الإسـلام و الديمقراطيـة: مشـكلة” القـص و اللصـق”
د. أحمد خيري العمري
يونيو 2008
لم يأتنا الاستبداد من كوكب آخر، كما انه لم يكن مجرد ضيف عابر علينا… لقد نشأ نتيجة لظروف معقدة و تداخلات تأريخية و وجد تربة خصبة من التحالفات التي وفرت له النمو و الحماية ،ربما كان أهمها تطويع بعض النصوص القرآنية و النبوية و إخراجها من سياقها من أجل إيجاد شرعية للاستبداد و تطلب الأمر أحيانا اختراع نصوص أخرى من اجل تكريس المزيد من الاستبداد ، وكل ذلك تراكم مع الفتاوى التبريرية و ضرب طوقاً من الحصانة و القداسة على مفهوم الاستبداد برمته .
وهكذا فان الاستبداد ليس مجرد علاقة بين طرفين ( حاكم و محكوم ) ، بل هو منظومة ثقافية كاملة – شروط الاستبداد لا تغمر طرفاً واحدا فيها بل تغمر الجميع : حكاماً و محكومين .. إنها معادلة اجتماعية كاملة، الإطاحة بطرف واحد لن ينهي الاستبداد بل سيغير من شكله فقط، و سيفرز أشكالا و أنماطا جديدة منه.
كذلك فان الديمقراطية لم تأت الى أوربا من كوكب آخر و لم يستيقظ البريطانيون (أصحاب اعرق ديمقراطية حديثة في أوروبا) فجأة في (1969م) ليقوموا بأول اقتراع شارك فيه كل المواطنين” ذكورا و إناثا” فوق سن ألـ 18، بل استغرق الأمر أكثر من ستة قرون منذ أول تصويت شارك فيه كبار ملاك الأراضي فقط لينتخبوا أول برلمان في(1265 م) و زاد عددهم بالتدريج خلال القرون الستة بتقليل مساحات الأراضي المطلوبة للمشاركة في التصويت ، لم يتمكن ذكر بالغ في بريطانيا لا يمتلك قطعة ارض من المشاركة في التصويت إلا في عام 1918- أما المرأة بنفس العمر فقد انتظرت خمسة عقود أخرى إلى أن تمكنت من ذلك، أي إلى أن وصل الأمر للاقتراع العام بمفهومه الحالي… هذه القرون الطويلة أنشأت مفاهيم و مؤسسات، و كونت منظومة ثقافية واضحة المرجعية ، أنتجت ذلك الفرد الذي ذهب ليشارك في أول اقتراع عام ..فرد استغرق تكوينه أكثر من ستة قرون.
التصور إن “الفرد” الذي تكون عبر قرون الانحطاط و السلبية و تقديس الاستبداد ، يمكن أن يتغير ليصير فردا آخرا بمجرد وقوفه إمام صندوق الاقتراع ، هو تصور سطحي ، يعتمد على إمكانية استنساخ نتائج التفاعل و نقلها دون شروطه و معادلته الأصلية، و الحديث الجاري عن توافق الإسلام و الديمقراطية الذي يصل عند البعض إلى حد “إن الإسلام هو الديمقراطية” لا يملك من الحقيقة أكثر مما تملكه الشعارات البراقة ، ليس لأن الديمقراطية تتعارض – أو لا تتعارض- مع الإسلام ، و لكن لأن الخوض في هذا كله يجب أن تسبقه مراجعة حقيقية لأسباب الاستبداد و جذوره العميقة التي تمتلك طوقا من الحصانة و القداسة يجعل مراجعتها يشبه التنقيب و الحفر في حقل من الألغام . من السهل طبعا القول إن الإسلام ضد الاستبداد و ” متى استعبدتم الناس و قد ولدتهم أمهاتهم أحرارا”- و ذلك صحيح لكن لا علاقة له بالديمقراطية طبعا – الأهم من هذا هو مراجعة أقوال و فتاوى أخرى تكرس و تبرر الاستبداد ، غض النظر عن هذه الأقوال و عن مرجعيتها لن ينفي وجودها و إمكانية استنفارها في أي وقت طالما بقيت كامنة في العقل الجمعي.
