“الإعلام” أفيـون الشـعوب
د.أحمد خيري العمري 2009
صبيحة ما يعرف بعيد الحب” طالعتنا وسائل الإعلام المرئية في الولايات المتحدة بخبر حزين نغص على العشاق فرحتهم و جعلهم يشعرون بأن هناك في هذا العالم شئ آخر غير الورود الحمراء و الهدايا التي يتبادلونها في عيد الحب..
الخبر الحزين كان ترتيبه الثاني بعد خبر غير مهم عن الجدال بين أنصار اوباما و معارضيه في الكونغرس عن تمرير مشروع الأنقاذ الاقتصادي ..
الخبر الحزين كان عن سرقة “كلب” في ضواحي واشنطون ، الحادثة مر عليها اكثر من ثلاثة أيام وبذلك اكتسبت الحق في اعتبارها حادثا يستحق الاهتمام و الاحتمالات الجنائية..تأخذنا الكاميرات الى مكان الجريمة ، حيث قفز السارق المفترض من السياج ، و سيشار لنا إلى آثار مروره على ارض الحديقة ( لن نلاحظ شيئا طبعا) و سيحدد لنا موعدا تقريبيا لوقوع الحادثة الاليمة ثم سنرى صاحب الكلب و هو يتحدث بتأثر بالغ 🙁 لم نعد نستطيع مواصلة حياتنا ، لا ناكل و لا ننام ، كما لو أن هناك موت في العائلة!)..قد نتخيل ان الكلب المسروق هو من “كلاب الزينة”.. لكن صـورة الفقيد بين اعضـاء الاسرة ستنفى ذلك الخاطر جـذريا ، فالكلب هو كلب بمعى الكلمة ، مع علاقة قرابة مؤكدة بفصيلة الذئاب ، كلب لن يمكن سرقته بسهولة حتى لو تم تخديره( لم يتحدث احد عن اثر لتخدير بالمناسبة !) ، لِم لَم يدافع عن نفسه كما سيفعل حتى كلب زينة صغير ؟ ينبح ..يعض ..يفعل ما تفعله الكلاب ( و البشر أيضا احيانا !)..سيتضـح ان هناك كلب آخر ( بمعنى الكلمة أيضا !) يمتلكه صاحب الكلب الاول و لكنه لم ينبح و لم يدافع عن أخيه.. يقول لنا صاحب الكلبين بتأثر أن الكلب الاخر مكتئب منذ الحادث ، بينما سينظر الكلب للكاميرا ويتثاءب بلا مبالاة..
هذا هو بأختصار بعض ما جاء في نشرة الاخبار الصباحية ، صبيحة ما يسمى بعيد الحب..
و لم يكن ذلك استثناءاً ، ففي اليوم الذي وصلت فيه الى واشنطون و كانت مذبحة غزة على أشدها ، فوجئت بخبرين رئيسيين يسيطران على نشرات الاخبار و الجلسات الحوارية في القنوات الوطنية الامريكية ، الخبر الاول كان يدور حول زيادة وزن مذيـعة سمـراء شهيرة و معاناتها من جراء ذلك ، و الخبر الثاني كان عن وفاة نجل نجم سينمائي مشهور ، حادثة وفاة طبيعية بلا شبهة جنائية او انتحار او حتى جرعة زائدة من المخدرات ..
هذان الخبران – إن جازت التسمية أصلا –سيطرا تماما على جلسات الحوار و كانا من ضمن من أهم برامج الحوار على أهم القنوات الوطنية “سي ان ان ، سي بي اس ، اي بي سي”..أي أنني هنا لا اتحدث عن الاخبار في قنوات التسلية و الترفيه و القنوات المحلية ، بل عن أهم القنوات و اكثرها رصانة بالمقاييس الامريكية طبعا.
لا أنكر هنا ان هذه القنوات تحدثت شيئا هنا و هناك عن “الأزمة في غزة” “تعبير الأزمة هو العنوان الرئيسي لما جرى” و لكن هذا كله كان ضمن كم و كيف هائل من الاخبار من على شاكلة الفئة الاولى ( العثور على رجل يحتجز 30 قطة في منزله ، أم زوجة اوباما تريد أن تعيش في البيت الابيض ، مطربة ما تجاوزت السرعة القصوى على الطريق العام ، وأخرى ضربها صديقها الرياضي..الخ) و هي الاخبار التي تحتل العناوين الرئيسية في الصحف التي توزع مجانا في المترو و تدور على مدار الساعة مع وسائل الإعلام الرئيسية التي قد تقدم مرة واحدة في اليوم مرورا سريعا على اخبار العالم ( و لكن ليس في عطلة نهاية الاسبوع بكل الاحوال ) أما سائر الاخبار فتدور في ذلك الفلك الذي يتلهى بأتفه التفاصيل و يجعلها أهم ما يستحق المتابعة ..
