الصيام من اجل الضحايا: ‘صمام الأمان’ الشعائري.. د. أحمد خيري العمري 2009 |
لأن قوانين الفيزياء هي جزء من منظومة ‘سُننية’ اكبر بكثير من مجرد الفيزياء كعلم مستقل، فأن بعض جوانب النفس والمجتمعات الانسانية تنطبق عليها قوانين مماثلة لتلك التي تنطبق على المعادلات الفيزيائية الجامدة.. وهكذا فان قوانين الفعل ورد الفعل وقوانين ضغط الماء تنطبق على البخار المضغوط كما في التجربة المعروفة والمشاهدة عمليا.. وتنطبق أيضا وبطريقة مشاهدة ومحسوسة على النفس الانسانية وعلى المجتمع بشكل عام.. فنرى الضغط يزيد ويزيد لدرجة الانفجار ونرى للفعل رد فعل.. مساو ومعاكس.. وكما إستطاع الانسان ان يستخدم السنن والقوانين ليسخرّها لخدمته، فان بعض المؤسسات الاجتماعية تمكنت أيضا من إستخدام نفس تطبيقات الامان من أجل تأخير رد الفعل او تحجيمه او حتى الغائه.. وهكذا فان زيادة الضغط وصولا الى حافة الانفجار أدّى الى إبتكار ‘صمام الامان’ من اجل احتواء ذلك قد وجد أيضا تطبيقات إجتماعية تفعل الشيء نفسه لأمتصاص زيادة الضغط الاجتماعي. ‘صمام الامان الاجتماعي’ هذا يفترض بشكل حاسم ان ‘الانفجار امر خاطئ ومضر للمجتمع لذا فهو يقوم بأحتوائه كما هو الامر في التطبيقات الفيزيائية المباشرة. لكن من قال إن الانفجار دوما امر سيئ؟ ربما كان الانفجار أحيانا عملية’لا بُدَّ منها، خاصة عندما يطيح بما يجب ان يعاد بناؤه، بما لم يعد ممكنا الاستمرار فيه.. خاصة عندما يهدم أسساً ظالمة وقواعد خاطئة قام عليها مجتمع عليه ان يراجع أسسه ومقوماته.. من هذا المنطلق فان صمام الأمان الاجتماعي هذا، الذي يؤخر الانفجار ‘محمود العواقب’، لا يمكن ان يمنح الامان الا للمؤسسات القائمة المستفيدة من واقع الخراب والفساد .. اما الأمان الحقيقي، بعيد المدى… متعدد الابعاد، فهو بالتأكيد يأتي من إقامة أسس جديدة قد يتطلب بناؤها هدم ما يجب هدمه. صمام الامان الحقيقي هنا هو ذاك الذي لا يخفف الضغط من اجل دفع الانفجار، بل هو الصمام الذي يحوّل الضغط المتزايد الى عامل بناء- بدل أن يكون هدماً عبثياً فحسب.. أقول هذا كمقدمة لا بد منها قبل الدخول الى ‘حقل الغام ‘ الحديث عن ذلك التوظيف السلبي للشعائر في مواجهة الأزمات عموما .. واعتقد إن إستخدامها في مواجهة المذبحة الجارية حاليا هو مثال عملي قريب وواضح عن كل ما أود قوله. منذ ان بدأت المذبحة الاخيرة ( كانت غزة وقت كتابة المقال، ويمكن أن تكون أي مكان آخر) وأنا ، كما ملايين غيري، نستلم على البريد الالكتروني وعلى الجوّال، رسائل تنادي وتدعو باداء شعيرة معينة (الصيام او قيام الليل أو الدعاء) ‘من أجل المدينة الفلانية التي تتعرض للقصف’ وانا بالتاكيد أقدّر جدا الدوافع النبيلة خلف هذه الدعوات ولا اشكك على الاطلاق في نية’من ينادي بها، لكن ‘النية الحسنة’ لا تكفي لجعل العمل صوابا. انا هنا اتحدث عن ثقافة متأصلة ومتوارثة عندنا يمكن تسميتها بثقافة ‘صمام الامان’ الشعائري.. ويكفي القليل فقط لأستفزاز هذه الثقافة وإستحضارها.. كعراقي، مر بما يشابه ، لا أستطيع إلا ان أذكر شعوري الحاد بالمرارة من ذلك التعاطف الشعبي العربي الذي كان يتخذ شكل الصيام والدعاء .. أذكر بالذات عند بدء الغزو في آذار (مارس) 2003 ولم تنقطع الاتصالات تماما الا في اليوم الثالث او الرابع من الحرب، وكنت خلال ذلك أستلم رسائل على البريد الالكتروني تدعو إلى التضامن معنا من خلال الصيام والصلاة والدعاء من أجلنا.. ولا أزال أذكر ذلك الشعور المر والتساؤل الذي يطفو بعده: حسناً جداً، ولكن ماذا بعد؟ لا أقول ذلك للتقليل من اهمية تلك المشاعر ولا من نية من يروج لها .. ولكن السبب في المرارة هو إن الاساطيل التي جاءتنا مرّت من مضايق في نفس البلدان التي كان الناس فيها يتبادلون الرسائل ويصومون من اجلنا .. الطائرات التي أمطرت الموت والدمار كانت تنطلق من قواعد عسكرية في دول لا أشك ان أهلها كانوا يشاطروننا التعاطف ويصومون ويدعون من أجلنا أيضا.. لكن ذلك كله لم يغير شيئا مما حدث لنا وبنا.. والوضع العراقي ليس حالة نادرة وإلا ما كان هناك داع للخوض فيه، لكن هذه ظاهرة متكررة في تأريخنا وازماتنا ومذابحنا وأسلوبنا في التعامل معها.. وأي مجزرة ( حاضرة أو لاحقة) هي نموذج آخر مشابه جدا في خطوطه العامة لما حدث معنا .. وأي مجزرة اخرى ستكون مشابهة أيضا ما دامت جزءا من ظاهرة عامة أكثر من كونها حدث عابر.. يمكن القول بتبسيط : إن الشعوب مغلوبة على أمرها.. وهذا صحيح، وهو لب المشكلة بالضبط : إنها ‘مغلوبة’ على امرها اكثر مما يجب، بالضبط لقد قولبت داخل’ثقافة جعلتها كذلك.. هناك ثلاث عوامل اساسية في هذه الظاهرة، هناك عدوان خارجي (مذبحة، حصار، غزو .. الخ) وهناك تعقد في الظروف الإقليمية يجعل التدخل أمرا غير مطروح. وهناك ثالثا رفض شعبي لكل هذا وشعور بالتعاطف الحاد والغضب الحاد والرغبة في’ الفعل’ .. فعل أي شيء.. هنا، عند هذه النقطة بالذات، يأتي توظيف الشعائر في هذا السياق،’ليتدخل بطريقة أزعم انها معاكسة تماما للمقصد من الشعائر والعبادات في الاسلام… الصيام من اجل ” ضحايا المذبحة الفلانية” قيام الليل دعاء من اجلها .. الخ يجعلك تشعر أنك تقوم بشيء ما من أجلها .. وفي الحقيقة أن إستجابة الدعاء من قبل الباري عز وجل مشروطة بسنن آلهية وضعها الباري نفسه، والاستثناءات هنا محكومة ايضا بهامش المضطر ‘أمّن يجيب المضطر إذا دعاه ‘.. والمعنى هنا إن هذا المضطر هنا قد عمد الى إتخاذ كل السنن والعمل بها لكن ذلك بقي يحتاج الى تدخل الهي للسداد وللتوفيق أو النجاة من ظروف استثنائية، أما من اكتفى بالكسل والتواكل واللافعل فليس داخلا حتى في ‘سُنة ‘ إستجابة الدعاء.. وقد قال العملاق عمر بن الخطاب ‘لا يقعدن احدكم عن طلب الرزق فأن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة’.. وهي لا تمطر إنتصارات كذلك للقاعدين. والذي يحدث هنا ان الجماهير ‘تغلي’ لكي تفعل شيئا تجاه ما يدور .. وكما يفعل صمام الامان في ‘قدر الضغط’ فان الصيام وقيام الليل تعاطفا مع الضحايا، سيخفف من غليانها، عبر إيمانها إنها على الاقل قد فعلت شيئا.. وهكذا، وبعد ان صُمتَ يوماً او يومين، او الاسبوع كله، او خلال الازمة كلها، فانك ستعتقد انك قد فعلت ‘شيئا ‘ من اجل الضحايا.. وبالتالي فانك لن تبحث عن شيء آخر لتفعله: اي إن ‘إرادة العمل’ قد غيبت وأستهلكت هنا.. وبالتالي عملت الشعائر هنا عمل صمام الأمان الذي يخفف من الضغط ويمنع الانفجار.. وهو الانفجار الذي يمكن ان يكون ‘محمود العواقب‘.. الذي يمكن ان يطيح بكل الاسباب التي اوصلتنا إلى هذا الدرك، الانفجار الذي يجب ان يحدث ليس ليزيح الانظمة السياسية المتواطئة فحسب، بل ليطيح بكل البنية الثقافية التحتية التي أوصلت هذه الانظمة، ضمن اشياء أخرى ،الى التحكم بنا.. الانفجار الذي يجب ان يطيح بثقافة الخنوع والخضوع والاستسلام لكل ما يحدث: ثقافة الدعاء للغالب والخضوع للغالب .. تلك الثقافة السلبية التي جعلتنا ما نحن عليه وغيبت معظم الايجابيات الكامنة في ديننا وفي نصوصنا الدينية.. تلك الثقافة تستحق الانفجار لأن الاستمرار فيها لا يحقق أي امان .. والضغط المتولد عن نتائجها (والمذبحة هنا هي نتيجة بارزة من نتائجها) يجب ان لا يخفف عبر صمام امان من أي نوع .. بل يجب أن يوظف نحو ما يجب أن يوظف نحوه.. شيء آخر يجب ان لا أتجاهله هنا، وهو ان التبرع بالاموال لا يندرج إطلاقا ضمن نفس خانة صمام الامان الذي تحدثنا عنه لإعتبارات واضحة، لكن ينبغي أن نتذكر هنا أن هذا ليس كل شيء: فما حدث ويحدث في غزة ليس ‘تسونامي’ طبيعية لكي يكون التبرع هو كل ما يمكن القيام به، بل هو كارثة حتمية نتجت عن ثقافة آن أوان مواجهتها… أمر آخر : بعض التيارات الاسلامية إنتقدت الدعوة الى ‘الصيام من اجل (…)’ ولكن مما سيبدو إنه زاوية أخرى تماماً : فقد قيل إن هذا ‘بدعة’.. وكل بدعة ضلالة.. وكل ضلالة في النار.. بغض النظر عن التوصيف الفقهي للأمر، أجد إن توظيف الشعائر كصمام أمان من هذا النوع هو بدعة فعلا.. فالشعائر في الاسلام شرعت لتقيم الانسان، لتشد عوده، لتجعله قادرا على بناء المجتمع وهدم ما يجب هدمه منه ضمن عملية’البناء.. وليس من أجل منح بعض الأمان لقطيع الخراف المساقة الى الذبح. إجتزاء الشعائر من سياقها النهضوي البنّاء الى سياق ‘صمام الامان’ هذا، هو بالتأكيد ‘بدعة’.. بطريقة او بأخرى. |