عندما نسمع كلمة ” عظام”، تتبادر إلى أذهاننا الصلابة والقوة.
لكن العظام القوية لكي تقاوم الكسر، عليها أن تحوز على صفة أخرى بالإضافة إلى الصلابة.
إنها تحتاج إلى المرونة.
دون المرونة، ستكون هذه العظام ” هشة”، تقاوم أي تغير يحدث نتيجة تعرضها لشدة أو ضربة، لكن في نقطة ما، تنكسر فجأة.
دون هذه المرونة في العظام، لا معنى لصلابتها وقوتها.
الصلابة والقوة تنسب عادة إلى الكالسيوم.
أما المرونة فتنسب إلى الكولاجين، بروتين يشكل 30% من العظام.
وأهميته لا تقل عن أهمية الكالسيوم.
القوة الحقيقية ليست في ” مجرد الصلابة”. بل في الصلابة والمرونة.
قد نسمع عن الكالسيوم أكثر، لكن لا غنى عن الكولاجين.
***
هذا ليس إعلانا عن مكملات غذائية تحتوي على الكولاجين. بل هو أمر أفكر فيه منذ أيام، منذ أن قرأت حوارا جانبيا بين إثنين ضمن التعليقات على منشور لي.
الحوار بين المعلقين ( ومن الواضح أنهما صديقان) لم يكن مطولا، لكن جملة من واحد منهما كانت كافية للفت انتباهي، كان يتحدث عني إذ قال : يقول ( ربما) و( ممكن )، بينما نحن نقول ( قال الله وقال الرسول).
انتهى كلام المعلق.
نسمع من هذا الكلام الكثير، لكن هذه الجملة ( ربما لأنها من حوار جانبي) كانت مختلفة.
المعلق الشاب كان مقتنعا جدا بما يقول… كان يعتقد أن ( ربما ) و ( ممكن) تتعارض بالضرورة مع ( قال الله وقال الرسول).
هذا ما لقنوه إياه طبعا.
أقنعوه أن كل نص قرآني أو نبوي لا بد أن يكون له تفسير واحد فقط، طبعا هو التفسير الذي يناسبهم..ولا شيء بالصدفة.
****
الشاب ضحية ما لقنوه.
أما هم فهم يعرفون تماما أن علماء الأصول متفقون على أن الكثير من آيات القرآن ” ظنية الدلالة”…
يقول الشيخ عبد الوهاب خلاف في كتاب ” علم أصول الفقه”
…وأما نصوص القرآن من جهة دلالتها على ما تضمنته من الأحكام فتنقسم إلى قسمين: نص قطعي الدلالة على حكمه، ونص ظني الدلالة على حكمه.
فالنص القطعي الدلالة هو ما دل على معنى متعين فهمه منه ولا يحتمل تأويلا ولا مجال لفهم معنى غيره منه، مثل قوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ} [النساء: 12]، فهذا قطعي الدلالة على أن فرض الزوج في هذه الحالة النصف لا غير……
وأما النص الظني الدلالة: فهو ما دل على معني ولكن يحتمل أن يؤول ويصرف عن هذا المعنى ويراد منه معني غيره مثل قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ} [البقرة: 228]، فلفظ القرء في اللغة العربية مشترك بين معنيين يطلق لغة على الطهر، ويطلق لغة على الحيض، والنص دل على أن المطلقات يتربصن ثلاثة قروء، فيحتمل أن يراد ثلاثة أطهار، ويحتمل أن يراد ثلاث حيضات، فهو ليس قطعي الدلالة على معنى واحد من المعنيين، ولهذا اختلف المجتهدون في أن عدة المطلقة ثلاث حيضات أو ثلاثة أطهار….
انتهى الاقتباس)..
دون أي مشكلة، دون أي حرج، دون أي دراما معارضة، يتحدث المختصون بأصول الفقه عن ” الدلالة الظنية” لآية قرآنية..أي عن وجود آيات قرآنية لا يكون معناها قطعيا، بل ( قد) و( ربما) و( من الممكن ) أن يكون هذا هو المعنى …أو ( قد ) و ( ربما) يكون ذاك..
هذا الذي يعده البعض ( عيبا) و( منقصة) في سياق معين، يتحدث عنه أهل الأصول بمنتهى الثقة…وهو أيضا يجب أن يعتبر ( مصدر قوة) وليس كما يتوهم هؤلاء..
******
ما علاقة الكولاجين والكالسيوم بكل هذا؟
هذه الدلالات الظنية، الآيات التي تحتمل التأويل لأكثر من وجه، تمنح المرونة للتشريع ولقراءة النصوص، وهذه المرونة هي التي تجعل النص القرآني قابلا للتجدد ومواجهة التغيرات التي تحدث مع حوادث الزمان..
لو كانت كل النصوص قطعية الدلالة، لفقدت النصوص بمجملها المرونة اللازمة لمقاومة الكسر..
كان يمكن للقدير على كل شيء أن يجعل كل النصوص قطعية الدلالة، لكن حكمته شاءت أن تعلمنا أهمية ( ربما ) و ( قد ) و ( من الممكن ومن المحتمل)..أهمية أن نتعلم المرونة الملتزمة بالإطار العام، وحمايته..
******
يركزون كثيرا على الكالسيوم، ويكادون يمنعون الكولاجين..
يعتقدون أنهم هكذا يبنون اليقين.
ثم…عند المواجهة : البناء هش مهما بدا صلبا…
وقد ينتقل فجأة من طرف إلى الطرف المعاكس تماما..
وكان الكولاجين سينقذهم…