها وصور البشر مرسومة منذ عهد الفراعنة؟”.
التطور يحدث عبر ملايين السنين ولا يمكن لنا أن نرى ذلك في حياتنا أو حتى في حياة الحضارة البشرية التي لم تتجاوز عشرة آلاف سنة، مع كل ذلك فهناك أمور دقيقة تثبت أن التطور مستمر بالحدوث.. هناك على سبيل المثال الكثير من الطفرات جينية تحدث باستمرار تحسن من تكيف البشر لمتغيرات الحياة المختلفة وقد سبق وذكرناها بالتفصيل في الفصل الخاص بها.
خامسًا، لماذا هناك قردة اليوم؟ لماذا لم تتطور جميعًا لتصبح بشرًا؟
هذا السؤال يعكس أكثر من سوء فهم بخصوص نظرية التطور.
الأول هو افتراض أن البشر قد تطوروا من كائن مطابق للقرد المعاصر (علمًا أنه هناك أنواع عديدة من القردة المعاصرة)، وهذا الافتراض خاطئ تمامًا، فالسلف المشترك الذي تشير نظرية التطور إلى انحدارنا وبعض أنواع القردة منه كان مختلفًا عن القردة المعاصرة بقدر اختلافه عنا نحن.
السؤال عمومًا يشبه أن يسألك أحدهم عن أبناء عمومة بعيدين لك، جمعك بهم جد سادس أو سابع مثلًا، تفرقوا في قارات أخرى منذ عقود طويلة… ثم يقول لك: لكن لماذا لا يشبهك أبناء عمك هؤلاء؟ أو لماذا لم يصبحوا مثلك؟
ببساطة لأنهم بعيدون عنك، تزوج أجدادهم من نساء من عوائل وأعراق مختلفة في قارات أخرى وتراكمت الاختلافات منذ وقت طويل.
الشيء ذاته مع القردة المعاصرين: آخر سلف مشترك كان بعيدًا جدًّا، ومنذ ذلك الوقت والاختلافات تتراكم بيننا على نحو أصبح السؤال مستحيلًا.
سوء الفهم الثاني هو التصور أن التطور يسير بشكل خطي، بحيث إن كل نوع يحل محل النوع الذي انحدر ويقضي عليه (ينقرض).
هذا أبعد ما يكون عن الحقيقة، التطور يسير بشكل متشعب كثير الفروع، والتنوع الجديد الذي يطرأ على نوع لا يعم كل أفراد النوع بل يأخذ منهم جزءًا فقط، بينما يواجه الجزء المتبقي تغيرات أخرى في فروع أخرى..
سوء الفهم الثالث هو الافتراض أن التطور يقود المخلوقات إلى “الكمال” وهذا يجعل السؤال أقرب إلى أن يكون “لماذا لم تتطور القردة لتصبح مثلنا؟”.
هدف التطور هو أن يصبح أفراد نوع ما أكثر قدرة على البقاء من منافسيهم في بيئة محددة، وأن يصمدوا أيضًا أمام التغيرات التي تحدث في البيئة (جفاف، انجماد، فيضانات، تلوث، إلخ).
سادسًا- لماذا تطورت القردة لتصبح بشرًا ولم يتطور الغزال مثلًا ليصبح بشرًا؟
برغم أن مقدمة السؤال خاطئة، فإن المقصد واضح، لذا لن أقف عند هذه المقدمة.
مبدئيًّا، لا يمكن لأي حيوان معاصر حاليًّا أن يكون سلفًا لأي مخلوق آخر.
بعبارة أخرى: ابنك الصغير لا يمكن أن يكون جَدًّا لأي أحد حي (حاليًّا) وهو بالتأكيد لا يمكن أن يكون جَدًّا لجدك السابع مثلًا. السؤال يشبه هذا المثال، أي إنه مستحيل.
لنفترض للتوضيح أن المخلوقات تتطور عبر انتقالها في القطار.. في كل محطة هناك مخلوقات تنزل من القطار وتأخذ قطارًا آخر يسير باتجاه مختلف ولا يقف في أي محطة يقف فيها القطار الأول. وكل محطة بدورها تمر فيها قطارات إلى جهات مختلفة.
لو فرضنا أن كل أسلاف الثدييات نزلت في محطة (الثدييات)، فإن أسلاف الغزال استقلوا قطارًا ذهب بهم إلى محطة “مزدوجات الأصابع أو ذوات الظلف” ومن هناك ركبوا في قطار آخر ونزلوا في محطات مختلفة تمامًا، أحفاد “مزدوجات الأصابع” المعاصرون يضمون الغزلان والزرافات والجمال والماعز والأغنام والثيران والخنازير، إلخ.
