حدثنا مالك قال !
“باردايم الإسلام الحضاري وعبء الجيل الحالي “
نشر في كتاب ( علماء مكرمون/ جودت سعيد) ضمن مجموعة مقالات مهداة إلى الأستاذ جودت سعيد / من إصدارات دار الفكر عام 2006
أحمد خيري العمري
أنتمي لجيل ولد أو نشأ بعد وفاة مالك بن نبي . أنه الجيل الذي كبر على أنكسار الحلم العربي الكبير المزدهر في خمسينيات القرن الماضي : جيل الهزيمة والتخبط والتيه. الجيل الذي افتتح وعيه بهزيمة 1967 وضياع القدس وكبر على الهزائم المتتالية منذ حصار بيروت الى سقوط بغداد .
أنتمي إلى جيل هو جيل السقوط بلا منازع ولا جدال. جيل الإحباط واليأس من أي قدرة على أي تغيير. جيل فقد الثقة في نفسه وفي كل ما حوله و توج تفاعله السلبي مع ظروفه بنماذج من الشباب أوصلهم فكرهم الى طريق مسدود واحد : الأنفجار أنتحارا ..
أنه جيل الإحباط بامتياز، هو هذا الجيل الذي أنتمي إليه، سواء كان هذا الإحباط أنتحارا مع كل الحجج التي تدعي الشريعة – أو تغريبا مدعوما بسطوة الحلم الامريكي المؤدلج – أو محض استسلام سلبي لكل ما تأتي به رياح الظروف.
نعم . جيل السقوط والإحباط ،بلا منازع . و بلا منافسة . و بلا أي جدل.
فما الذي يجعلني أتحدث عن هذا وأنا أنوي التحدث عن مفكر النهضة مالك بن نبي ؟
في الحقيقة أن الأمرين مرتبطأن جدا . ليس “بالرغم من ” أنتمائي لجيل السقوط . بل ” بسبب ذلك ” .
جيل السقوط والإحباط هو الذي يحتاج الى مالك أن يقول له .
ليس “بالرغم من ” .. ، بل ” بسبب “.
******************
كنت في السابعة عشر من عمري عندما تعرفت الى مالك للمرة الأولى. أبتعت تلك النسخة القديمة المهملة[1] التي تنازل عنها صاحبها إلى سوق الكتب المستعملة .
لا أزال اذكر كيف هزني الكتاب،ولكن ايضا كم شعرت بالإحباط المر يجتاحني بعدما أنتهيت من قراءته ……..
شعرت بغم لا حدود له،لا لشيء، إلا لأني لم أكن قد سمعت بمالك قبل ذلك، ولا حتى باسمه رغم أني كنت ” دودة كتب” حقيقية وقارض قديم من قوارضها منذ أن تعلمت الأبجدية، وكان عدم معرفتي بمالك ولا حتى باسمه وهو بهذا الحجم الذي اصطدمت به منذ أول كتاب، دليل على خلل كبير في الثقافة التي بدا لي أنها أمدتني بما هو خطأ … لأقرضه .
قارنت يومها بين أصالة فكر مالك وبين رتابة وبلادة وديماغوجية العشرات بل المئات من الكتب التي كانت سائدة ومنتشرة ومدعومة بأسماء لها سطوة النجومية، وكانت المقارنة لصالح مالك، ولغير صالح الواقع الثقافي السائد .
بالنسبة لابن السابعة عشر كانت حقيقة “عدم شهرة ” مالك، مقارنة بشهرة أسماء اخرى، حقيقة مؤلمة ومحبطة: كما لو أن المفكر الأصيل عليه أن يظل منفيا داخل غربته – بقدر أصالته وإبداعه .
كان ذلك درسا صعبا،تعلمته، وأنا بعد في “مراهقتي ” – و كان مالك وشروطه ، من الأشياء القليلة التي وضعتها في متاعي ، فيما بعد ، عندما غادرت المراهقة الى النضوج.
*************************
السنن الالهية وعلاقتها بمبيعات الكتب
…لكن ما كان يمكن لمالك إلا أن يكون مغمورا في ذلك الواقع البائس الذي ما كان لرموزه وشخوصه الثقافية الا أن تمثل أنحطاطه وتخلفه.
ما كان للكتب الرائجة على الرصيف الا أن تكون نموذجا لواقع ثقافي ما كان ليرتفع أنملة عن “الرصيف “..
وما كان يمكن للقائي بمالك، إلا أن يكون صدفة،عند بائع كتب قديمة ومستعملة .
كل ذلك كان طبيعيا جدا. كان جزءا من القأنون الطبيعي الذي يحكم الكون. جزء من طبيعة الأشياء، ومن معادلة الأنحطاط. وكان الأمر سيكون ” ضد الطبيعة ” لو كان اسم ” مالك بن نبي ” لامعا وكانت كتبه تباع في كل مكان مع كتب الأدعية والجن والفتاوى المعلبة ….كان الأمر سيكون مخالفا “للسنة الإلهية” لو أن واقعا ثقافيا مزريا تقبل وأحتضن أفكارا كأفكار مالك …
لكن بما أننا، واقعنا، وجيلي – تحديدا -، وصلنا الى ما يبدو أنه نقطة النهاية، سواء كان ذلك عبر الأنتحار المؤدلج، العبثي، أو الاغتراب المؤدلج العبثي ايضا . فأنه صار لزاما على واقعنا أن يتغير، وأن يتخلى عن رموز خرابه وركامه، ويبحث عن خميرة لواقع آخر، خميرة لمستقبل ( علينا ) أن نجعله أفضل من واقعنا ..وإلا كنا مهددين بخطر الأنقراض ..بخطر أن لا يكون هناك مستقبل على الإطلاق .
*******************
في نقطة كهذه على جيلي أن يلتقي بمالك .
ليس لقاء الصدفة ، عند باعة الكتب المستعملة .
بل لقاء الحتمية، لقاء الضرورة التاريخية – والحضارية …
فلننس حرفة مديح المناسبات
أستطيع أن ازعم أن مالك بن نبي يمثل نسيجا مختلفا عن كل النسيج الثقافي العربي – الإسلامي الذي فرض نفسه كرداء شرعي وحيد منذ أن بزغ تساؤل ” لماذا تأخرنا ؟، ولماذا تقدموا ؟ ” أواخر القرن التاسع عشر الميلادي ..
وعندما أقول أنه كان نسيجا مختلفا فأني لا أضمر الثناء التقليدي الذي تعودنا أن نوزعه ذات اليمين وذات الشمال كلما دعينا الى الكتابة عن أحد، بل أني اقصد أن أقول أن اختلافه كان جذريا جدا عن كل السائد والمنتشر والمتداول من الأفكار ..وربما كان هذا هو سبب من الأسباب التي جعلت من أفكاره تبدو مطمورة وغير قابلة للأنتشار. لأنه كان ببساطة يتحدث بلغة أخرى: بأبجدية مختلفة عن الأبجدية التي سادت الخطاب الديني –والخطاب الفكري بصورة عامة ..،وهذا ما جعله يبدو هجينا ونشازا عن كل السائد.
سؤال النهضة: جوابان فقط لا ثالث لهما
بصورة عامة، تمحورت المشاريع التي طرحت للرد على سؤال ” التأخر والنهوض ” حول محورين إثنين..
المشروع الأول كان للأفغأني، وقد ركز على الإصلاح السياسي ( نظام الحكم ) وإصلاح قمة الهرم التي افترض أنها ستصلح الباقي بالتدريج .
المشروع الثاني كان لمحمد عبده، وقد ركز على الإصلاح الوعظي – الديني ، بمعنى العودة إلى الدين بعد تنقية العقيدة من الشوائب التي أدخلت عليها عبر عصور الأنحطاط.
ولو تأملنا في الخطوط العريضة للمشروعين، لوجدناها ذات الخطوط العريضة التي سيطرت على مجمل المشروع الثقافي – الإسلامي في القرن الماضي، مع الأخذ بنظر الاعتبار وجود الاتجاه نحو أقصى اليمين او أقصى اليسار -إن جاز الوصف -في كل مشروع .
فبعد كل شيء: تركت فكرة الافغاني أثرها الواضح في تيار فكري عريض ومنتشر وله شعبية كبيرة، حتى لو تنكرت بعض أجزاء هذا التيار للأفغأني واتهمته بشتى التهم فأن فكرة الإصلاح السياسي التي طرحها ظلت عميقة ومتجذرة في وعي وأيضا – لا وعي – هذا التيار، باعتبار أن ” الحل السياسي ” هو الجواب الوحيد الممكن للخروج من مأزق التخلف .
تدرجت الرؤية لهذا الحل من الرؤية الليبرالية المعتدلة التي تؤمن بالعمل السياسي سبيلا لتغيير الحكم ( أو تقول ذلك على الأقل، وقد تقول أيضا أنها لا تطمح للوصول إلى الحكم!) إلى رؤية أكثر راديكالية وأن لم تتبع أساليب راديكالية، مثل المناداة بعودة نظام الخلافة (حزب التحرير نموذجا)، إلى الجماعات الأكثر تطرفا التي تؤمن بالعمل المسلح كوسيلة لتغيير نظام الحكم، والتي اصطدمت وبقوة بالواقع السياسي منذ أوائل ثمانينيات القرن الماضي ..الى أن أنتهت الى ما أنتهت إليه..
ورغم الاختلافات الموجودة في هذه التدرجات فأن القاسم المشترك بينها، يعود أساسا الى رؤيتها للعلة في واقع التخلف. وبالتالي في ” الدواء ” الذي تصفه للأمة . وبالتالي كانت المناداة “بتطبيق الشريعة ” و شعار “الإسلام هو الحل “، والمحاولات الانقلابية للإطاحة بأنظمة الحكم، تعبيرا مختلف التدرجات لرؤية واحدة كان الأفغاني هو أول من نظّر لها في العصر الحديث: الحل يأتي من السياسة.من نظام الحكم.
أما المشروع الثاني، فقد كان محمد عبده هو صاحب الصوت الرائد فيه، أنه مشروع الإصلاح الديني الذي يدعو للعودة الى الدين “الحق” –شعائرا و فرائضا و أخلاقا و عقيدة – و أيضا يركز على تنقية الدين من الشوائب والبدع والخرافات التي طرأت عليه وعلى عقيدته .الفكرة الأساسية لهذا التيار أن تخلفنا هو النتيجة النهائية لتركنا لهذه الفرائض، واستحقاقا للغضب الالهي جراء ذلك. لذلك فأن قلب المعادلة، سيقلب بالضرورة الواقع المتخلف، وسيكون التقدم هو الاستحقاق الذي سيجازينا الله فيه على عودتنا لدينه..
