د.أحمد خيري العمري
بعض المفاهيم السلبية الراسخة في الثقافة الجمعية والعقل الجمعي تكون مستفزة جدا من شدة سلبيتها خاصة إذا تسترت خلف نص ديني مقدس بريء تماما من الفهم السلبي له، ويكون الاستفزاز أشد وطأة عندما يكون هذا النص الديني حديثا ضعيفا لا يستحق إلا الإبعاد والإقصاء ومع ذلك يعامله البعض كما لوكان صحيحا بل وتعامل الفكرة داخله بتقديس شديد على أساس أنها “سنة من السنن الإلهية”!.. والنتيجة النهائية لذلك هي تكريس المفهوم السلبي بدلا من استئصاله وتقويته بدلا من اجتثاثه من جذوره..
بعض الأحاديث الضعيفة قد لا يندرج ضمن ما سبق، قد تكون مجرد كلمة طيبة أو قول مأثور في فضائل الأعمال أو المزيد من العبادات.. وهذا ما جعل بعض أهل الحديث يتساهلون في أحاديث من هذا النوع.. لكن هناك أنواع من الأحاديث الضعيفة التي توحي للوهلة الأولى أنها مسالمة ولكن أثرها الخطير الكبير لا يدرك إلا على المدى البعيد المتراكم..
وهكذا، فإن حديثا ضعيفا يمرر “بدعة” شعائرية قد يكون أقل خطرا من حديث ضعيف يمرر مفهوما سلبيا إلى فكر الأمة.. فالشعيرة البدعية تكون واضحة جلية للعيان، سهلة التشخيص، وبالتالي سهلة الاستئصال نسبياً، أما الفكرة التي تدخل في تلافيف العقل الجمعي فهي تجري منا مجرى الدم ولا يمكن تمييزها بسهولة لأنها تصير بالتدريج جزءا من الرؤية.. من طريقة النظر.. من منهج الحكم على الأشياء..
كثيرة هي الأحاديث الضعيفة التي مررت “مفاهيم سلبية” وحصنتها خلف قداسة النص النبوي وصارت هذه المفاهيم مقدسة بدورها، والتجرؤ على نقاشها صار مثل الخوض في حقل ألغام تاريخية ودينية.. رغم أن الأمر كله في أساسه مبني على ما لا يمكن البناء عليه: مجرد حديث “ضعيف”..
من هذه الأحاديث حديث “كما تكونوا يولى عليكم”.. وهوحديث ضعيف ولم يخرجه إلا الديلمي ولم يصححه أحد من علماء الحديث ولست بصدد ذكر ما قاله العلماء في السند أوالمتن .. كما أني لست بصدد ذكر ما قاله بعض المختصين فيما يتعلق بالصياغة اللغوية للحديث المخالفة للسان العرب والمشهور في قولهم فيما يتعلق بحذف النون من الفعل “تكونوا”، لكني أودّ أن أذكر أن هذا الحديث صار جزءا من العقلية التي تربينا عليها: عقلية عدم محاسبة الحاكم أو ولي الأمر.. عقلية تجعلنا مستعدين لتقبل أخطائه وكوارثه على أساس أن لدينا نحن أيضا مساوئ وخطايا حتى لوكانت من نوع آخر…. صحيح أن بعض من يستعمل “الحديث” يهدف إلى أن يبدأ الناس بإصلاح أنفسهم كخطوة أولى.. لكن هذا في واقع الأمر يشبه الدخول في حلقة مفرغة: فإصلاح المجتمع يتطلب دوما القيام بخطوات قد يرفضها ويحبطها “ولي الأمر” السيئ الذي تولى أمرنا لأننا نستحق ولايته – بحسب فكرة الحديث الضعيف -.. (لا أعتقد أني بحاجة إلى أمثلة وشواهد هنا للتوثيق ).. يجب أن لا ننسى هنا أن “ولي الأمر” يلعب دورا يشبه دور القدوة أوالمثل للجماهير سواء كان ذلك بطريقة واعية أوغير واعية.. وعندما يكون ولي الأمر ( أوالحاكم، أو الرئيس.. أي تسمية أخرى) حازما جادا في عمله فإن ذلك ينعكس على الجماهير التي يحكمها، والعكس صحيح أيضا: عندما يكون لاهيا، عابثا.. فإن ذلك ينعكس حتما ولوعلى نسبة معينة من الشعب الذي يحكمه.. وهكذا فإن المثل العربي السائر(الناس على دين ملوكهم) يعبر عن ملاحظة لظاهرة بشرية صارت اليوم تدرس في علم النفس، بل صارت جزءا أساسيا مما يعرف بعلم نفس القيادة (Leadership psychology ).