أما أسلاف الإنسان المعاصر (الذين كانوا في القطار نفسه لأنهم ثدييات أيضًا) فقد أخذوا قطارًا مختلفًا ونزلوا في محطة أخرى مختلفة تمامًا، هي محطة “الرئيسيات” وتفرقوا منها إلى طرق ومحطات مختلفة، وانتهى بعضهم أن يكون بشرًا، ورغم ذلك فهناك من هذا البعض –للأسف- من يسأل أسئلة كهذه.
آخر لقاء بين أسلافنا وأسلاف الغزال كان في محطة (الثدييات)، بعدها تفرقوا على نحو ما كان يمكن معها أن تكون هناك أي علاقة أقرب من كوننا من “الثدييات”.
سابعًا، السجل الأحفوري غير مكتمل.
صحيح، ولن يكتمل أبدًا.
المطالبة بسجل أحفوري كامل مثل المطالبة بالعثور على الهياكل العظمية الكاملة لكل البشر منذ عهد سيدنا آدم. هذا ببساطة مستحيل. لماذا؟ لأن أجزاء كبيرة منها قد تحللت حتمًا. هذا أمر يعرفه الجميع. لماذا هو سهل الفهم عندما نتحدث عن رفات البشر ثم يتحول الأمر إلى معضلة عندما نتحدث عن الأحافير؟
تحويل الأمر إلى تهمة ضد نظرية التطور يشبه التصور أن مصر الفرعونية لم يكن فيها بشر إلا الحكام الذين حُنِّطوا وعثر على مومياواتهم. الشعب لم يحنط ولم نعثر على رفاته إذن لم يكن موجودًا.
ثامنًا، لا توجد أحافير انتقالية.
بل توجد، وبالملايين. كما وضحنا ذلك في الفصل الخاص بها. كل ما في الأمر أنه كلما عثر على أحفورة انتقالية (ب) تربط بين أحفورة (أ) وأحفورة (ت) صاح أعداء النظرية: الآن نريد أحفورة انتقالية تربط بين (أ) و(ب)، وإذا ما تم العثور على أحفورة (أ 1) التي تربط بين (أ) و(ب) صاحوا مرة أخرى: ماذا عن الأحفورة الانتقالية التي تربط بين (أ 1) و(أ).. أين هي؟ ها؟ أين هي؟
إلى ما لا نهاية.
تاسعًا، نظرية التطور مجرد بناء نظري لا أهمية عملية له.
فقط تخيل شكل العالم من دون لقاحات ومضادات، بعد ذلك: حظًّا طيبًا . راجع الفصل الخاص بها.
عاشرًا، لا يوجد أي مشاهدة مباشرة لتطور نوعٍ من نوعٍ آخر.. نظرية التطور في هذه الحالة مجرد “رجم بالغيب”، ميتافيزيقيًّا.
غالبًا يكون الجواب المباشر لهذه المقولة هو أن تطور الأنواع يتطلب في العادة مدة زمنية طويلة تتجاوز إمكانية أعمار البشر على الملاحظة المباشرة. وهذا صحيح في العموم، ولكن على الرغم من ذلك، فهناك أمثلة كثيرة عن “أنواع جديدة” ظهرت وتم ملاحظة ظهورها وتسجيلها ضمن فترة حياة البشر العادية.
في البداية علينا أن نحدد ما هو تعريف النوع البيولوجي وما الذي يجعل “حيوانين” ينتميان لنوعين مختلفين من جنس واحد.
من الناحية البيولوجية: التعريف الأكثر قبولًا وانتشارًا للنوع هو وجود مجموعة من الكائنات الحية التي لديها القدرة على التزاوج فيما بينها وإنتاج نسل قادر على التكاثر يحمل نفس الخصائص البيولوجية للأبوين. هناك بعض التعريفات الأحدث التي تأخذ بنظر الاعتبار قدرة بعض الأنواع المتقاربة جينيًّا على التزاوج، لكن بشكل عام “التزاوج المثمر” لا يزال التعريف الأكثر وضوحًا وانتشارًا للنوع.
ضمن هذا المفهوم لمصطلح “نوع”، نعم حدثت أمثلة كثيرة على انشقاق نوع من نوع آخر species splittin ضمن مدة زمنية معقولة أتاحت لمجموعات متعاقبة من الباحثين أن يرصدوا ظهور هذه الأنواع الجديدة.
من أهم الأمثلة: ذبابة يرقة التفاح apple maggot fly التي تطورت عن ذبابة أخرى هيRhagoletis Pomonella والتي كانت خاصة بقارة أمريكا وتعيش على فاكهة الزعرور حصرًا، عندما دخل التفاح مع الأوروبيين، بدأ بعض الذباب من النوع السابق بأكل التفاح، وبعد فترة أخذت أجيال جديدة من هذا الذباب تعيش حصرًا على التفاح ولا تتزاوج إلا بينها .