مشروع “الإصلاح الديني ” أيضا له يمين ويسار، مرة اخرى أن جاز الوصف، ففيه تيار يرفض بشكل قاطع ونهائي كل ما لم يكن موجودا في البيئة الأصلية للنصوص ويعتبرها بدعة ومحدثة وفي النار، وهناك تيارات اخرى، أقل جمودا وأكثر حيوية قصرت معنى البدعة المرفوضة على صلب الدين والشعائر الدينية، لكنها ظلت ترى أن أساس ” العلة ” هو دخول هذه المحدثات ( سواء كانت تتعلق بمظاهر العبادات وأساليبها مثل استعمال ” المسبحة ” في التسبيح بدلا من الأصابع – او كانت عقائد دخيلة مستوردة سواء كانت ذات أصول وثنية او طبيعة صوفية او ذات مصطلحات فلسفية ) [2]
..من الجزيرة العربية الى المغرب العربي، أنتشرت تدرجات مختلفة لهذه الدعوة، متأثرة ببيئتها المحيطة بها، الى الدين بعد تنقيته من الشوائب، وكان ذلك يعني، أن العلة الأساسية هي أن المسلمين تركوا دينهم او أنهم ادخلوا فيه ما ليس منه، ولهذا فالدواء الذي وصفه التيار كان العودة للدين – بمعنى العودة للفروض والعبادات والصدق فيها ونبذ كل ما دخل عليها -..وكان الخروج من التخلف،حسب هذه الرؤية، سيكون محض تحصيلا حاصلا، لرضا الرب عز وجل الذي غضب علينا لأننا تركنا دينه، فأدخلنا في أنحطاطنا، ولهذا هو سيخرجنا من مأزقنا التاريخي، ما دمنا سنترك البدع ونعود للدين الحق .
*****************
لو تأملنا كل التيارات الرئيسة التي سيطرت على الثقافة الشعبية الواسعة الانتشار لرأينا هذين المشروعين يتسيدان الساحة ويتصدرانها ولا يكادن يتركان مجالا لأي فكرة أخرى تخرج عن نطاقي رؤيتيهما أو تبحث في تركيب علاجي آخر خارج صيدليتيهما .
أنه إما ” الاسلام السياسي ” –بتدرجات مختلفة بين البرلمان والحياة النيابية الى الحراك المسلح / الإرهاب– أو ” الإسلام الوعظي ” – إسلام التذكير بالسلف الصالح وترقيق مشاعر الناس وقلوبهم لغرض العودة الى التقوى المفقودة .
لو تأملنا كل ما كان لما وجدنا غير هذين المشروعين، يتداخلان أحيأنا،ويتفارقان أحيانا، بل ويصطدمان في بعض الاحيأن . لكنهما وحيدان في ساحة فارغة، إلا من منطقيهما ورؤيتيهما ..
فهم هذه الحقيقة ضروري جدا لمعرفة لماذا أخفي ذكر مالك بن نبي من الساحة لعقود كما لو أنه لم يكن، أنني هنا لا أروج لوجود مؤامرة خفية ، لكنني أقول أن سيادة فكر ” الإسلام السياسي ” او “الإسلام الوعظي “- ما كان ممكن أن تجعل من لغة مالك مقروءة او مقبولة – كان هذان المشروعان يفرضان أبجدية معينة لا تترك مجالا للغة اخرى وأفكارا أخرى… لا تجد مكانا في النطاق الضيق للمشروعين الذي تم مطه ومده ليحتل الساحة كلها …
********************
إسلام آخر : بدلا من الإسلام السياسي و الوعظي: إسلام حضاري
مقابل “الإسلام السياسي ” و”الإسلام الوعظي “، طرح مالك بن نبي فكرة “الإسلام الحضاري ” – وكان الامر غريبا جدا على طروحات “الإسلام هو الحل “- “تطبيق الحدود ” و”اقم الإسلام في بيتك يقم لك في أرضك“..و هي شعارات متداولة اختزلت الامر أحيانا الى محض هيئات دون الالتفات الى سياقها الايجابي البنّاء في التميز الحضاري.
كانت العين السائدة التي تبصر وترى تعاني من قصر شديد في النظر لذلك فبالكاد كانت تستطيع فهم “الإسلام السياسي “-او “السلام الوعظي ” – أما الحديث عن الإسلام كحضارة وكمعادلة، ومخطط بياني للصعود والهبوط ، فقد كان شديد الصعوبة على الالتقاط من قبل تلك المستقبلات التي تقولبت على مصطلحات “الإسلام السياسي “و”الإسلام الوعظي “والنتائج المباشرة –قصيرة المدى، الموعودة من قبل التيارين ..
كان مالك يدعو الى شيء مختلف تماما: وكان كلامه يبدو عن واقع بعيد المنال ، يتطلب عقودا طويلة الى أن يتحقق، بينما كان قادة التيارين الاخرين يتحدثون عن مكاسب سهلة تتحقق أنيا و على المدى القصير جدا ، كان مالك يتحدث عن حضارة ، و لم يكن الاخرون يتحدثون إلا، عن “حكومة” او في احسن الاحوال :” دولة”
مالك بن نبي : اصلاح ام ثورة؟
بهذا المنطق لا أرى في مالك بن نبي مفكرا إصلاحيا على الإطلاق . “الإصلاح” ومفكروه ودعاته ممكن أن يجدوا لهم مكانا في واحد من التيارين الرئيسيين – اسماء مهمة وجليلة القدر مثل الكواكبي وابن باديس والشعراوي – في قائمة الإصلاحيين سواء كانوا مصلحين سياسيين أو وعظيين .
لكن مالك بن نبي لن يكون مع هؤلاء. دون أن يقلل ذلك البتة من مكانة هؤلاء و جهودهم و أهمية ادوارهم.
الإصلاح، بالتعريف، ينطوي على إقرار ضمني، أن البناء الموجود – او الهيكل الثقافي الموجود، يمكن أن يبقى لأنه يمتلك مقومات البقاء والصمود. ما يريده الاصلاحيون، كما هو واضح، إصلاح البناء او ترميمه ،عبر تصليح هذا الجزء هنا او اضافة جزء آخر هناك .
مالك بن نبي ليس “منهم” ...إنه يتجه بأفكاره لا نحو الإصلاح، بل نحو بناء آخر تماما . وهو ينطلق من الأساسات . إنه لا يتحدث قطعا عن “إصلاح ” مجتمع ،بل عن ” ميلاد مجتمع” ،-كما يقول في واحدة من عناوين مؤلفاته –إنه يتحدث عن نهضة من سبات عميق ،عن حضارة أخرى، بقيم مختلفة، وبرؤية مختلفة، عن السائد في مجتمع الأنحطاط ..
مالك بن نبي مفكر ثوري تماما بهذا المعنى، وليس بمعنى الانقلابات العسكرية والحركات السياسية، ومشروعه ” ثوري ” بكل ما في الكلمة من معاني عميقة : ثورة ترتبط بالفكر الذي يرفض القديم المتهالك ويهدمه ليبني من جديد على أسس مختلفة وقواعد مغايرة ..
أنه مالك بن نبي الثائر هو الذي أراه ،لا المصلح ،او الإصلاحي، مالك صاحب الثورة –العاصفة ..ولا يمكن أن افهم ذلك التقسيم الذي يصنفه كإصلاحي ..وهو الثائر على كل ما هو سلبي من الافكار السائدة …بالذات على جذر تلك الافكار…
وعندما أتحدث عن ثورة مالك، فأني اقصد الثورة الفكرية الحقيقية ،لا ما تعودنا أن نفهمه من مصطلح الثورة عبر تاريخ انقلاباتنا العسكرية البائسة الدموية، التي جرت عادة المزيد من البؤس ومن الدم، وأنما اقصد الثورة بمعناها الاصطلاحي العلمي –الواسع- الثورة التي تنمو كحاجة اجتماعية عميقة، حتى لو لم يشعر بها المجتمع، وهي تكبر داخل رحمه كنتاج للضيق والتأزم والتناقضات الداخلية التي تضطرم فيه ..
الثورة هنا، هي ثورة شاملة ، خاصة بمعناها الاجتماعي والثقافي[3]: أنها تبدأ من فكرة، تبدو للوهلة الأولى ، مناقضة لكل مسلمات المجتمع وبديهياته .لكن هذه الفكرة الجديدة، تكون أنعكاسا حقيقيا لتناقضات المجتمع، وتعبيرا عن إفلاس المؤسسات التقليدية وفشلها في القدرة على تقديم الحلول ،..بالتدريج، تبدأ الفكرة الجديدة – التي بدت هجينة ومرفوضة أول الامر – بالانتشار وتتصارع مع المنظومة الفكرية القديمة الى أن تنتصر عليها، وتقلب الواقع الاجتماعي كله كتحصيل حاصل .
هذا ما اقصده بالثورة التي يمثلها مالك بن نبي. ثورة فكرية حقيقية تنطلق أساسا من استشعار جدب وبؤس وعقم الحلول السائدة .
باردايم الإسلام الحضاري
ولأن الثورة الفكرية، هي في جوهرها ثورة علمية، فأني أحب أن استعمل هنا مصطلحا يخص ( بنية الثورات العلمية ) وأخصصه لو صف تجربة مالك بن نبي _غير المنتهية لحد الان .
هذا المصطلح هو “الباردايم “[4] – والذي يعني بالعربية نموذج أو مثال ويستخدم تعبير “النسق”او “النمط المعرفي” احيأنا وأفضل تعريبه كما هو للحفاظ على المعنى المختلف المتضمن فيه – وقد استعمله توماس كون في كتابه الشهير “بنية الثورات العلمية “[5] -1962- للدلالة على نظريته المهمة في نشوء وتطور الثورات العلمية .
حسب كون، التطور العلمي لا ينتج عن عملية تراكم بطيئة كما هو سائد ومنتشر، ولكن يمر التطور العلمية ،بين الحين والآخر، بمراحل مفصلية وثورات تلغي القديم – وتغير اتجاه الرؤية العلمية تماما ، نحو جهة اخرى،دون أن تراكم شيئا على القديم ..
