الوقت – نادر المتروك- 2005
يجادل أحمد خيري العمري بأن المخرج من أزمات الواقع العربي والإسلامي لا يمكن أن يتم إلا عبر ما يسميه ‘’فعل القطيعة’’. وفي حين يستدرك قائلاً ‘’إن هذه القطيعة لا يمكن أن تكون شاملة’’، إلا أنه يصرّ على جعل الخيار مفتوحا أمام ‘’الحسم الشامل’’ مشددا في الوقت نفسه على ‘’ضرورة تبديد المخاوف المسبقة’’.
العمري، وهو الباحث العراقي الشاب، يدرك أن ‘’الشروع بالنهضة أمر ليس بيسير’’، ولكنه يرى أن لحظتنا ‘’هي اللحظة المواتية’’ لذلك.
ولبيان نقطة الضوء التي ينفتح عليها العمري ويشدّ إليها، كان لـ’’الوقت’’ معه هذا الحوار الإضافي حول مداخل الأزمة ومخارجها.
؟ هل باتت اللحظة الراهنة، بثقلها المادي العصيب، أقوى من أيديولوجيا الإصلاح والتجديد الإسلامي؟
ـ لا أعتقد أن اللحظة الراهنة أقوى من أيديولوجيا الإصلاح، رغم إقراري أن اللحظة الراهنة شديدة الثقل. على العكس من هذا، أنا أعتقد أن اللحظة الراهنة، رغم صعوبتها وقساوتها، هي أيضا ‘’اللحظة المؤاتية’’- فكريا- للتجديد لكي يخرج من مخبئه وخلوته. إنني أشبّه الأمر بأنها اللحظة التي استلمنا فيها النتيجة المختبرية التي تقول لنا ‘’إنه السرطان ينهش جسدنا’’، هذه هي لحظة الحقيقة. قبلها كنا نقنع أنفسنا أن الأمر محض التهابات عابرة، ستنفعها بعض المضادات والمسكّنات، الآن لم يعد هذا مقنعا، هذه اللحظة تقول لنا ‘’إنه السرطان’’! ولعله كان دوما السرطان لكننا لم نكن نعرف، والآن وقد عرفنا فلا بد من مواجهته، ولو باستئصال بعض المفاهيم التي سهّلت دخول هذا السرطان.
هذه اللحظة الراهنة، بكل ثقلها المتمثل في الواقع المر، قد تكون هي تلك النقطة التي يتمكّن فيها المشروع التجديدي من طرح نفسه بديلا عن المشروع التقليدي، وكذلك عن المشروع التغريبي الذي يطرح نفسه ولو تحت شعارات إسلامية أحيانا. اللحظة الراهنة هي أقاصي اليأس، التي قد يولد منها منتهى الأمل.
مشاريعنا قاصرة
كيف تقرأ مشروعات النهضة المعاصرة في السياق الإسلامي المعاصر؟
ـ أقرأها في سياقها الواقعي، فأجدها بعيدة جداً عن أي نهوض حقيقي، ويستطيع أي منا أن ينظر حوله، في الواقع كأرقام إحصائية، ليجد أن الكلام عن أي مشروع نهضة فاعلة هو كلام متفائل ومن باب حسن الظن ‘’وتفاءلوا بالخير تجدوه’’ لا أكثر. دعنا نقرّ أن مشاريع النهضة لا تزال قاصرة إلى درجة أنها لم تصل لدرجة أن تكون ‘’مشاريع’’ من الأساس، مع كل الاحترام لكل الجهود التي لا بد من الإقرار بأهمية وجدية بعضها، إلا أن النهضة لا تزال بعيدة، ومشاريعها لا تزال في مرحلة ‘’جنينية’’.
الحداثة الإسلامية
؟ مازال النقاش جاريا حول إمكان وجود ‘’حداثة إسلامية’’، وقد جاء كتاب طه عبدالرحمن الأخير ‘’روح الحداثة’’، ليُقدِّم إسهاماً في هذا الاتجاه. فكيف تنظرون إلى هذه المسألة؟
ـ الحديث عن الحداثة لم يعد حديثا، وصار يحتاج إلى إعادة نظر من الجذور. أتساءل هنا قبل التعليق على هذا النقاش إنْ كان لابد للحداثة الإسلامية إن تسير ‘’حذو القذة بالقذة’’ مع مسيرة الحداثة الغربية! الأمر الذي يحدث للأسف أننا نستورد المصطلحات والمفاهيم ونحاول إسقاطها على ‘’الحداثة الإسلامية’’ تفكيكا وتركيبا، رغم أن هذه المصطلحات والمفاهيم ولدت عن تجارب حضارية واجتماعية، ولا يمكن استيرادها كما نفعل مع السلع الاستهلاكية. الحداثة الغربية لم تأت إلا بعد المرور أولا بعصري النهضة والتنوير، وهو العصر الذي أحدث قطيعة معرفية مع موروث القرون الوسطى والعودة إلى منابع الفلسفة الإغريقية.