الآلية التي يحدث عبرها تقليد الجمهور للقائد أو اتباعه آلية معقدة وتشمل ما هوأعمق من مجرد الإيمان بالزعيم أوالخوف أو التملق أو الرغبة في السلطة.. فهذه تحدث في الجزء الواعي من السلوك، لكن جزءا عميقا من اتباع القائد أوالزعيم يعود لجذور نفسية عميقة تعرف في علم النفس التحليلي باسم الانتقال Transference حيث يسقط الجمهور ” طاعته ” تجاه القائد نحو رمز آخر، أبوي غالبا، بطريقة لا شعورية ومنفصلة عن مشاعره الواعية تجاه هذا القائد.. وهذا يفسر ما نعرفه تماما من سلوكيات ” محيرة ” يقترفها أشخاص نعرف جيدا كرههم للزعيم ولكنهم في ساعة معينة يتصرفون بطريقة معاكسة تماما وتظهر منهم مبالغة في الطاعة العمياء..
غالبا ما يفسر ذلك بأنه الخوف من “البطش”.. لكننا نعرف أكثر من غيرنا أن البطش قد يفسر السكوت عن الحق ولكنه لا يبرر المبالغة في إظهار الطاعة.. هل هو مجرد النفاق والتملق؟ رغم أن هذا وارد أيضا إلا أنه لا يكفي لتفسير الظاهرة عند نسبة كبيرة من الجمهور الذي لا يمكن اتهامها بالنفاق بهذه السهولة..
إذن علاقة الجهور بالقائد ملتبسة ومعقدة وتشبه العلاقة بين البيضة والدجاجة في السؤال الشهير.. واختصار ذلك بمقولة خاطئة ومنحها القداسة عبر نسبتها اليه عليه الصلاة والسلام أمر خاطئ علميا وأخلاقيا وقبل كل ذلك شرعيا.. فضلا عن اعتبار ذلك كله “سنة من السنن الإلهية”..!
من ناحية أخرى، التاريخ يكذب هذه السنة المزعومة، فالناس الذين تولى عليهم عمر بن عبد العزيز – كمثال لا خلاف عليه لولي الأمر الصالح- هم ذاتهم الذين تولى عليهم من سبقه ومن خلفه.. لم يتغيروا.. ولا يمكن الزعم أن الناس تغيروا بمجرد إعلان البيعة لخليفة جديد..
الشيء ذاته ينطبق على حكامنا المتعاقبين في التاريخ المعاصر: فهم ليسوا سواء في ( الخير أوالشر!) ولا يمكن التصور أن شعوبنا قد تغيرت( إلى الأفضل!) بمجرد سماعها “البيان رقم واحد”..
لا أنفي هنا أهمية التغيير الشامل والتغيير من القاعدة فذلك لا خلاف عليه ولكن ذلك لا يعني أن معادلة التغيير الشامل يجب أن تقصي دور القائد وتركز على الجمهور فحسب.. ولكن عملية التغيير الشاملة معقدة وتشمل البنيتين الفكرية والاجتماعية وتشمل أيضا القائد الذي قد يشارك في قدح زناد التغيير..
مقولة “كما تكونوا يولى عليكم “- والتي أنتجت بدورها مقولات أخرى تقدم المعنى نفسه بلغة معاصرة- تسطح كل ذلك وتشوهه وتقدم تفسيرا جاهزا لكل ما يفعله الحكام وأولياء الأمور.. وتقدم بالتالي تبريرا لأفعالهم بحجة أن الأمر “سنة إلهية”!
كيف انتشرت مقولة كهذه رغم معارضتها لأحاديث صحيحة (حديث كلمة حق عند سلطان جائر وحديث تغيير المنكر على سبيل المثال لا الحصر) بل وآيات قرآنية كثيرة تحث على التغيير؟ كيف صارت مقولة كهذه جزءا من منظومة التفكير وهي تنسب له عليه الصلاة والسلام الذي كانت كل حياته نموذجا يدحض هذا المفهوم؟
لا ريب أن بعض المؤسسات التي استفادت تاريخيا من مفاهيم سلبية كهذه كان لها – ابتداء- دور في الترويج لمثل هذه الأفكار.. لكن هناك عامل آخر أزعم أنه أقوى وأكثر تأثيرا من ذلك: إنه العامل السلبي الموجود في النفس الإنسانية الذي سُمي في علم النفس بعامل الانحياز للسلبNegativity biases والذي يفسر الكثير من الظواهر الإنسانية المعروفة..