يحدث ذلك، حسب كون ، عندما تظهر بعض ” الإشكالات ” في النظرية العلمية السائدة والحائزة على القبول. وحسب كون أيضا، فأن هذه الإشكالات تكون موجودة دوما ، لكنها “تهمل ” عادة وبغض النظر عنها،مع الوقت، تتحول هذه ” الإشكالات “الى محط للانتقادات، وتكف النظرية السائدة عن الإجابة عن المزيد من التساؤلات وتبدو مهترئة وعاجزة، وبينما يطرح رأي جديد،أو نظرية جديدة برؤية مغايرة تماما ويحدث صراع قوي بين أنصار الجديد والقديم قد يستمر لعقود، ويحدث أنتصار للفكرة الجديدة، بالتدريج.
ولا يكون ذلك – بحسب فارادي – باقتناع أنصار القديم بحجج المؤيدين للجديد، كل ما يحدث أن هؤلاء يموتون، بينما ينشأ جيل جديد يكون أكثر تقبلا للافكار الجديدة، وهكذا يسود ” الباردايم ” الجديد أو ما يسميه كون “يتحول الباردايم “[6] كدلالة على تغيير الرؤية للكون، وليس مجرد نظرية جديدة مقبولة علميا ..
من الأمثلة التي طبق كون نظريته في ” تحول الباردايم “عليها، والتي لاقت قبولا كبيرا من يومها : تحول الرؤية للكون من رؤية بطليموس التي تحتل الارض فيها المركز إلى رؤية كوبرنيكوس حيث تدور الأرض فيها حول الشمس، توحيد علم الفيزياء على يد نيوتن الى رؤية ميكانيكية متماسكة، الانتقال من الرؤية الكهرومغناطيسيةلماكسويل الى نسبية اينشتاين، كذلك التحول من فيزياء نيوتن الى نسبية اينشتاين، تطور ميكانيكا الكم التي أعادت تعريف الميكانيك ، ظهور نظرية داروين عن الاصطفاء الطبيعي كبديل عن رؤية لامارك التي كانت ترتكز على وراثة الصفات المكتسبة .
ولم يقف مصطلح ” الباردايم ” عند النظريات العلمية، بل صار يصف ايضا التحولات الاجتماعية الكبرى التي مرت بها الإنسانية، مثل الانتقال الى عصر الثورة الصناعية، وتوقيع النخب البريطانية الحاكمة لوثيقة الماغناكارتا، وكذلك يشمل على التغير الذي يطرأ على إدارة المؤسسات مثل تطور نموذج الادارة العسكرية التقليدية الى النمط البروسي ..
ولا يقف استعمال المصطلح عند هذا الحد فهو يمتد ليصف التحولات الفكرية الكبيرة التي يمر بها الاشخاص في حياتهم الفردية، مثل الأنتقال من دين الى آخر ..
ضمن هذا الفهم والمصطلح، لا يمكن فهم فكر مالك بن نبي الا كباردايم جديد، مخالف ومغاير لكل ما هو سائد وتقليدي من حلول ورؤى .إنه ليس، ولا يمكن أن يكون، مجرد ( إضافة ) تراكمية للفكر الإسلامي، تصف الى جأنب الحلول الجاهزة التي أنتجتها بعض تيارات الفكر التقليدي السائدة. إنه ليس فكرة مختلفة عن دور الاسلام في الحضارة الإنسانية فحسب، بل هو منهج مختلف أوصل الى تلك الفكرة.
كل المنهج التقليدي اعتمد دوما على قراءة العالم عبر النصوص بينما منهج مالك اعتمد على قراءة النصوص عبر قراءة العالم.
وبين القراءتين بون شاسع وواسع. بينهما مسافة هي المسافة التي يجب أن يتحولها الباردايم·.
فكر مالك بن نبي ثورة، ثورة فكرية وحضارية، هي ثورة تتقمص دور الباردايم بالضبط كما تفعل كل الثورات العلمية في تحولاتها البنيوية وهذه الثورة لم تنتصر بعد، وباردايمها لم يتحول بعد ، لم ينجز التحول بعد ، لأننا نعيش في تلك العقود الفاصلة التي تشهد هذا الصراع بين القديم والجديد –بل أننا نعيش على عتبة ذلك الصراع ..
لقد ترك مالك بذرة ذلك الباردايم ومضى، كان هو يسميها دوما الخميرة – والخميرة هي خطوة أولى في درب أنتاج طويل، مخاض طويل من أجل رغيف حضاري مشبع، وقد مرت هذه الخميرة في بنيتها بسبات طويل سيطرت فيه الباردايمات التقليدية متسلحة بسطوة بعض المؤسسات التقليدية المتسلحة هي الأخرى بقداسة النصوص التي تدعي احتكارها واحتكار فهمها واستعمالها تفسيرا وتأويلا و بالتالي تطبيقا .
لكن هذا التأخر، في نضج خميرة الفكرة، لا يعني أنها لن تأتي أبدا، كل ما في الامر أن تفاعل الباردايم وتحوله قد تأخر لأسباب متعددة، لكن شرارة ما، في أي وقت الأن قد تدخل المعادلة وتحركها باتجاه آخر، بعكس وضعية السبات السكوني الذي نعيشه منذ قرون ..
وعندها ستكون هناك أجوبة اخرى، لذلك السؤال، سؤال النهضة :لماذا تأخرنا ؟؟.. وسيكون هناك، مشروع لنهضة حقيقية .
***************************
..وبديهي جدا أن يكون الجيل الذي ولد أو نشأ وكبر بعد وفاة مالك، هو الجيل الأكثر استشعارا لفشل الأجوبة السائدة، وفشل الباردايم التقليدي السائد بمختلف ألوانه وأطيافه، إنه الجيل الذي أنتهى بالانتحار العبثي أو الأنهيار المستسلم دون قيد او شرط ، ولهذا فهو يعلم –أكثر من أي جيل آخر –إنه يحتاج، الى رؤية اخرى، وأجوبة اخرى، لقد وصل لتلك المرحلة من “البؤس ” التي تهيئه للاستعداد للتغيير، وصل لتلك النقطة التي تجعله مستعدا، للإطاحة بأشياء كثيرة من اجل التمسك بحبل أنقاذ يخرجه مما فيه .
هذا الجيل وربما الشبان الاصغر قليلا من الجيل الطالع، ربما يكون هو الأكثر قدرة على تقبل منظومة مالك الفكرية ، لأنه الأكثر استشعارا لفشل كل المنظومات الأخرى التي أوصلتنا الى ما وصلنا إليه –او على الاقل شاركت في ذلك ..
وعندما يستمع جيلي الى مالك، فأن هذا لن يكون استماعا تلقينيا كالذي تعودناه عبر قرون الأنحطاط، لن يكون الامر تلقيا أصما و أبكما كما كان من قبل، ينطلق من المنابر، الى جمهور مستمع لا يحاور ولا يملك غير أن يسكت ولا يناقش، لأن أي كلمة ستضيع أجره كله .. لن يتنكب فكر مالك المنبر ليسيطر على عقولنا ويمنعنا من الحوار والنظر الى الجهة الأخرى – بل سيقترب منا، سيدخل إلينا من منطق حاجتنا إليه، من إفلاس الأجوبة التقليدية وفشلها ..
من حاجتنا إليه، سنستمع له، وهو يحدثنا فيقول ..
*******************
الحق دوما على الاستعمار !
لعل أول ما يقوله مالك لنا، وأكثره اختلافا ايضا عن السائد في باردايمات الأمر الواقع هو رؤيته المميزة لقابلية الاستعمار التي تدخل كطرف أساسي في معادلة الأنحطاط والتخلف ..
هذه القابلية، تشكل عاملا مفقودا في كل الخطابات التقليدية على اختلاف توجهاتها وشعاراتها : الكل يتحدث عن نظرية مؤامرة. الكل يتحدث عن ثلاثي (الفقر والمرض والأمية) وكيف أن الاستعمار ساهم في وجودها وانتشارها، الكل يتحدث عن التقسيم والتخلف باعتبار أن العدو الخارجي هو السبب في كل ما يدور .
هذه النظرة الى ( الخارج )- المعامل الخارجي – هي السائدة فيما لقنونا إياه عبر العقود، ومن الطبيعي جدا، أنك عندما تبحث عن الخارج كسبب لأمراضك ( الداخلية ) فأنك ستكف عن البحث عن أسباب ( داخلية )، تتعلق ببيتك مثلا أو بجهازك المناعي، أو بعيوب وراثية في داخلك ..
لكن مالك يرى الامر مختلفا، أنه لا يلغي وجود المؤامرة لأن هذا الإلغاء في حد ذاته – يحمل من السذاجة وقصر النظر بقدر ما تحمل نظرية المؤامرة نفسها –لكن “المعامل الاستعماري ” كما يسميه مالك ، هو جزء من معادلة طرفها الآخر هو استسلامنا نحن لذلك، قابليتنا نحن لذلك، قابليتنا الكامنة لأن نكون مستعمرين، خاضعين – سواء كان ذلك الخضوع لعدو خارجي يستثمر حالنا هذا، او لمستبد داخلي –فرعوني – يستغل قابليتنا المزمنة لأن نكون مستعبدين ..
هذه المعادلة طرفاها متوازنان، ووجود الواحد ضروري لوجود الآخر ، المستعمر موجود – وهو بالمرصاد – لكنه لا يمكن له أن يدخل لولا وجود مشكلة في جهازنا المناعي – مشكلة مزمنة اسمها قابليتنا للاستعمار ..
كانت فكرة مالك في جوهرها، مواجهة حادة مع ألذات .. مواجهة لها في عيوب انغمست هذه الذات في عملية إنكار مرضي لها . فـ ( نظرية المؤامرة )، في جوهرها الاعمق ، ليست مجرد نظرية أو وجهة نظر، أو تفسير بوليسي للتاريخ، بل هي في حقيقتها عرضا لحالة نفسية للهروب من النقد الذاتي واللوم الشخصي .