لكن ما هو مهم و ما هو غير مهم قد يكون نسبياً بعد كل شئ ، و حادث حريق بسيط في الحي المجاور قد يكون أهم بالنسبة لك من زلزال مدمر في الصين ، و لن يكون منطقياً أن نحاسب المواطن الامريكي على أن وسائل اعلامه لا تنقل له مشاكلنا ( و هذا قد يكون صحيح نظريا و لكن ليس عملياً لأن جزء كبير مما يدور في الشرق الاوسط يحدث بمباركة و مشاركة الحكومة التي يفترض ان هذا المواطن قد اختارها و هذا يجعله في موضع المشاركة هو الاخر ، و لكن سأترك هذا الامر الان فقط من أجل نقاش الفكرة الاصلية)..
لا يمكن أن نطلب من الإعلام الامريكي التركيز على مشاكلنا نحن لسبب بسيط ، هو أن هذا الإعلام لا يركز حتى على مشاكل المجتمع الامريكي نفسه ، فليس صحيحا البتة ان الامريكيين ووسائل اعلامهم يهتمون بكلب مفقود لأن لا مشاكل اخرى لديهم، هذا ببساطة هراء ، إنها امريكا و ليست سويسرا ولا اللوكسمبرغ ، هناك فقر و تشرد ، هناك معدلات جريمة مرتفعة ، هناك عنف ، هناك نسبة امية هي الاعلى بين مثيلاتها في العالم الغربي ، وكل هذه المشاكل موجودة في البنية الاجتماعية الامريكية حتى في حالات الانتعاش الاقتصادي ، و لكنها تزداد بحدة عند الازمات الاقتصادية كما هو الحال الآن ، حيث تؤثر الازمة على حياة كل فرد امريكي..
ربما سيكون الاهتمام بفقدان كلب أمرا مفهوما لو لم اكن ارى كل يوم اولئك المشردين الذين يسكنون المترو و الذين زحفوا بالتدريج حتى على محطات المترو في المناطق الراقية ( زادت نسبهم في 22 مدينة امريكية كبرى بنسب تتراوح بين 10-50% في العشرة الاشهر الاخيرة فقط) ..ربما كنت سأصدق ان الامريكيين لا مشاكل لديهم و لذا فأن اختفاء الكلب قد يكون قضية ، لو لم اكن ارى كل يوم ، عند مدخل المترو رجلا يقف و هو يحمل لافتة كتب عليها “قبل ثمانية اشهر كنت املك منزلا مثلكم جميعا”( أود أحيانا ان أقف معه و أحمل لافتة أكتب عليها : و أنا أيضا ، قبل أن تشرّفونا بمجيئكم !).. كان يمكن ان أتفهم الاهتمام بوزن المذيعة السمراء لو لم أكن ارى الطلاب “سمراً و بيضاً” يعتصمون على ابواب جامعة دي سي ، لأن جامعتهم أمام خيارين : اما ان ترفع كلفة الدراسة بنحو 20% أو أن تغلق ابوابها..كان يمكن ان أفهم كل ذلك ، لو لم يمر ذلك الخبر العابر عن الاب الذي قتل اولاده الاربعة و زوجته ثم أنتحر لأنه لم يعد قادرا على توفير الطعام بعد ان تم الاستغناء عنه في العمل . خبر كهذا مر عابرا دون ان تعقد عنه جلسات حوار و دون ان يستضاف “المستشار الروحي” كما حدث مع قضية وزن المذيعة (بالاضافة الى 3 مستشارين آخرين) و هكذا تم إطفاء الخبر وسط فقاعات الاخبار الاخرى التي يتم إدامتها دوما بفقاعات مماثلة..
للوهلة الاولى قد يبدو ان “الاخبار” هنا قد تحولت لتصير جزءاً من “صناعة التسلية ” و بالتالي صارت خاضعة لقانون” نسب المشاهدة “و نظرية “ما يطلبه الجمهور” العتيدة ..لكن هذا محض توصيف لما إنتهى له الامر ، وربما كان صحيحا في البداية فقط قبل ان تتطور وسائل الإعلام بالشكل الذي تطورت فيه ، أي قبل أن تنبت لها أذرعا اخطبوطية متعددة تمتد الى كل مكان ، فذوق الجمهور و متطلباته صارت تحدد سلفا من قبل وسائل الإعلام ، على الاقل خيارات هذا الجمهور صارت تحدد من قبل وسائل الإعلام ثم يكون له “حق الاختيار” من بين الخيارات المحددة سلفا..هناك نسبة محددة من الجمهور ستظل متمتعة بأستقلالية و سترفض الخضوع لغريزة القطيع المكبّل بأذرع الاخطبوط ، لكن هذه النسبة ستظل مهملة احصائيا و لا يمكن القياس او حتى التعويل عليها..