مفهوم سلبي كمفهوم (كما تكونوا يولى عليكم ) يقدم لمعتنقيه راحة وأمانا مزيفين: إنه يقنعهم أن لا داعي لمسائلة الحاكم لأنه في النهاية جزءٌ من سنة إلهية.. جزء من العقوبة الإلهية التي يستحقها الناس، ولذلك فالمواجهة معه خاسرة حتما حسب هذه المفهوم (من يجرؤ على مواجهة السنن!؟) مالم يتم إصلاح الطرف الأول من المعادلة المزعومة، وعندما يتم ذلك فالمواجهة لن تحدث لأن المفهوم يوحي بأن ولي الأمر سيصلح تلقائيا ( سيتوب مثلا، أوسيموت بنوبة قلبية ويخلفه من هوأفضل..)..
لا أدعو هنا إلى “الثورة” بمعناها السطحي المستهلك والذي خلط عندنا للأسف بمفهوم الانقلاب، بل أدعو أولا إلى ثورة ضد مفاهيم كهذه أولا، لأنها المادة الخام لكل مظاهر الاستبداد، لأنها تقدم التربة الخصبة التي تجعل أي مستبد (سواء تخفى خلف العلمانية أوالديمقراطية أوالإسلام) يستبد أكثر وأكثر..
دعونا لا ننسى أن حكامنا لم يأتوا من كوكب آخر، بل نشؤوا ضمن نفس المنظومة الثقافية التي نشأت فيها شعوبهم، لقد رضعوا هذه المفاهيم كما رضعتها الجماهير: فإذا ما صاروا قادة وزعماء( بهذه الطريقة أوتلك!) تصوروا أن شعوبهم تستحق ما تنال.. ولذلك فاستئصال هذه المفاهيم ونزع الشرعية المزورة عنها هو أمر لا بد منه من أجل مستقبل خال من الاستبداد..( أو على الأقل أقل استبدادا..!)
أمران لا بد من الاشارة إليهما هنا: كلما جرّ بعض الحكام المصائب والويلات على شعوبهم كنت أرى البعض (من شعوب أخرى) يمصمص الشفاه ويتحسر قائلا: “كما تكونوا يولى عليكم!” ويتضمن هذا إدانة جماعية لتلك الشعوب وهي إدانة ظالمة وفيها تعميم غير عادل، وفي الوقت نفسه تمنح هذه الإدانة نوعا من الراحة للقائل، إنه يقول ببساطة إن هذه الشعوب تستحق ما يحدث لذا فلا داعي للحزن أو الألم ناهيك عن المساعدة..
سؤالي هنا هو: هل شعوبنا سيئة لهذه الدرجة لتنال ما نالته؟ وإذا كانت الإجابة بنعم، فلم لا يكون هذا قد حدث نتيجة لتسلط هؤلاء الحكام، وليس تسلط الحكام هوالذي نتج عن سوء الشعوب..؟
بل لماذا لا تكون الشعوب سيئة لوجود هذه المفاهيم أصلا، ووجود من يكرسها ويروج لها بدلا من أن يحاول استئصالها وينزع زورها المنسوب إليه عليه أفضل الصلاة والسلام..؟
الأمر الثاني: إن نقد مظاهر الحياة الغربية ومسلماتها لا يعني على الإطلاق التسليم بكل ما في تراثنا، ففي تراثنا أيضا سلبيات تراكمت وتكاثرت عبر القرون وتمكنت بعض هذه السلبيات من إيجاد قداسة وهمية عبر حديث ضعيف هنا أوموضوع هناك أو نص صحيح مجتزئ من سياقه على طريقة (لا تقربوا الصلاة).. بعض هذه السلبيات لم تنمُ أصلا ولم تزدهر إلا في فترات خمول الحضارة الاسلامية وانهيارها.. لكن وضع التراث كله في “سلة واحدة” يجعلنا لا نميز كثيرا بين ما يمكن استثماره في النهضة و بين ما يجب اجتثاثه من أجل النهضة ..و الحديث المذكور ليس سوى مثال بسيط على كوم من الأحاديث الضعيفة وما شابهها التي مارست دورا تخريبيا في بنية الأمة.
مشروع النهضة الحقيقية التي نحتاجها لا يمكن إلا أن يتأصل عبر نصوص صحيحة ثابتة، وهو المشروع الذي عليه ألا يتهاون في اجتثاث كل ما هو دون ذلك مهما كان محصنا بالأعراف السائدة .. أي تهاون في ذلك يشبه البذار في حقل لم تعزق أعشابه الضارة جيدا، سينتهي الأمر بالأعشاب وهي تزاحم البذور الجديدة في غذائها وهوائها.. ومن ثم تنتهي بقتلها…
وإلى حين ذلك، ستبقى المفاهيم السلبية بقداستها الوهمية تنخر جسد الأمة وتمنعها ليس من فاعليتها ودورها فحسب ، بل تقلل من مناعتها وتجعلها بالتالي أكثر عرضة للتغريب بكل أشكاله. .