( نظرية المؤامرة ) نوع من الخدر الموضعي، نوع من ( المخرج السهل ) من الازمات ومروجوها يتقنون ذلك منذ قرون، والفكر الإسلامي، للأسف، أدمن هذا الخدر حتى صار ميزة من ميزاته . فبنظرية المؤامرة يمكن لنا غض النظر والبصر والعقل عن وجود التناقضات الاجتماعية الحادة التي حصلت في عصر الخلافة الراشدة، مع وجود بذور أنحراف قوية وواضحة، ونستطيع أن نحتفظ بالفترة ناصعة البياض عبر ( تضخيم ؟) شخصية مثل عبد الله بن سبأ، نستطيع أن نحملها نتائج كل ما حصل من شقاق وانشقاق – ونخرج بالمنظومة السياسية والاجتماعية- وبالتالي الفكرية -سالمة من تحمل عبء أي شئ (هذا على الجانب السني ، أما على الجانب الآخر من المسألة، فأن نظرية المؤامرة اشد وضوحا، وأكثر تجذرا، فكل ما جرى، كان نتيجة المؤامرة من الصحابة – كلهم تقريبا – والأمر لم يبدأ عند السقيفة و مؤتمرها فحسب، بل، هو حسب البعض، كان مبيتا من قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، بل ولدرجة التخطيط لاغتياله..)
وهكذا فنظرية المؤامرة تقول لنا دوما عن التاريخ أنه كان نتيجة لمؤامرة الأعداء فبغداد الدولة العباسية لم تسقط بسبب استشراء الفساد والترف والانحلال وتعاظم الظلم –وهي الأسباب الموضوعية المرافقة لأنهيار المجتمعات والتي اشار اليها الخطاب القرأني بوضوح تام – وأنما تخترع نظرية المؤامرة حلا يسيرا يريح ضميرها ووسواسها الخناس: فها هو عبء السقوط يسقط على كاهل الوزير ابن العلقمي، الذي خان بدوافع من انتمائه الطائفي – أي أن الامر كله هو أن الأعداء ينجحون بسبب أننا نغض النظر عن هؤلاء ( الخونة ) ونسمح لهم بتقلد المناصب، ولو كان الامر غير ذلك، لما سقطت الدولة العباسية – وكفى الله المؤمنين شر محاسبة أنفسهم والتفكر في أمور دواخلهم ..
نفس المنطق بحذافيره تقريبا، طبق على عزل السلطأن عبد الحميد وانهيار الدولة العثمانية. تم غالبا، وعلى الأكثر، تجاهل كل الأسباب الموضوعية التي أدت الى سقوط وتفكك الدولة، من ترهل إداري شديد، وفساد في الطبقة الحاكمة، وسيادة للفكر الخرافي، والابتعاد عن المعطيات المتسارعة للعلم الحديث ومنتجاته من ثورة صناعية اجتاحت أوروبا أنذاك –كل ذلك تم تجاهله تماما، وتم التركيز على جزئية صغيرة، جعلت من نظرية المؤامرة الأساس في كل ما جرى – ألا وهي حادثة ( رفض ) السلطان عبد الحميد للعرض اليهودي بشراء فلسطين – رغم المغريات التي يفترض أنه قدمت له – وهي النظرية، التي ستفترض لاحقا أن الدولة العثمأنية كانت ستظل باقية الى يومنا هذا لولا المؤامرة التي أطاحت بالسلطان.
ولو تأملنا الأمثلة الثلاثة (ابن سبأ، وابن العلقمي، ويهود الدونمة ) لرأيناها قد تجذرت بعمق في ضميرنا وفي ذاكرتنا وفي وعينا الجمعي لدرجة أن المساس بمسلماتها سيكون مساسا بما يعتبره الفكر التقليدي أساسا من أساساته، وسيتعرض من يشكك بهذه المسلمات لحملات تشكيك واتهام تطال عقيدته وإيمانه وتفرغ له نظرية مؤامرة جديدة تربطه بالصهيونية العالمية و بوكالة المخابرات المركزية الأمريكية و ما شابه ..
السلبي جدا في الرسالة التي يقدمها الفكر السائد عبر نظرية المؤامرة، أنه يقول للناس أننا بخير مهما ساءت الأمور ، كل ما في الامر أن الأعداء أشرار جدا وهم يتآمرون علينا باستمرار، وكل ما نحتاجه هنا هو أن نكون منتبهين أكثر لهؤلاء وسوف تكون الامر بعدها بخير ..
رسالة “نظرية المؤامرة ” هي أننا بخير، وأننا لا نحتاج الى مراجعة أنفسنا بتاتا، كل ما في الامر هو أن نغلق أبوابنا وأسوارنا جيدا تجاه هذا العدو ( الشرير )..
أصالة وعبقرية رؤية مالك تأتي في كونها عكس هذا التيار السائد منذ قرون، والذي يمكن اعتباره صفة أساسية من أساسيات فكرنا التقليدي ، ومالك لم ينزلق قط الى ما ينزلق إليه البعض حاليا من إلغاء وجود المؤامرة – لكنه وضعها كطرف في معادلة نحن طرفها الآخر – ولا يمكن للمعادلة أن تسير وتتوازن ما لم نكن مشاركين وأساسيين في “المؤامرة ” – عبر سلبيتنا وجهلنا وتخلفنا وبعدنا عن الاسباب الموضوعية، بل عبر إيماننا “بنظرية المؤامرة ” فأننا نكون مساهمين أساسيين في المؤامرة، ما دمنا نتلهى عن الأسباب الداخلية التي أوصلتنا لما وصلنا إليه ..
وعندما وضع مالك يده على ” قابلية الاستعمار ” فأنه وضع يده على قلب التفاعل[7] . على الجرح، على مكمن المشكلة الحقيقية : سواء كان المتآمر مستعمرا خارجيا، او فرعونا داخليا (او مزيج من مصالح الاثنين ) ..أنها سلبيتنا واستسلامنا لكل ما يدور تحت مختلف المسميات والأعذار ..
عكس تيار إراحة الضمير والعودة الى النوم : كانت فكرة مالك بمثابة صرخة موجهة الى الذات (الجمعية ) ( التاريخية ) لاستجوابها ، للتحقيق معها في مسؤوليتنا عما وصلنا إليه ..
وهو عكس التيار الآن .
ولهذا بالذات، فأن هذا الجيل يستطيع أن يستفيد جدا من تلك الصرخة..
ويمكن له وهو الأهم من السماع، أن يكمل عملية استجواب الذات .
* * *
…” وقابلية الاستعمار ” تقودنا الى رؤية مالك العبقرية لذلك النص القرأني : ” أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم “ –إنه بعد قرون طويلة من التنظير التقليدي المباشر وغير المباشر للسلب والجبر وعدم الفاعلية، يتقدم مالك برؤية تجعل من الذات الإنسانية مصدرا للفعل التاريخي المباشر، بعد أن كانت الرؤية التقليدية العقائدية تجعل من هذه الذات مجرد محل للأفعال الإلهية ..
لكن مع رؤية مالك بن نبي – المعاكسة لباردايم السلب والجبر السائد، تحولت النفس – من المشاهد السلبي الذي لا يملك من أمره شيئا الى (فاعل) ايجابي –يساهم في حركة التاريخ، بدلا من(مفعول فيه) سكوني يمر به التاريخ دون أن يملك لتغييره شيئا ..
من الذات، من النفس –يضع مالك يده على الخطوة الأولى في عملية التغيير –عملية النهوض، والتفاعل مع التاريخ، لغرض صنعه من جديد على أسس جديدة .
“غير نفسك تغير التاريخ ” – شرعة السماء كما يقول مالك [8]– لكن عملية التغيير هنا هي اكثر بكثير من مجرد مظاهر الالتزام، التغير الذي يبدأ من النفس ويؤثر في التاريخ، هو ذاك الذي يجعل الإنسان عضوا فاعلا في المعادلة التي هي أهم ما اكتشفه مالك بن نبي على الإطلاق .
معادلة الحضارة .
الثلاثة عندما تجمع ..
لأن مالك بن نبي ، كان يمتلك نهجا علميا في التفكير، يستكشف الموازنات الدقيقة التي يقوم عليها الكون، فأن رؤيته للحضارة لم تخرج عن تلك الرؤية (التوازنية ) التي هي أبعد ما يكون عن منطق (الوصايا والأوامر ) التي أترعت بها عقولنا منذ قرون .
قبل أن أتحدث عن معادلة الحضارة، أحب أن أشير الى الفرق الكبير – كجزء من باردايم الاختلاف – بين منطق الوصايا المتسلسلة والأوامر المتتابعة –التي نهجها الفكر السائد بكافة أطيافه، في الوصايا العشر، او العشرين، او الثلاثين او أي عدد آخر – وبين المعادلة المتوازنة التي اختفاء أي عنصر من عناصرها، سيلغيها تماما .
منطق الوصايا منطق رتيب وشبه سكوني: هناك اولويات عليك أن تخوضها . الوصية الأولى أولا . وبعدها الثانية .وهكذا ، تراتبية بغيضة تضيع فحوى الامر كله ..
مع “منطق المعادلة “، هناك فهم شمولي للأمر . لا تراتب هناك: إنما أنت طرف في معادلة يستلزم وجود كل أطرافها ليحدث التفاعل ويصل الى هدفه النهائي .
في معادلة الحضارة ، التي هي واحدة من اكتشافات مالك بن نبي ، يقف الإنسان كفاعل أساسي .كعنصر مستقل مؤثر ومتأثر ببقية العناصر ..
أبدع مالك في ربط كل عنصر بشبكة التفاعل التي تؤدي –اذا ما توازن كل عنصر فيها ، الى تكوين الناتج النهائي : الحضارة ..
وأبدع ايضا في شرح كل عنصر من العناصر الداخلة في تلك المعادلة :
الإنسان . التراب . الوقت ..
وكان ذلك كله عكس التيار السائد من الصراخ ( الديماغوجي والايديولوجي والوعظي ) الذي يعامل كل شئ بطريقة تعبوية كما لو كان يملأ استمارات التجنيد او يوزع صكوك الغفرأن ..
الإنسان ؟ به فأبدأ ..
الإنسان في معادلة الحضارة هو إنسان النهضة –إنسان ( الضد ) من إنسان (الانحطاط ) ، أنه إنسان الحركة ضد إنسان الركود الذي وصفه مالك بأنه ( إنسان القلة ) – يقنع من كل شئ بالقليل . أو هو إنسان النصف ، (إذ هو دائما في منتصف الطريق ، منتصف فكرة، منتصف تطور ) – ( وهو لا يعرف أن يصل الى هدف ، إذ هو ليس نقطة الانطلاق، في التاريخ كرجل الفطرة، ولا نقطة الأنتهاء كرجل الحضارة، بل هو نقطة التعليق في التطور وفي التاريخ وفي الحضارة ). هذا الإنسان – الذي هو ( جوهر الأنحطاط ) ونتيجته في أن واحد، هو الذي يهدف مالك – الى تغييره، لتبدأ الشرارة بتحريك التفاعل ..[9]
كيف ؟ .