ضمن هذا المنظور: هل أنجزنا نحن ما يجب إنجازه لكي نحوز حداثتنا؟ هل أكملنا عصر التنوير خاصتنا؟ بل هل ولجناه أصلا؟ (أم أننا لا نزال في قروننا الوسطى؟) وضمن هذا الإطار، أرى تجربة طه عبدالرحمن مهمة جدا في تذكير الحداثيين بالقيم الأخلاقية التي غالبا ما أغفلت في خضم الجدل الدائر وعملية الاستيراد والتفكيك السائدة.
التمزق الأيديولوجي والبرج العاجي
؟ يوصّف الباحث المغربي إدريس هاني الإنتاج الفكري في المجال العربي الإسلامي بكونه صراعا لأيديولوجيات ممزّقة. ما تعليقكم على ذلك؟
ـ نعم، أوافق على هذا الوصف، لكني أعدّه وضعا طبيعيا للوضع الممزق الذي نعيشه. مجتمعاتنا تعيش في مفترقات طرق، ومن الطبيعي أن تشير كل أيديولوجيا مطروحة إلى جهة معينة باعتبارها الاتجاه المؤدي إلى الخلاص، هذا طبيعي جدا وهو جزء من ‘’قدر المرحلة’’.
ما أراه ‘’غير طبيعي’’ بل ومخيف أن معظم النتاج الفكري ظل حبيسا في ‘’أبراج عاجية’’، بعيدة عن التفاعل مع الناس الحقيقيين الذين هم مادة التغيير المرجو في النهاية. هناك قصور كبير في مجال الوصول والتواصل مع الناس. اللغة المستعملة شديدة التعقيد لدرجة أنها تحتاج أحيانا إلى ترجمة، وهذا يخلق نوعا من العزلة الاستعلائية تعيشها هذه التيارات التي تعيش في واد، بينما الجمهور في واد آخر تماما، وفي النهاية فإن أحدا لا يقرأ ولا يتداول خارج إطار المشتغلين بالفكر الذين لهم انتماء أيديولوجي محدد سلفا.
أزمة التواصل مع الجمهور
؟ ما هو الجمهور الذي تقصده؟ هل هم عامة الناس أم جمهور المثقفين أم..؟
ـ أقصد الطبقة الوسطى الواسعة، وهي المسؤولة أصلا عن أي تنمية أو نهضة، وهي الفئة التي صارت تمتلك مقومات جامعية أي أنها تمتلك حدا أدني مقبولا من إمكانية التفاعل مع نتاج فكري نهضوي. لكن اللغة الموغلة في التعقيد تجعل هذا التفاعل صعبا إن لم يكن مستحيلا. بعض المشتغلين في مجال الفكر، يتعمّدون الإبهام لأن ذلك سيغطي على ضحالتهم الفكرية، طبعا هناك بعض المفكرين والفلاسفة الكبار لغتهم معقدة بطبيعتها وبلا تعمّد، وهناك آخرون تتميّز لغتهم ببيان واضح. إن اللغة السائدة هي أكثر تعقيدا مما يجب لمرحلة كالتي نعيشها.
غموض للإفلات من المؤسسة
وبالمناسبة، بعض إخواننا من الحداثيين الإسلاميين، يتعمّدون الغموض والإبهام من أجل الإفلات من المؤسسة التقليدية، لديهم أفكار جديدة وجريئة لكنها ستقابل بالصدود والرفض الحانق من قبل رجال الدين، لذلك فهم يعبّرون عنها بطريقة شديدة التعقيد، مراهنين على عدم فهم رجال الدين لمرادهم، وهم محقون بذلك، فهم يفلتون من هراوة المؤسسة، لكنهم أيضا يفلتون من القارئ الذي من المفترض أن الأفكار الجديدة تصل له، لا أقصد هنا القارئ المباشر ولكن أيضا القارئ المفترض الذي ضيّعته لغة التعقيد بشكل تراكمي. بالنسبة لي الوضوح بحد ذاته رسالة وهدف. لا فائدة في رأيي من مشاريع فكرية جديدة ومهمة إنْ كانت مشفرة وغير قادرة على الوصول إلى الطبقة الوسطى الجامعية.
لا نهضة بلا قطيعة
؟ ما هو المدخل المنهجي الذي تقترحونه للخروج من هذا الواقع؟
ـ المدخل في رأيي هو المخرج من الدرك الذي نحن فيه، أزمة الفكر عندنا هي أزمة تاريخية مزمنة، إنها بمثابة مرض بدأت جذوره وأسبابه في تاريخ بعيد كما أسلفت، المخرج من هذا المرض هو المدخل لإنتاج فكر جديد، والخيارات قد تحتوي على البتر والاستئصال، أو ما نسميه عادة بالقطيعة المعرفية. مواجهة أزمة الفكر لا بد أن تؤدي إلى القطيعة مع إرث ثقيل من عصور التخلف والجهل، لا نهضة بلا تجديد ولا تجديد بلا قطيعة، بلا مواجهة، بلا استئصال بعض ما يجب استئصاله. أنا لا أقصد هنا العودة إلى نصوص ابن رشد وابن تيمية وابن خلدون (كما فعل الغربيون عندما عادوا إلى نصوص أفلاطون وأرسطو)، بل أقصد العودة إلى النص المقدس، الذي أؤمن – كمسلم- أنه لا يزال قادرا على التفاعل مع متطلبات عصري وواقعي وتغييرهما.