و الحقيقة هي إن الديمقراطية في هذا السياق صارت تبدو كما لو أنها ” هدفاً ” بحد ذاته و ليست ” وسيلة “. وقد عملت وسائل الإعلام على الترويج للديمقراطية بهذا الشكل و إسباغ صفات القداسة عليها ، و اختزال نجاحات الحضارة الغربية و ازدهارها بربطها بالديمقراطية و رغم إن هذا كله بعيد عن العلمية و الموضوعية فالديمقراطية فصل من فصول التجربة الغربية و ليست فصلها الأوحد ، و قد سبقتها فصول أهم مثل النهضة و التنوير و الإصلاح الديني و كلها أسهمت بطريقة أو أخرى في تعبيد الطريق لفرد يكون مؤهلاً لخوض تجربة الديمقراطية و كذلك فأن الترويج للديمقراطية يلغي أنها قد تؤدي أحيانا لنتائج كارثية ، كما حدث عندما أفرزت هتلر ( و آخرين من مشعلي الحروب الحاليين أيضاً وصلوا عن طريق الديمقراطية ) . كما إن الديمقراطية لم تنجح دوما في تحقيق الازدهار الاقتصادي على الأقل عندما طبقت خارج سياقها الحضاري ، فاكبر ديمقراطية في العالم ( الهند ) لم تنجح في القضاء على الفقر فيها بينما نجحت الصين ( ذات الحكم الشمولي البعيد عن الديمقراطية ) في أن تحقق قفزة اقتصادية هي الأهم و الأكبر في الاقتصاد العالمي .
ليس هذا طبعاً ترويجاً للاستبداد ، فليس هناك ما هو أبغض منه إلا ذلك التصور انه لا بديل عنه سوى “النقل الحرفي” للنتائج الأخيرة لتجارب الآخرين وهو نقل ينفي وجود اختلافات في طبيعة المجتمع ، ليس اقلها وجود اختلاف كبير في نسب التعليم و الأمية ، الأمر الذي سيفرز طبقة واسعة من الناخبين الأميين أو قليلي التعليم الذين يسهل جرهم الى صندوق الاقتراع لهذه الجهة أو تلك وسط نزعات و واجهات انتخابية تستفز العقل- أو اللاعقل؟- (الطائفي أو العشائري أو العرقي) و سينتج عن ذلك كله تهميش للطبقة الأكثر وعياً ، الطبقة الوسطى -” الهشة ” أصلاً في مجتمعاتنا -التي ستجد نفسها في موقف لا تحسد عليه ، و ستترحم على مكاسبها النسبية ” الضئيلة أيضا ” أيام الاستبداد و هو أمر كان يمكن تداركه ليس عبر الإبقاء على الاستبداد و لكن عبر إحداث تغيير في آليات الانتخاب بطريقة تضع الاعتبارات السابقة في الحسبان أكثر مما تضع الحرفية في النقل كاعتبار …
” و النقل الحرفي ” للآليات الديمقراطية ، يتجاوز حقيقةً إن الفرد عندنا ، الذي هو النتاج الأخير لثقافة سلبية نتجت في عصور الانحطاط ، سيتفاعل هو و مفاهيمه مع صندوق الاقتراع بطريقة مختلفة تماما عن فرد “النسق الحضاري الغربي” فمن السهل ، على سبيل المثال، أن يتم إقناع هذا الفرد بان ينتخب من اجل الفوز بالآخرة و ليس من اجل الوصول الى حكومة تقدم ” دنيا أفضل ” و هذا أمر اخطر مما قد يبدو للوهلة الأولى ، فحكومة انتخبتها من اجل الآخرة لن تتمكن من محاسبتها على إنها لم تقدم لك ” دنيا أفضل ” ، كما إن فشلاً لهذه الحكومة قد يفسر بنفس الآلية على انه “ابتلاء و امتحان من الله عز و جل” ،و هو أمر سيجعلنا ندور في حلقة مفاهيم مفرغة لن تخترق بدورة أو دورتين يؤدي فيها الفشل إلى إعادة لتقييم المفاهيم السلبية ، فهذه المفاهيم تكونت عبر القرون و هي محصنة ” ظلماً ” بتأويلات معينة للنصوص الدينية ، و الوقت وحده-مهما طال- لن يكون كفيلا بحلها و إزالتها….
هذه المفاهيم تحتاج إلى “ثورة ثقافية شاملة ” تطهر و تنقي ما علق من مفاهيم سلبية نتجت من عصور الانحطاط المتأخرة و تتمخض عن ولادة إنسان جديد فاعل و ايجابي و قادر على أداء واجبه بتوازن مع مطالبته بحقه و ليس من المطلوب من ثورة ثقافية بهذا المستوى أن تتبع خطوات الإصلاح الديني اللوثري الكالفيني حذو القذة بالقذة و لا حتى أن تصل إلى نفس النتيجة التي وصلت لها ” الديمقراطية ” الغربية بل أن تكون اقرب لمنطقاتها و أهدافها وتنتج وسائلها وآلياتها الخاصة بها..
إلى أن يحدث ذلك، أعتقد أن خير ما يمكن القيام به لتسريع ” تمكين القيم ” هو إعطاء وزن أنتخابي أكبر للطبقة المتوسطة، ليس بحرمان الآخرين من الانتخاب، بل بمنح ( كوتة ) نسبية تعطي حجما أكبر لهم في الهيئات التشريعية المنتخبة، ليس لأن الطبقة الوسطى لا تخطأ ولا تخدع، ولكن لأنها أكثر قدرة على مراجعة أخطائها والتخلي عن خيار أثبت فشله.