يحدثنا مالك فيقول : بالتوجيه .
توجيه الثقافة والعمل ورأس المال .
سؤال سيسقط فيه ” البعض ” بامتياز
الحديث عن الثقافة في فكر مالك وباردايمه المختلف حديث مهم. ولعله من الصعب الغوص فيه في هذا المقام، لكن أكثر ما أحب الإشارة إليه هنا، هو أن ثيمة الثقافة التي احتلت قدرا كبيرا من اهتمام مالك – بل ومن عناوين كتبه – وكانت محورا مهما في رسالته ..أقول هذا المحور، الموجود بقوة في فكر مالك، يقابل بمساحة بياض فارغة في الفكر التقليدي الذي لن ولا يلتفت لهذا المصطلح كثيرا، بل أنه لن يهتم بتعريف المصطلح أو يكترث له –ولو أننا اختبرنا بعض وجوه ونجوم الفكر السائد بسؤال عن تعريف الثقافة، دون أن نعطيهم فرصة لمراجعة المصادر، لكان جوابهم على الأغلب يقع بين الشهادة الجامعية والحصول عليها، وبين المعلومات العامة التي تؤهل للفوز بجوائز المسابقات !
..مع مالك الثقافة ليست إكسسوارا زائدا، ولا هي محض تحصيل حاصل – أنها أساس من أساسيات توجيه الإنسان في معادلته للدخول في مضمار الحضارة .
بعيدا عن كل التعريفات السائدة، حتى في منظورها الغربي البرجوازي الذي يركز على الفرد – او الغربي الاشتراكي الماركسي الذي يركز على المجتمع، يقدم مالك تعريفا للثقافة يربط فيه بين الفرد والمجتمع – باعتبار أن الثقافة هي ( نظرية في السلوك ) أكثر منها نظرية في المعرفة:
( مجموعة من الصفات الأخلاقية والقيم الاجتماعية التي يتلقاها الفرد منذ ولادته، كرأس مال أولي في الوسط الذي ولد فيه، والثقافة على هذا هي المحيط الذي يشكل فيه الفرد طباعه وشخصيته )[10]
أنه ما أسميته سابقا [11]: القيم السلوكية، القيم المحركة التي تدخل في لا وعي الناس المنتمين لمجتمع معين وحضارة معينة بغض النظر عن ما حازوه من شهادات علمية .
يضرب مالك مثاله المميز مرارا وتكرارا عن مفهومه للثقافة[12] : فالطبيب الإنجليزي والراعي الإنجليزي تربط بينهما مجموعة من الروابط في السلوك إزاء مشكلات الحياة بتماثل معين في الرأي يتجلى فيه ما يسمى (الثقافة الإنجليزية )، أكثر من الترابط الموجود بين الطبيب الأنجليزي، وطبيب ينتمي لدولة اخرى رغم تطابق الشهادة العلمية والمهنة والوظيفة .
وهو مرة اخرى، يوضح بسعة اكبر لوظيفة الثقافة، فيمثل بوظيفة الدم، (الذي يتركب منه الكريات الحمراء والبيضاء، وكلاهما يسبح في سائل واحد هو البلازما ليغذي الجسد، فالثقافة هي ذلك السائل في جسم المجتمع، يغذي حضارته، ويحمل أفكار ( النخبة ) كما يحمل أفكار (العامة )، و كل من هذه الافكار منسجم في سائل واحد من الاتجاهات الموحدة والأذواق المتناسبة )[13].
هذا هو المعنى العميق للثقافة عند مالك، أنها البلازما الذي يسيل في الإنسان الذي هو العنصر الأول في معادلة الحضارة . فكيف يمكن توجيه الثقافة ( بمعناها هذا ) نحو تغيير الإنسان ؟. يحدثنا مالك فيقول 🙁يجب بادئ الامر تصفية عاداتنا وتقاليدنا اطارنا الأخلاقيوالاجتماعي مما فيه من عوامل قتالة ورمملا فائدة منها، حتى يصفو الجو للعوامل الحية والداعية الى الحياة .
..وأن هذه التصفية لا تتأتي الا بفكر جديد، يحطم ذلك الوضع الموروث عن فترة تدهور مجتمع أصبح يبحث عن وضع جديد، هو وضع النهضة .
ونخلص من ذلك الى ضرورة تحديد الأوضاع بطريقتين :
الأولى : سلبية تفصلنا عن رواسب الماضي[14] .
الثأنية : ايجابية تصلنا بروافد المستقبل.)[15]
و بين الاولى و الثانية– تخلية الماضي لتحلية المستقبل – تقع قصة الباردايم وتحوله الذي نرى أن فكر مالك هو جزء منه، ونرى أنه لم ينجز بعد ..(وإن جزءا من أنجازه يقع علينا نحن ، نحن: الجيل الذي استشعر فشل الأجوبة السابقة) .
ويعطي مالك مثالا لتخلية وتحلية الحضارة الغربية عند أنطلاق نهضتها .. فتوماس الاكويني ، حسب مالك، هو الذي قام بالتنقية لتكوين الأساس الفكري للحضارة الغربية، عبر ثورته ضد ابن رشد وضد القديس أوغسطين – الثورة التي هي في حقيقتها مظهر للتجديد السلبي لتصفية الثقافة مما كان يراه فكرة إسلامية ( دخيلة ) أو ميراثا ميتافيزيقيا للكنيسة البيزنطية .
أما التجديد الايجابي، حسب مالك ايضا، فقد جاء به ديكارت الذي (رسم للثقافة الغربية طريقها الموضوعي، الذي يبنى على المنهج التجريبي، ذلك الطريق الذي هو في الواقع السبب المباشر لتقدم المدنية الحديثة )[16] .. أي أن الأمر هنا، حسب مالك، هو نفي للسلبي، وحرق له، والغاء له من كل موروث ثقافي ..مقابل تقديم الإيجابي، واثبات لقيم اخرى، تحل محل السلبي ..
مالك على قمة جبل ، والآخرون؟
لست هنا بصدد استعراض كل ما ذكره مالك بن نبي في تفصيلات المعادلة التي اكتشفها وصاغها، لكن أحب أن أوضح حجم الهوة الفاصلة بينه وبين الفكر السائد ..
فمالك بن نبي يحدد أربع عناصر للمركب الثقافي
أولا :- الأخلاق لتكوين الصلات الاجتماعية
ثانيا عنصر الجمال لتكوين الذوق العام .
ثالثا – منطق عملي لتحديد أشكال النشاط العام – العقل التطبيقي : الإرادة والفاعلية .
رابعا : الفن التطبيقي، او حسب التعبير الخلدوني : الصناعة .[17]
كل عنصر من هذه العناصر يقف بالضد وبالتمايز من المفاهيم التي تروج منذ قرون، فالأخلاق هنا شبكة علاقات اجتماعية تغير النسيج الثقافي، مقابل صورة سائدة للترغيب والترهيب تزرع بها الأخلاق دون جدوى دون محاولة لفهم ذلك او لزرعه ضمن موضعه الثقافي – الاجتماعي، ومقابل عنصر الجمال، (والذوق العام )، هناك الحرص على القبح والرداءة وعدم التناسق بحجة ادعاء زهد مزيف في الدنيا أو اعتبار البهرجة الزائفة معيارا للجمال، ومقابل العقل التطبيقي – الفعال – هناك عقلية ( لا تفكر لها مدبر ) وعقلية انتظار سفن التواكل لكل ما تأتي به رياح القضاء والقدر والقسمة والنصيب ..
ومقابل عنصر الفن التطبيقي (الصناعة ) هناك مقولة تنسبها المؤسسة التقليدية للسنة النبوية وتروج لها وهي ( تسعة أعشار الرزق في التجارة ) بل هناك دعوة من بعض ( المفكرين !) لأصحاب الوظائف بترك مهنهم (..المهندس والطبيب والمعلم مثلا ) والانخراط بالتجارة والبيع والشراء ومن البديهي أن التجارة المقصودة هي تجارة ( الترانزيت )، أي تجارة تنقل بضائع مصنوعة في مكان آخر، وتجلبها ليستهلكها إنسان القلة وإنسان الأنحطاط وإنسان الجمود : إنسان الاستهلاك الذي هو عالة على الإنسانية ومنجزاتها .[18]
كل ذلك حدثنا به مالك وقاله، لكن كل ذلك ضاع وسط الأصوات الأخرى المشوشة، أصوات الفكر السائد بجناحيه السياسي والوعظي، وكل ذلك يجب أن يقف الأن، ليتعرف جيلي من جديد على ما حدثنا به مالك ، ..وهو كثير.
العمل و رأس المال ..
بنفس الطريقة المختلفة، تحدث مالك عن جوانب التوجيه الأخرى التي تغير ( الإنسان )، كجزء من المعادلة التي تؤدي الى الحضارة .. فبعد توجيه الثقافة، بتعريفها الذي حدده مالك، يأتي توجيه العمل، وتوجيه رأس المال، كضلعين مكملين وناتجين لفكرة الثقافة، ففكرة العمل عند مالك بن نبي تأخذ طابعا منهجيا يختلف تماما عن الرؤية التقليدية للعمل التي تتعلق ( بالكسب ) -لا أكثر و لا أقل – فغاية ما يقدمه الفكر السائد هو أن العمل عبادة بمعنى أن عليك أن تعيل نفسك وتكسب قوتك بنفسك – أما مع فكر مالك، فالعمل هو (الإمساك بعصا التاريخ )، ومسألة ( الأجر/ الثمن ) مسألة ثانوية أمام موضوع ( الجهد الاجتماعي ) الذي يجمع كل أنواع العمل باختلاف المسميات، نحو عملية تغيير اجتماعية- حضارية حقيقية .
وبنفس المفهوم العميق ، يتحدث مالك عن ( رأس المال) –ليس بالطريقة الوعظية – النفعية التي أنغمس فيها الفكر السائد الذي لا يطالب الأغنياء الا بشيئين : الزكاة، والامتناع عن الربا ( ..مع تساهل في بعض أنواعه عند البعض عند الحاجة باستخدام الحيل الشرعية ).