ما هو السبب في كل هذا ؟ و أنا مرة اخرى لا اتحدث عن عدم اكتراث الإعلام الامريكي لمذابحنا و مشاكلنا ، بل لمشاكل الامريكيين أنفسهم ، كيف حدث كل هذا ؟
الحقيقة ان الإعلام “يستثمر” إمكانات موجودة داخل النفس الانسانية ، لكنه “يجّيرها ” لجهة اخرى ، في داخل النفس البشرية هناك فعلا “الميل الى التعاطف” مع الانسان و هو ميل ايجابي و يمكن لو وضع في مسار آخر أن يسخر لصالح العمل على تغيير الواقع السئ..لكن بدلا من ذلك يأتي الإعلام و يصرفه في اتجاه آخر تماما ، اتجاه لا يؤدي إلى شئ إطلاقا ، بل الى طريق مسدود ، فبدلا من التعاطف مع المشردين و المسحوقين و الفقراء من أصحاب المشاكل الحقيقية ، هناك هذه المشاكل المفتعلة التي “سيضخ” الاهتمام بها من قبل وسائل الإعلام ، والتي لن تؤدي إلى شئ..مالذي سيحدثه مثلا الاهتمام بوزن المذيعة؟ مالذي سيحدثه التأثر لحادثة وفاة طبيعية ؟ لا شئ قطعاً غير صرف النظر عن المشاكل الحقيقية.. أما التأثر بمشاكل اولئك المسحوقين و المهمشين و الفقراء فأنه ربما يؤدي الى الوعي ..و الوعي قد يؤدي الى الرغبة في التغيير .. و الرغبة في التغيير قد تؤدي الى ( ما لا يحمد عقباه) بالنسبة لملأ كل زمان و مكان..أي الى الثورة…
و هذا بالطبع ما يعمل الإعلام على “درئه” ليس فقط لأنه موظف عند الملأ الذي يهمه استمرار الوضع الساكن ، بل لأنه بطريقة ما صار جزءاً من هذا الوضع الساكن ككل..
و لأن ما يخطط و يحدث للمجتمع لا يمكن أن يحصر فقط بالطــبقة الادنى و الاقل دخـلا ، و لو كان ذلك أكثر ظهورا فيها ،و لكن للمجتمع ككل فأن الامر هنا يشبه عملية بتر لعضو من اعضائك تجري دون ان تنتبه لأن الإعلام هنا يقوم بعمليـة التخدير و الالهاء عما يدور..و هذا هو في الحقيقة الاستعمال التاريخي للأفيون الذي كان يستخدم في العمليات الجراحية لغرض تخدير المريض و تخفيف آلامه..و هذ هو- بالضبط- الاستخدام الحالي للأعلام ، إنه افيون الشعوب الذي يخدرها و يلهيها عما يدور و يفعل بها ، بل أكثر من ذلك يسهل تشكيل سقف وعيها و تحديد خيـاراتها ، و يقودها لتختار ما حدد سـلفا انها ستختاره ، و ستتصور هذه الجماهير خلال ذلك انها تفعل ما تفعل بكامل وعيها و إرادتها..أنه أفيون الشعوب الذي قد يكون الشعب الامريكي ضحيته الاولى بهذا الشكل المبرمج الحاذق و على هذا النحو الواسع..لكن لأن الامور تتداخل في العالم بسرعة ، فان العالم كله صار يتعرض بالتدريج لما تعرض له الشعب الامريكي ، و ها نحن نرى الاذرع الاخطبوطية للأعلام تمتد لأوطاننا و تحاول ان تفعل الشئ ذاته ، مرة بأسمائها الاصلية المباشرة و مرة بأسماء معربة هي في حقيقتها مجرد “استنساخ” عن الأفيون الاصلي هناك..
مهما تحدثنا عن تأثير الإعلام سلبا و ايجابا في بلداننا العربية فأن الامر لا يمكن أن يقارن بتأثيره على الفرد الامريكي ، و ربما لا يعود ذلك الى استقلالية “مفترضة” للفرد العربي بل الى ركاكة وبلادة أغلب وسائل الإعلام العربية خاصة الرسمية منها..مقابل الحذق و المهارة التي تمكنت من خلالها وسائل الإعلام في الغرب ان تكون أفيونا حقيقيا..
لا يمكن تعميم الركاكة و البلادة على كل وسائل اعلامنا ، خاصة في العشر سنوات الاخيرة ، لكن ذلك يمكن ان يكون سلاحا ذو حدين : فالحذق الإعلامي يمكن أن يكون أفيونا يلهي الجماهير عن عملية بتر لعضو من اعضائها ( لدماغها مثلا؟..لهويتها ؟)..و يمكن ان يكون وسيلة لنشر الوعي و تحرير الانسان من عبوديته لملأ كل زمان و مكان..الإعلام يمكن أن يكون موظفا عند تاجر المخدرات ..و لكنه يمكن أيضا أن يكون موظفا عند “الحقيقة“..عند ما يجب أن يكون..عند فكر يبذر للنهضة ويمهد لها و يزرعها في عقول الجماهير و يحوّل هذه الجماهير من موقع المتفرج السلبي الذي أدمن التصفيق للمنتصر ( حتى لو كان فريق كرة) الى موقع الفاعل البنّاء ..لن يكون ذلك بوعظ مباشر او بالخطابية التي اغرقنا أنفسنا بها ، بل بالحذق الذي يتسلل على أطراف أصابعه ليسكن الوعي و اللاوعي و كل تلافيف الدماغ والروح….وعندها ،عندها فقط ،قد يحدث ما سيحمد عقباه..