أتوقف دوما عند حماس البعض في الدفاع عن قضايا معينة…بعضها قضايا صغيرة جدا ولا تأثير لها، وبعضها قضايا حقيقية ولكنها “جزئية” وهم يختصرون ” وجودهم” ويعرفون أنفسهم بها على نحو يظلمهم قبل سواهم..وبعضها قضايا تبدو مثل ” الموضة” و” الترند”، سرعان ما تختفي لتحل محلها قضية أخرى تملك نفس الملامح سريعة الزوال.
لا أقصد ” تسخيف” أي قضية من القضايا التي يتبناها هذا البعض، وأكرر أن بعضها قضايا حقيقية فعلا، وليس لأي أحد الحق في الدخول في نياتهم واتهامهم بأنهم ” يتبعون الترند” لا أكثر. ربما هم يؤمنون بهذه القضية فعلا. لكن الأمر كان بالنسبة لي دوما يتعلق بموقع هذه القضايا ضمن القضايا الأخرى وترتيبها ضمن الأولويات والأهمية ( وطبعا حتى هذه الأولويات نسبية إلى حد كبير، لكن لتبسيط الأمر فأن حياة أي إنسان يجب أن تكون أهم كقضية من حياة أي كائن آخر ، مع كل الاحترام لجمعيات حقوق غير الإنسان).
أذكر شخصا أعرفه كان عندما يوقف سيارة أجرة يسأل السائق: هل أنت مدخن؟ فإذا كان كذلك رفض أن يستقل السيارة معه، في مرة كنت معه فكان رد السائق أنا مدخن ولكن ليس أثناء قيادتي للسيارة، فأجابه الشخص : نعم لكننا في جمعية (***) نريد دعم غير المدخنين. ورفض أن نستقل السيارة.
بدا لي الأمر مبالغة غير مجدية بل ومستفزة حتى لمن لا يدخن، لكن صاحبي هذا كان مخلصا في موقفه، ولم يقصد الإساءة للسائق. كانت ” محاربة التدخين” قد أصبحت قضيته، ولديه طبعا كل الأسباب العلمية التي تدعمه، لكن موقفه هذا وصل إلى مرحلة ” نحن أو هم ” مع المدخنين. أصبح يصنف الناس على هذا الأساس. مدخن. غير مدخن ولكن غير متعاون مع القضية. غير مدخن ومؤمن..إلخ.
وصاحبي هذا لا تنطبق عليه مواصفات الصورة الذهنية المسبقة عن أصحاب الهوس بالقضايا، هو شخص لطيف غالبا، ومتعلم بشهادة عالية، ومقبول اجتماعيا..لكن قضيته، ببساطة هي محاربة التدخين.
الأمر أيضا ينطبق على قضايا أخرى مثل الأخوة/ ات النباتيين والأخوة/ ات الفيغان، برأيي الشخصي من حقهم أن يأكلوا ما يريدون ويمتنعوا عما لا يريدون، لكن مستوى الإخلاص للقضية عندهم تجاوز مرحلة التبشير بها إلى مرحلة العداء الشدبد لكن من لا يؤمن بها…
والأمثلة في ازدياد..
مرة أخرى: بغض النظر عن ” عدالة هذه القضايا” أو ” عدم عدالتها”..ما يستوقفني دوما أن هناك قضايا أهم بكل المعايير…لماذا هذا الإخلاص لقضايا هامشية؟
الجواب الذي كنت أقوله لنفسي دوما: هامشية بالنسبة لي…بالنسبة لهم وجدوا أنفسهم عبرها.
وعندما أقارنهم بأشخاص لا قضية لديهم ولا هدف، أقول: على الأقل لديهم شيء…
وأفكر : ماذا لو كان هذا الشيء وجه نحو قضية أخرى؟
******
يخيل لي أن الإنسان لديه ميل إلى البحث عن معنى وقضية يحقق بها ” ذاته”..ربما ليس الجميع لديهم هذا الميل على نحو واضح، ولكن هذا الأمر من المشتركات الإنسانية العابرة للحضارات والمجتمعات..
هناك الكثير من الظلم واللا عدالة في هذا العالم، وهو أمر ينبغي أن يستفز هذا الميل عند الإنسان ويجعله يسعى لتغيير هذا الواقع..
لكن أحيانا، مواجهة هذا الظلم يستدعي مواجهة مؤسسات تحمي هذا الظلم أو تستثمر في بقائه..وهذا أمر قد يؤدي إلى ” عواقب وخيمة/ متعددة الأشكال” لهذا الإنسان لأسباب كثيرة لا تخفى على أحد..
لهذا فالاهتمام بالقضايا الصغيرة ( التي لا تخلو تماما من مواجهات وخسائر) قد يكون ( حلا وسطا ) يشبع فيه الإنسان هذا الميل الفطري في داخله، وبنفس الوقت يتجنب إثارة غضب مؤسسات الواقع السكوني…وقد ينجح في تحقيق انتصارات صغيرة لتلك القضايا الصغيرة..
انها حالة ينتصر فيها الجميع، win win situation
الإنسان وميوله ” إلى البحث عن معنى”…، والمؤسسات العتيدة..
أما القضايا الكبيرة المهمة حقا، فهي خارج الحسابات..