أي أن (رأس المال ) في الفكر التقليدي ليس ( رأسمال ) بالمعنى العلمي للكلمة، أنه مجرد ( ثروة ) –أما مالك فيتحدث عن رأس المال الاجتماعي، وهو المعنى الذي لا يتحقق الا عندما تكف ( الثروة ) عن كونها مجرد ثروة فردية يدفع أصحابها عنها الزكاة وينتهي أمرها، الى أن تصير رأس مال يتحرك وينشط على مستوى الفاعلية الاجتماعية .
بالنسبة لمالك ، أي مال يكون كاسدا -حتى لو تضاعف- ما دام لا يساهم في تحريك المجتمع والدفع به الى الأمام ويكون رأس مالا حقيقيا حتى لو لم يحقق أرباح مباشرة، ما دام يساهم في رقي المجتمع والدفع به الى الحضارة ..
بعيدا عن منطق الوعظ ومفهوم الفواتير ونسبة العشر ونصف العشر يذهب مالك الى عمق الامر : قبل الزكاة، قبل النسب الحسابية هناك وظيفة اجتماعية للمال عليه أن يؤديها.وظيفة تدفع بالإنسان الى أن يكون عنصرا فاعلا في معادلة الحضارة .[19]
هذه المكونات الأساسية هي التي يجب توجيهها بشكل معين ليستفيد الإنسان :
الثقافة . العمل . رأس المال .
ليصير الإنسان مؤهلا للمشاركة في معادلة الحضارة.
من التراب الى الضوء
العنصر الثاني في معادلة الحضارة هو التراب .
والتراب مصطلح يستخدمه مالك بذكاء شديد .هو لم يقل مثلا ( أرض ) او أي تعبير قريب، لكن كلمة ( تراب ) هنا ووضعها في المعادلة بالقرب من العنصر الأول الإنسان، يذكر بالعلاقة الأساسية بين الإنسان – وبين التراب – باعتبار أن الإنسان أصله تراب ..
..التراب هنا هو إمكانية أن يتحول الى أي شئ آخر : إنه الثروة الكامنة، المعجزة الكامنة. التراب هو المرحلة الأولية التي يمكن أن تؤدي إلى البوار أو إلى الخصب. إلى التصحر أو إلى الحقول الوفيرة .
و ( الإنسان ) هو الذي يقرر – بفاعليته، أو بسلبيته – اتجاه التحول ..
يضرب مالك مثالا للاستدلال على أهمية عنصر التراب وعلاقته التبادلية مع “الإنسان ” .. وهو مثال متكرر ومتجدد إلى الآن– ما دمنا لا نزال نعيش في عصر الانحطاط إن لم تكن دلالاته صارت أقوى واشد – أنه مثال التصحر الذي يقول أنه كان جنوب مدينة تبسة في طفولته، ثم اذا به يصير شمالها خلال عقود [20]. والتفسير المباشر لهذا قد يكون متعلقا بعوامل البيئة وتغيرات الجو. لكن – من ناحية اخرى – هناك معامل يتعلق بالإنسان وموقفه من هذه التغيرات البيئية ( فتقدم الصحراء ) دليل قاطع على ( تأخر الإنسان ) وتخلفه –دليل على أن إنسان ( القلة ) و( المنتصف ) غير قادر على مواجهة التحدي، وكل ما يفعله أمام تقدم الصحراء هو أن ينقل مواشيه وحيواناته وأسماله الى مكان آخر، بأنتظار أن تصله الصحراء ..كل رد فعله هو أن ينتقل من مكان الى آخر …
يقارن مالك رد الفعل هذا، الذي يتهدد كما يقول 80% من العالم الإسلامي من الباكستأن الى الأناضول الى الحجاز الى شمال إفريقيا، يقارن هذا بأزمة مماثلة مرت بفرنسا في منتصف القرن التاسع عشر (حيث كانت رمال الشاطئ الأطلنطي والمستنقعات الضارة تهدد مصالح أهلها وصحتهم ، ..ولكن سكان تلك المنطقة انطلقوا بهمة وصبر يوقفون الرمال عند حدها ، وتكبدوا في سبيل ذلك ما تكبدوا، وقضوا عشرين سنة يسدون الطريق على الرمال من مدينة ( بوردو ) الى مدينة (بياريتز ) ..فأنتصروا على الرمال التي أرادوا صدها، وكانت نتيجة أنتصارهم أبعد مما كانوا يتوقعون ، فقد كانت تلك المنطقة أفقر المناطق وأكثرها وأخطرها على الصحة في فرنسا، فأصبحت بما تمتعت به الأشجار الكثيرة، ذات حركة اقتصادية ممتازة، إذ اصبحت أول منتج في العلم لزيت (التربنتين ) المستخرج من تلك الأشجار، واصبحت ملجأ صحيا للمرضى من جميع أنحاء العالم ..)[21]
ثم ذكر أمثلة اخرى مماثلة عن روسيا .. وهولندا التي ( ثلث أرضها مصنوعة بأيدي أهلها )
لكن مالكا لم يقصد الارض بهذا المعنى المباشر فحسب ، لقد كان يقصد كل ما هو قابل للاستثمار، في هذا الكون ما هو قابل للاستخلاف في هذا التراب الذي منه خرجنا واليه نعود – وبين الخروج والعودة هناك اختبار الاستخلاف .
الامر لا يتعلق بالثروات الخام التي يمكن استخراجها من باطن الارض – بل يتعلق بالدرجة الأولى بقدرة البيئة على تحفيزنا، بمقدار التحدي الذي ينشأ في أعماقنا ومقدار الاستجابة الذي يظهر علينا ..
التراب بالتأكيد ليس الثروات الخام التي وقعنا عقود استخراجها وجاءت الشركات العالمية بعمالها ومهندسيها وخبرائها، وجلسنا نقرض الأرباح و نعيد تدويرها في بورصات الاستثمار التي نعرف (او لعلنا لا نعرف !) لمن تعود في النهاية بأرباحها ..
التراب ليس ذلك أبدا. بل هو التحدي الايجابي . ليس ( مفتاح ) المصنع الذي نشتريه دون أن نمتلك خبرة تصميمه وتراكم خبرة تشغيله وأخلاقيات التعاون والانسجام التي هي من ضرورات العمل فيه .
التراب ليس مجرد ارض بكر مليئة بالثروات وتعال واحفر واستخرجها.على العكس .إنه قد يكون مجرد جزر صغيرة وصخرية ومتناثرة وخالية من الموارد الطبيعية في داخلها – ولكن وضعها الصحيح في معادلة الحضارة مع ( الإنسان – الفاعل ) جعلها عنصرا شديد الأهمية ….(حدث ذلك مع اليابان كمثال مهم و واضح).
بالتضاد من ذلك، فأن أرضنا المليئة بالثروات الطبيعية، وضعت في معادلة أنحطاطنا، وتفاعلت مع (إنسان – القلة ) و (إنسان السلب والقضاء والقدر ) – فكان الناتج مجتمع الاستهلاك الذي لا ينتج غير الخدر والتثاؤب والسرف السخيف والتبذير السفيه ..
..مع التراب، الامر قابل لكل الاحتمالات ، ويعتمد على الإنسان داخل تلك المعادلة . قد يكون الناتج المستخرج من التراب شاسعا بقدر سد مائي ضخم يروي الصحراء ويقهر البيئة، أو تكوين أمطار صناعية تغير الظروف المناخية وتجلب الخصب والغذاء لجياع العالم وقد تكون طاقة بديلة لهذا العالم الذي يرتجف نصفه بردا وجوعا في الشتاء القارص ..
.. وقد تكون شريحة ( كومبيوتر ) لا تكاد ترى بالعين المجردة، ولكنها تحوي كل معارف البشرية وتراثها الضخم ..
كل هذا تراب، ولكن أي تراب، في معادلة الحضارة ..
– ولعل علي أن اذكر هنا، أن التراب، بهذا المعنى العملاق الواسع الذي يعني تحفيزا لقدرات الإنسان وفاعليته، لا يمكن أن يكون محض مشروع صغير – يستثمر طاقات الشباب ويفرغها في إطار ضيق ..إنه مشروع حضارة ضخم يستند على ( باردايم مختلف )، على ثورة فكرية غيرت لب هذا الإنسان المشارك – بالسلب والإيجاب، بالنسف والبناء، بالتحلية والتخلية، وليس مجرد مجموعة شباب قررت كسب الاجر والتعاون على البر والتقوى وتمضية وقت مفيد .
بعبارة اخرى، عنصر ” التراب “، قد يذكر، ضمنا بالزراعة . لكن الامر أكبر بكثير من مجرد الزراعة.
مع كل الاحترام لكل الجهود.
* * *
أن لم تقطعه قطعك..
ومع العنصر الثالث – الوقت – يتحد العنصران الأوليان في محك التفاعل – وينصهران في بوتقة الحيوية .
كما في أي معادلة، وفي أي تفاعل، لن تتفاعل العناصر حقا الا عندما يدخل (عامل الوقت ) على التفاعل . الفرق بين وجود هذا العامل في أي معادلة او عدم وجوده هو الفرق بين التنظير والواقع .
الفرق بين كلمات جامدة على الأوراق، وبين التفاعل الحقيقي الذي سيؤدي الى ناتج (ملموس ).
يصدق هذا على أي تفاعل بالإطلاق. أي عنصرين كيماويين لكي يدخلا في خضم تفاعل، يحتاجان الى عامل الوقت ( ولو كان الامر أجزاء من الثانية ) – لكن عامل الوقت هو الذي يحدد إن كان هذا التفاعل قد صار تفاعلا حقا أو أنه لم يبدأ .
الأمر مع المعادلة الحضارية اكبر وأهم – لن يكون هناك أي تفاعل بين الإنسان والتراب ولن يؤدي شئ الى الحضارة اذا لم يدخل الوقت كعنصر أساسي في التفاعل – والوقت ( الحضاري ) هنا هو ليس أجزاء الثواني والدقائق والساعات التي ستمر في كل الأحوال (أي الزمن بالمعنى الفيزيائي )، كما أن الامر لا يتعلق بالمفهوم الفلسفي بمختلف تدرجاته ( من المفهوم الذي يعتبر الزمان حاوية الحوادث، الى الذي يعتبره مجرد وهم او تصور ) .. ولا حتى الزمن بالمفهوم النفسي (الذي يجعلك تشعر أن الوقت يمضي بسرعة ( أو يطير ) عندما تستمتع به، ويكون بطيئا جدا في أحوال اخرى) .