من الأمثلة الأخرى ظهور نوع جديد مرتبط بعصافير غالاباغوس (Galapagos Finches) وهي عدة أنواع من العصافير تعيش في أرخبيل جزر غالاباغوس في المحيط الهادي، وقد سبق لداروين أن دوّن عنها ملاحظاته في أثناء رحلة البيغل. في 1981 لاحظ أحد الباحثين وصول “عصفور غريب” إلى الجزر، هذا العصفور كان مختلفًا في مواصفاته عن العصافير الموجودة في الجزيرة (أكبر حجمًا، منقاره مختلف، وصوت تغريده مختلف)، تمكن هذا العصفور “الجديد” من التزاوج مع أنثى هجينة، وأنجبا ذرية لم تفلح في التزاوج مع العصافير الأصلية في الجزيرة (صوت التغريد يلعب دورًا مُهمًّا في التزاوج، لذا فقد كانت هذه العصافير الجديدة أقل حظًّا في الحصول على فرص للتزاوج)، لذا أخذت العصافير “الجديدة” تتزاوج فيما بينها، وخلال ستة أجيال فقط، وبمتابعة الفحص الجيني لكل جيل، كان هناك نوع جديد بمواصفات مستقلة عن “نوع العصفور الأب – الذي ينتمي إلى نوعٍ في جزيرة تبعد قرابة المائة كيلومترٍ عن الأرخبيل” وعن العصافير الأخرى في الجزيرة، ولا يتزاوج أفراد هذا النوع زواجًا خصبًا إلا من نفس النوع .
من الأمثلة المُهمة الأخرى تمكن العلماء من مراقبة حدوث “انشقاق نوعي” في أحد أنواع “الحوت القاتل أوركا Orca”، حيث غيرت مجموعة منها طعامها المعتاد (الأسماك أو عجل البحر) وأخذت تعتاش على أسماك القرش، وقادها ذلك إلى تغيرات كثيرة في طريقة معيشتها (تصيد كمجموعة لكي تتمكن من الانفراد بسمكة القرش)، بالتدريج ظهرت مواصفات شكلية وجينية مختلفة، لا تزال هذه المجموعة قادرة على التزاوج مع المجموعة الأصلية، لكن هذا يقل أكثر فأكثر، ويتوقع الباحثون أن هذه المجموعة ستتوقف عن التزاوج مع المجموعة الأصلية وتصبح نوعًا مستقلًا بذاتها .
من الأمثلة الأخرى: بعض الأنواع الفرعية للزاحف البرمائي (السلمندر) في كاليفورنيا توقفت عن التزاوج فيما بينها وأصبحت تمتلك فروقات شكلية وجينية كثيرة، تمت ملاحظة هذه الاختلافات وتسجيلها في أثناء حدوثها حتى أصبح الباحثون يقولون عن الأمر “التطور عبر البث المباشر Evolution in real time “
سمكة أبو شوكة (stickleback fish) –في حالتين منفصلتين، في ألاسكا وسويسرا- أظهرت نوعًا جديدًا منها وتغييرًا كبيرًا في مظهرها الخارجي ، وهناك أمثلة أخرى تخص العناكب والذباب والبعوض، إلخ.
سيقولون: ماذا؟ نحن لا نريد أمثلة من هذه، نحن نريد أدلة مشاهدة عملية على تطور الديناصور إلى طائر أو الغزال إلى زرافة.. نريد “تطورًا كبيرًا” يقنعنا.
للأسف، فترة حياة الإنسان لا يمكنها أن تمدنا بأمثلة كهذه. تجاهل هذه الحقيقة يشير إلى وجود مشكلة أخرى أكثر تعقيدًا من قبول نظرية التطور.
أحد عشر،”مايكل بيهي” نسف نظرية التطور عبر مبدأ “التعقيد غير قابل للاختزال”
اعتراض بعض العلماء على جانب من جوانب النظرية أو قصورها عن تفسير بعض الظواهر (على المستوى الجزيئي في هذه الحالة) لا يعني نسف النظرية أو سقوطها، بل يعني –في حالة صحة هذه الاعتراضات- أنها لم تفسر هذا الجانب بنجاح كما فعلت مع جوانب أخرى كثيرة. ومايكل بيهي لم يقدم تفسيرًا بديلًا، بل أوضح عدم قدرة النظرية –من وجهة نظره- على أن تكون مقنعة في هذا المستوى.
نظرية التطور ليست نصًّا مقدسًا كيلا يمكن
مراجعته أو التعديل عليه، بل هي جهد بشري تعرض باستمرار للنقد والتعديل والمراجعة، وهذا أمر طبيعي تمامًا بالنسبة إلى العلم، بل صحي ومطلوب أيضًا.
بالمناسبة: مايكل بيهي يقبل بالسلف المشترك لكل المخلوقات، ويقبل كذلك بأن الأمر استغرق مليارات من السنين.
قبل أن نتحدث عن “نسف النظرية” علينا على الأقل أن نعرف أكثر عم كان يتحدث الرجل؟
لتحميل الكتاب مجانا من موقع عصير الكتاب https://www.aseeralkotb.com/books/16388