سبتمبر 2014
تحدي الكتب !
الكتب التي ساهمت في تكويني هي الكتب التي قرأتها قبل الثامنة عشر .
بعدها هناك كتب ثرية تفاعلت معها بلا شك ـ لكن ما قبل الثامنة عشر كانت مختلفة.الكتب الأخرى تركت بصمات ، أما كتب ما قبل الثامنة عشر فهي “تعجن “. على الأقل الكتب التي تأثرت بها قبل الثامنة عشر “عجنتني”…
لا أقصد هنا أن الكتب بعد هذا السن لا تغير ولا تعجن ، لكن أتحدث عن تجربتي الخاصة فحسب.
تحدي الكتب بالنسبة لي هو أن أتحدى ذاكرتي لأعرف ماذا قرأت وبم تأثرت في تلك المرحلة المبكرة من حياتي…من السهل أن أرد على السؤال بالكتب التي تناسب (وضعي الآن) ..أفضل أن أنقب في كتبي الحقيقية التي باتت معي في سريري في تلك الفترة من عمري…
-1أول ما أذكره من تلك الكتب هو سلسلة “الناجحون” التي أصدرتها دار العلم للملايين ، كانت سلسلة رائجة جدا عن شخصيات غيرت العالم في مجالات مختلفة ، كان هناك كتب عن أديسون وهيلين كيلر ونابليون وطارق بن زياد وصلاح الدين وغاندي وباستور ومدام كوري وبيتهوفن وزنوبيا وابن بطوطة وشجرة الدر وكولومبوس والمتنبي وشكسبير. كانت السلسلة ناجحة وأنيقة بمقاييس ذلك الزمان ومكتوبة بلغة سهلة وبسيطة ، كنت في الثالث الابتدائي عندما جمعتها وقرأتها كلها وكانت كثيرا ما تكون مثار نقاش وجدال مع الأصدقاء في الصف.أمر لا أعتقد أنه سيحدث بسهولةهذه الأيام.
لا يمكن أن تكون هذه السلسلة قد مرت دون أن تترك أثرا كبيرا في داخلي ، سواء من معنى النجاح ، أو من شموليته في مختلف المجالات .
يلتحق بها بدرجة أقل سلسلة أخرى هي سلسلة “الأبطال” ، كانت أصغر حجما وأقل رواجا ، وكانت تتحدث عن الصحابة ، وربما وصلت لبعض التابعين.لغتها كانت أصعب ، لكنها كانت ناجحة أيضا.
-2(مع الأنبياء في القرآن الكريم ) لعفيف عبد الفتاح طبارة . بقي هذا الكتاب رفيق طفولتي المفضل لفترة طويلة، لم يكن كتابا للأطفال ، لكنه كان مكتوبا بلغة سهلة ، ولم يكن هناك ما يدل على أنه مكتوب للناشئة حسب ذاكرتي (ربما هذا جعلني اتعلق به أكثر..أنه كتاب للكبار ؟!) أذكر أني كنت أتسلق زيتونة بيت جدي وأجلس في مكان تفرقت فيه الأغصان لتشكل ما يشبه المقعد ، ويكون معي هذا الكتاب.
أكثر ما بقي مطبوعا في ذهني من الكتاب هو أن المؤلف يروي قصص الأنبياء وقد نظفها تماما من الإسرائيليات ، كان قد قال هذا مرارا ، لكني خبرت الأمر مبكرا عندما قررت أن أقرأ كتابا آخر عن قصص الأنبياء ووجدته مليئا بقصص غريبة لم تكن موجودة في كتاب عبد الفتاح طبارة.وفهمت مبكرا ضرورة تنظيف التراث.
هذا الكتاب شدني إلى كتب أخرى للمؤلف : “روح الدين الإسلامي” و “روح الصلاة في الإسلام”..اقتنيتهما فقط لأن الكاتب هو طبارة وأحببت كتابه الأول ، كانا أعقد بكثير من أن يقرأها من هو التاسعة من العمر ، لكني قرأتهما ربما لكي أثبت لأهلي أني قادر على ذلك ، ربما كان بذرة لكيمياء الصلاة في عنادي ذاك.
3- موسوعة المعرفة : مجلدات قيمة في شتى مجالات العلوم أظنها كانت من إصدار دار العلم للملايين أيام كانت من أهم دور النشر في العالم العربي ، العلوم تقدم بلغة عربية متينة وميسرة للناشئة .كان هناك تنافس من زملاء الصف أيضا في اقتناء وقراءة هذه الموسوعة.