الوقت، بالمفهوم الذي تحدث عنه مالك في معادلة الحضارة، هو الذي تتوهج أهميته فجأة، هو الذي يصير رصيدك ورأس مالك الأساسي، أنه حبة الرمل التي تهبط من الخانة العالية الى السفلى في الساعة الرملية، وأثناء هبوطها يمكن لها أن تكون منجما تستخرج منه أنفس المعادن فإذا وصلت للخانة السفلى ولم تستخرج منها شيئا، أنتهت كحبة رمل عادية ..
الوقت هو، كما يقول مالك، في واحدة من اشراقاته العبقرية “نهر قديم يعبر العالم منذ الأزل ..”[22]
” فهو يمر خلال المدن يغذي نشاطها بطاقته الأبدية ، أو يذلل نومها بأنشودة الساعات التي تذهب هباء، وهو يتدفق على السواء في أرض كل شعب ومجال كل فرد، بفيض من الساعات اليومية التي لا تغيض، ولكنه في مجال ما يصير ( ثروة )، وفي مجال آخر يتحول عدما “[23]
.. إنه نفس النهر يمر على الجميع، كل نقطة ماء فيه تذهب الى غير رجعة، وكل نقطة ماء فيه تشبه الأخرى، ومع ذلك فهي مختلفة عنها تماما ..
أمام ذلك النهر الذي يمر منذ الأزل يتعامل الناس بأسلوب مختلف، ، تبعا لموقعهم من الحضارة والانحطاط فالبعض يتأملونه ويتثاءبون، والبعض يجعلونه مكبا لنفاياتهم، وآخرون يجعلون منه وسيلة لنقل الأمراض..وآخرون يبذلون الجهد في تحويله إلى ( ساقية ) أو محض ( جدول ) صغير، وآخرون يستثمرون فيه عبر بناء الكازينوهات والمطاعم على ضفافه ( من أجل الماء والخضرة والوجه الحسن ).
لكن آخرين، سيجعلون من كل قطرة فيه منجما . سيكون هذا النهر مصدرا لتوليد الطاقة، وسيعاد تدوير كل قطرة منه، والاستفادة من كل ذرة منها، حتى تكاد دورة الماء في الطبيعة لا تنتهي أبدا.ويحولون – عبر استثماره – الأرض اليباب، الأرض – البوار، الى أرض الحضارة، أرض الحياة ..
حالنا مع الوقت، كحالنا مع النهر، بعضنا لا ينشد غير الهباء فيه، الكثيرون لم يخرجوا بعد من زمن الرعي ، وليس هناك أكثر من الوقت لتضييعه، ليس هناك ما هو أرخص منه لهدره ..
هنا لا أتحدث عن ” احترام الوقت ” كسلوك حضاري فحسب، رغم أهميته، لكني أتحدث عن الهوس بذلك – الأمر أكبر من أن تأتي على موعدك ” بالثانية”. الامر هو ماذا تفعل بموعدك هذا وما تفعل بوقتك كله. أتحدث عن استشعار ذلك كما لو كنت تلهث، كما لو كانت هذه الثواني التي تنسل من بين أصابعك ، هي كل رصيدك – بل هي كذلك فعلا -، يكون الامر كما لو أنك في سباق مع الزمن، وكل ما تملكه هو ثوان لتنقذ ابنك الوحيد مما يسمونه ( موت محقق ) – يكون الامر عندما تشعر دوما أن ” الباقي من الزمن ساعة “، وأنك دخلت دوما في الوقت الضائع، وأن عليك أن تنجز وتنجز وتنجز، بينما رصيدك يتسلل من بين أصابعك ..
لا أحتاج هنا للدخول في مجال التنظير والتأصيل القرأنيين لعقيدة ” الوقت ” – فذلك كان موجودا طوال الوقت، لكن المؤسسة الدينية التقليدية أهملته، فالإبقاء على زمن الرعي أفضل وإقحام “المسح على الجوربين ” في هوامش العقيدة أمر تفضله المؤسسة بالتأكيد.
كان الامر موجودا دوما، في ثنايا الخطاب القرآني، لكن الكل التفتوا لكل شئ عداه ..
الى أن جاء مالك، وصاح، كما ارخميدس، ” وجدتها ! .
متى نجده نحن؟
.. واليوم، صار على الجيل الجديد أن يطلق نفس الصرخة الارخميدسية، ليس على الوقت، ولا على معادلة الحضارة، ولكن على مالك، على ذلك ” الباردايم المختلف ” – على مفهوم ” الاسلام الحضاري ” — المختلف عن كل ما سبق : الاسلام السياسي أو الوعظي او التقليدي .. او أي مسمى آخر ..
صار على جيلي أن يلتقي بفكر مالك، لا لقاء الصدفة العابرة عند بائع الكتب المستعملة، ولا لقاء الثقافة والإطلاع وزيادة المعلومات العامة، بل لقاء الحتمية، لقاء الخروج من النفق المظلم الذي دلفنا إليه منذ قرون ..
وسيكون من المضحك التصور أن لدى مالك خطة جاهزة للتطبيق ، او حتى مشروع كامل.
صار على جيلي أن يكمل هذا التحول، تحول باردايم ” الاسلام الحضاري ” ..
* * *
لست هنا بصدد استعراض كل أفكار مالك، والتي على جيلي أن يعيد اكتشافها، أو تطبيقها ، فلمالك مشروع يتميز بالشمولية، وما قاله عن المرأة مثلا، او عن الديمقراطية وعلاقتها – او عدم علاقتها – بالاسلام يستحق أكثر من مجرد وقفة “قراءة و اطلاع”.
لكني أحب هنا اذكر، أن رؤية مالك المختلفة، والتي تمثل منظومة فكرية مختلفة اشتملت على بذور لدراسات يجب أن تكتمل وتؤصل وتمنح مزيدا من البحث والمنهجية . لعل أهم هذه البذور هي مقولة مالك عن كون الدين باعثا أساسيا لكل النهضات الحضارية، هذه المقولة لا تزال في طورها الجنيني، وتحتاج الى المزيد من الدراسة المقارنة والتوسع في النتائج والاستدلال بالفوارق ..
لا سادية و لا مازوشية مع الاخر الغربي
وفي خضم الإعصار الذي يجتاحنا، ويجعلنا، ويجعلنا إما منتحرين فكريا او انتحاريين جسديا أو منحورين سلبيا، في خضم هذا الإعصار، يقف ( مالك ) نموذجا فريدا بين مفكري الأمة وروادها – ليس بكونه صاحب مشروع معرفي مختلف فحسب، ولا رؤيته مغايرة لما هو سائد، ولكن لأني ازعم أنه المفكر الوحيد ( من بين الرواد على الاقل ) الذي وقف على أرضية علاقة صحية مع الغرب .
الكثير من المفكرين، سقطوا في فخ العلاقة الشاذة غير الصحية مع الغرب، بين الانبهار والاحتقار، بين القبول المطلق والرفض المطلق ..
ليس سرا نذيعه اذ قلنا أن هذه العلاقة ” الشاذة ” بوجهيها هي وباء فكري مستشري تماما في الفكر الاسلامي منذ بزوغ أسئلة النهضة وأجوبتها في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي .
بقليل من الأنصاف، سيكون ذلك مفهوما تماما ، فقد كان لابد لصدمة الالتقاء بالغرب، أن تحدث أنبهارا مريضا، انطلاقا من معطيات التخلف المروع السائدة .. (أذكر هنا أن وصف بعض رواد الإصلاح للحياة الغربية كان فيه من الوجد والهيام ما يذكر بحالات التجلي التي يذوب فيها المتصوفون )..
ولكن مع الوقت، حدث صدام آخر مع الغرب، خاصة عندما كشر عن أنيابه ومطامعه بوضوح اكثر، وأحدث ذلك الصدام، رد فعل معاكس للاتجاه الأول، تمثل في الرفض المطلق لكل ما هو آت من الغرب، حتى لو كان هذا موافقا لقيمنا الأصلية .. وتمثل ذلك في أدبيات سائدة ومنتشرة ومعروفة ترفض أصلا أن تنظر او تسمع ما يقوله الغرب لأنه ” جاهلي ” تماما ..
والموقفان في واقعهما، وجهان لحقيقة واحدة تمثل الاستلاب برد فعليه المتعاكسين، بل أن هذا الاستلاب أحيانا يدخل في علاقة مركبة معقدة تجاه الغرب، تتمثل في علاقة ( حب – كره ) أي أننا نحب الغرب ونحب أن ( نكونه ) – لدرجة أننا نكرهه لأننا عاجزين عن أن نكونه ..فيتمثل ذلك في هستيريا جماعية ناقمة على الغرب تحت شتى المسميات والشعارات لكن المنطلق الأساسي يكون هو الغيرة بمعناها المعقد ..إنها علاقة يتبادل فيها السادي والمازوشي الأدوار، وتظهر على فكرنا ملامح ذلك بوضوح ..
* * *
بعيدا عن هذا الشذوذ الفكري كله، المنبهر والمحتقر، السادي والمازوشي، يقف مالك على أرضية علاقة ( صحية ) – خالية من العقد، ومن المواقف ( المطلقة ) سواء كانت الرفض او القبول، على أرضية ثابتة، لا تشبه أي أرضية وقف عليها الرواد – وقف مالك ليتفاعل مع الحضارة الغربية ومعطياتها وإرهاصاتها ونتائجها .
أنه المفكر الذي هضم الحضارة الغربية دون أن يصاب بعسر الهضم أو التخمة أو التسمم او الإدمان، لقد تمكن من تمثيلها تماما، واستخراج ما فيها من عناصر مفيدة والتخلص مما غير ذلك.
يمكن لمالك، وحده تقريبا، أن يستشهد بماركس او هيغل او نيتشة او فيورباخ او كيسرلنج او إنجلز او توينبي او شبنغلز دون أن يلعن او يكفر أو يسجد او يقف بذهول امام ما يقولون ..
اعتبر مالك الغرب، تجربة الحضارة الغربية ككل ” نموذجا للدراسة ” لا نموذجا ” للتطبيق ” – لقد هضمها تماما بحيث أنه صار قادرا على ذلك، دونما إدعاء او أحكام مسبقة . ” نموذج الدراسة ” هو المثل والعبرة والحقل الذي يمكن منه استنباط قوانين الحضارة ومعادلاتها ومنحنيات هبوطها وصعودها : حالها حال الحضارة الرومانية او الإغريقية او الاسلامية –التاريخية.
هكذا وقف مالك امام صرح الحضارة الغربية الشامخ كما نقف امام منجزات الحضارات الأخرى : امام الأهرام مثلا، او الأكروبولوس، أو الكوليزيوم : سنعجب حتما امام الإبداع الموجود في ثنايا هذه المنجزات، لكننا لن ننسحق امام قيم تلك الحضارات وأخلاقياتها وثوابتها، بل قد نعدها مرفوضة تماما بالنسبة لنا ..
كذلك وقف مالك امام منجزات الحضارة الغربية – دونما عقد خوف او حب مسبقة .
وكذلك يحتاج جيلي الى أن يتعلم من مالك .
تحويل مالك الى رف من رفوف المكتبة التقليدية
.. وعلي هنا أن أقول أن ظاهرة الاهتمام ( الأكاديمي ) المتأخرة بمالك هي أمر مقلق .
قد يبدو ذلك غريبا، وحري بي أن اعتبر هذا الاهتمام رد اعتبار لرجل طالما عانى من إهمال والإقصاء والعداء طيلة حياته – لكني رغم ذلك أجد الامر مقلقا وغير مريحا على الإطلاق ..
أني أجد هذا الاهتمام، في أحسن أحواله، شبيها بالاهتمام المتأخر الذي تلقاه ابن خلدون وشخصه ومؤلفاته بعد قرون من وفاته، ونقاط التشابه بين الرجلين كثيرة، وأرجو أن لا تكون النهاية متشابهة فابن خلدون، ضمن إطار عصره وتاريخه وبيئته، أنتج فكرا مغايرا للرؤية التقليدية السائدة آنذاك ، كانت أفكاره المبدعة نشازا ضمن جوقة السائد والمنتشر، كان هو الآخر ” باردايما ” مختلفا للمجتمع للعالم والعلاقات السائدة، لكن هذا الباردايم لم يكمل تحوله أبدا، لقد أنتصر الباردايم السائد، هزمه التقليديون، وظلت رؤيتهم هي السائدة، ولم يفلح فكر ابن خلدون في درء الغروب الذي كان قد بدء يضرب بأطنابه على الحضارة الاسلامية ..
.. ولم يكن الامر مجرد باردايم لم يكمل تحوله : كان الامر اكثر من ذلك . فأبن خلدون لم يلتفت اليه أساسا، أفكاره لم تعرف لا على نطاق واسع ولا ضيق حتى لاحقا بعد وفاته …
لقد أندثرت تماما لعدة قرون ..
وما كنا اليوم نعرف ابن خلدون ولا نقارن مالك به، لولا أن الغرب قد اكتشفه منتصف القرن التاسع عشر واحتفى به واكتشفناه مستوردا نحن أيضا، كما نستورد كل شئ، واحتفينا به وحضرنا المؤتمرات باسمه والندوات في تكريمه ، ولكن كل ذلك بعد فوات الأوان : كل ذلك بعد أن فات وقت الاستفادة من باردايمه، فكل منظور معرفي يحمل معه زمنه وظروفه ويحمل أجوبة لتساؤلات عصره .. ولا يمكن قسره على عصر آخر او ظروف أخرى بأي شكل من الأشكال .
من اجل ذلك، أجد نفسي ( متطيرا ) من مقارنة مالك بابن خلدون ..
أخشى أن تفعل به كما فعل بابن خلدون معاصروه ..
أخشى أن يكون باردايما آخر، يمضي دون أن نستفيد شيئا .
* * *
.. وأكثر ما يخيفني في الاهتمام الأكاديمي، هو أن جلها يعامله كما لوكان مفكرا إصلاحيا آخر – يقارن بغيره من الإصلاحيين – وهذا يقتل أهم ما في مالك : يقتل روح الثورة في فكره . يقتل روح الرؤية الأخرى المغايرة . يقتل وجه القمر الآخر الأكثر روعة والذي لا نراه ..
معاملة فكر مالك بهذا الشكل يسلب منه واحدة من أهم نقاط تميزه: أنه بحد ذاته بذرة لمشروع نهضة متكامل – لا يمكن أبدا أن نضعه كرقعة على ثوب الفكر التقليدي السائد..
أنه نسيج مختلف تماما، ومعاملته كرقعة لا تفرق كثيرا عن اللا مبالاة والصمت .. وقد تكون اشد قسوة من العداء ..
في دار حقه هناك، عند من لا يضيع عنده حق احد، لا يحتاج مالك الى شئ من كل هذا.
أنه لا يحتاج الى كتابة المقالات عنه، ولا البحوث الأكاديمية، ولا حتى إعداد رسائل الماجستير والدكتوراه عنه ..
أنه لا يحتاج الى المؤتمرات، والندوات، وحفلات العشاء التي تقام تحت شعار تكريمه والاحتفاء به ..
بالنسبة له :كل ذلك لم يعد يعني أي شئ . أنه لا يحتاج ( منا ) الى أي شئ ..أنما نحن نحتاج الى أشياء ..
بعد اعادة الاكتشاف : التفعيل
لا يحتاج جيلي الى محض ” إعادة اكتشاف ” لمالك . او ” إعادة قراءته ” وأكيد لا يحتاج الى ” إعادة الاعتبار له ” .
يحتاج جيلي الى أن ” يفعّل ” مشروع مالك – الذي هو مشروع النهضة الاكبر من أن تختصر بمالك بن نبي او أي اسم آخر _ الى أن يكمل الدرب، الى أن يساهم في عملية تحول الباردايم التي لم تكتمل ..أن نمضي قدما في ذلك المنهج المختلف في التعامل مع النصوص ، عبر قراءتها عبر العالم ، بدلا عن قراءة العالم بها..
لنعترف : ترك مالك بذرة عظيمة المواصفات، لكن ذلك لم يكف لنمو الشجرة المرجوة .. فالتربة قتلها الإهمال وتصحرت وصارت مفككة لا تحوي ماءا ولا تنبت نباتا ، لم تمر غيمة منذ قرون، ولم يهطل مطرا ولم يكن هناك حتى سراب ..بذرة مالك عظيمة فعلا، لكنها تكاد تموت . تحتاج الى تهجين وتحسين، تحتاج الى ( طفرة جينية ) لاستحداث صفات جديدة مقاومة وتحتاج التربة الى إصلاح. في الحقيقة أنها تحتاج الى ما هو أكثر من إصلاح . .. تحتاج الى استبدال . تحتاج الى تربة جديدة يمكن للجذور تنمو فيها وتمتد فيها وتتشابك لتأخذ كل الأوكسجين الذي تحتاجه ..
..ونحتاج ايضا الى أن نخطط للحصول على الماء لسقي هذه البذرة، نحتاج الى خطة استسقاء تشتمل الى ما هو اكثر من مجرد صلاة استسقاء، تهدف الى تحويل كل ذرتين هيدروجين وكل ذرة أوكسجين الى ماء يسقي تلك البذرة ..
.. ونحتاج بعد ذلك الى السماد الذي يحافظ باستمرار على حيوية التربة : أنه تلك المركبات العضوية التي تمد البذرة بمختلف العناصر والمركبات – أنها بمثابة التلاقح الذي يمنحه الاختلاف والرأي الآخر، الناتج من الأمثلة ( الحضارية ) الأخرى ..
.. كل ذلك تحتاجه تلك البذرة .
أنها ليست مجرد بذرة، الا إذا أصررنا على أن نراها متروكة تحتضر في الارض البوار، بينما نتأمل نحن في صفاتها ومواصفاتها وسلالتها وكل قابلياتها الكامنة، ثم عندما تموت تماما ، نحملها الى المتحف ونضمها الى بقية البذور الميتة التي تركناها تموت في الارض الخطأ والجو الخطأ والظروف الخطأ ، ثم شيعناها بالتكريم والاحتفاء الذي لن يحييها ولن يحيي الأرض الموات … لا توجد بذرة باردايم تنمو وحدها، أنما هي مسؤولية أجيال..
ومع باردايم ” الاسلام الحضاري “- هي مسؤولية جيلنا ..
[1] شروط النهضة.!
[2] لا يمكن ابدا نفي صحة أن بعض المفاهيم الدخيلة و تنكرها خلف نصوص دينية اسلامية قد ساهم فعلا في التدهور- لكن هذا يظل عامل من عومل متعددة و بعض العوامل كان داخليا محضا و تنكر ايضا خلف فهم معين للنص الديني رغم كونه بعيدا عن روح النص
[3] مفهوم الثورة: عبد الرضا الطعأن.منشورات وزارة االتعليم العالي و البحث العلمي. بغداد. 1980 . دار المعرفة.
[4] للمزيد عن مصطلح البارديغم يمكن مراجعة موسوعة الويكيبيديا على الأنترنت. بالعربية و الأنكليزية
[5][5] THE STRUCTURE OF SCIENTIFIC REVOLUTIONS. THOMAS KUHN CHICAGO PRESS. 8TH EDITION
1966
او النسخة المترجمة: بنية الثورة العلمية- توماس كون – ترجمة شوقي جلال- عالم المعرفة- الكويت- 1992
[6] paradigm shift
http://www.en.wikipedia.org
· و هذا هو العبء الحقيقي الملقى على اكتاف الجيل الحالي
[7] شروط النهضة . دار الفكر. ط4 . ص149
[8] شروط النهضة. ص35. دار الفكر.دمشق الطبعة الرابعة
[9] شروط النهضة ص 81 و ما يليها
[10] شروط 89
[11] الفردوس المستعار و الفردوس المستعاد :احمد خيري العمري– دار الفكر دمشق
[12] شروط 89
[13] شروط 93
[14] للمزيد عن رواسب الماضي و اثارها السلبية: البوصلة القرأنية, فصل الامس المستمر. احمد خيري العمري . دار الفكر دمشق
[15] شروط 86
[16] شروط النهضة 87
[17] شروط 88
[18] للمزيد عن اثر تجارة الترأنزيت على سلبية العرب منذ الجاهلية حتى الأن: البوصلة القرأنية احمد خيري العمري ص 209 – 213 و ايضا 284-287 دار الفكر دمشق
[19] شروط النهضة ص 118
[20] شروط النهضة ص 139
[21] شروط 143
[22] شروط النهضة 145
[23] شروط النهضة ص 145 ايضا
شكراً على هذا المقال الرائع بشموليته ووضوح بوصلته بإتجاه التحدي الأكبر لأمة الرسول الخاتم ص و هو النهوض و التخلص من أغلال الجهل و التحريف