4– (خلفاء الرسول) لخالد محمد خالد ، كان سعر الكتاب خمسة دنانير ! فاوضت أبي رحمه الله لفترة ، وقلت لأمي أني عندما ولدت لم تمكث في المستشفى لأني ولدت قبل الوصول لصالة الولادة ـ وبالتالي فأني لم “أكلفهم” – ويمكنها أن تعتبر هذه بتلك ! ( استخدمت هذه الحجة عشرات المرات لاحقا ، خاصة مع معارض الكتاب ) علما أنهما لم يقصرا أبدا بالذات مع طلبات الكتب ، كل طلب آخر كان يمكن أن يواجه بقبول أو رفض حسب الظرف والطلب ، لكن مع الكتب لا..كان الأمر دوما ميسرا.
لا أدري إن كنت تأثرت فعلا بما كتبه خالد محمد خالد ، اليوم أقول ربما التعرض لأسلوبه الأدبي في سرد التاريخ قد أثر في أكثر مما تصورت ، الكتاب يرتبط بواقعة صغيرة جدا ولكنها بقيت في بالي ، كنت في التاسعة عندما قرأت هذا الكتاب ، أعرف أن هناك سنة وشيعة وأننا سنة ، ولكن ليس أكثر بكثير. كانت تأتي إلى بيت جدي فتاة شابة تساعد جدتها التي كانت تعمل سابقا في بيت جدي ، الفتاة كانت متعلمة ، وتوظفت في تلك الفترة أو بعدها ، وتعامل وجدتها كواحدة من أهل البيت ، الفتاة كانت شيعية ،وكنت على ما يبدو أجبرها على سماع ما أقرأ أو الحديث عنه..أذكر أني تحدثت لها عن عناوين فصول هذا الكتاب (وهو عمليا خمس كتب عن الخلفاء الراشدين (مع عمر بن عبد العزيز) وضمت في مجلد واحد.أذكر أنها لم تتمالك نفسها عندما قلت عنوان كتاب عمر “بين يدي عمر” …شيء ما في عينيها خانها ، لم تستطع التمثيل ، لم تنطق بكلمة ، لكني قرأت وجهها ، مع عنوان كتاب عثمان “وداعا ..عثمان” تمكنت من السيطرة مجددا على تعابيرها وقالت “يا عيني”.
لقطة سريعة جدا ، لكني تمكنت من استيعاب السبب وعرفت أي شرخ يوجد في المجتمع.
لم يتغير شيء في تعاملي مع الفتاة ، ولم أخبر أهلي أو أي أحد بتلك اللقطة الهاربة من وجهها ، لم أتحدث عن الأمر إلا الآن..لأني تذكرت أن هذه اللقطة وتلك العناوين هي كل ما بقي من الكتاب في ذاكرتي.
5 – السيرة النبوية : لا أدري أيهما سبق الآخر ، فلم الرسالة أم مختصر سيرة ابن هشام ؟ (اشتريته من مكتبة الشموع في المنصور!)..لكني أعلم أني أحببت أكثر سلسلة سيرة للناشئة من أربعة أجزاء (اليتيم ، الرسول ، المهاجر ، الفاتح).
في تلك الفترة كنت أروي قصص السيرة لاصدقاء الصف بعد الدوام ، بقيت في بالي حادثة صغيرة من هذه الفترة بينت لي مبكرا كيف أن اللغة يمكن أن تكون مضللة ، وكيف أن قلة الفهم مشكلة عويصة…
كنت أحكي بالعامية عن إرساله عليه الصلاة والسلام لعثمان إلى مكة قبل صلح الحديبية فقلت “دز النبي عثمان لمكة ..”
فجاءني السؤال : ليش عثمان كان نبي؟!
ومن السيرة ايضا سلسلة “عبد الحميد جودت السحار” (محمد رسول الله والذين معه) (عشرين جزءا مكتوبة باسلوب روائي ) وبقي في ذاكرتي مشهد محرج من الجزء الأول من السلسلة ، إبراهيم ابو الأنبياء ، ولعل بذور اهتمامي بإبراهيم وتساؤلاته هناك ، أما المشهد المحرج فقد كان أن الكاتب قدم إبراهيم وهو يبيع الأصنام وهو يصيح ساخرا منها ( من يشتري ما لا يضر ولا ينفع) -وهو مشهد أظن أني استخدمته محورا في ( أبي اسمه إبراهيم )- في نسخة السحار من الرواية ، تنزعج إحدى “عاهرات المعبد” أو العاهرات المقدسات” من إهانة إبراهيم للإلهة فتشتري صنما لتنقذه من المهانة . طبعا أخوكم في الثاني الابتدائي ولا يعرف معنى هذه الكلمة ولعلي فهمت أنها شيء مثل الكاهنات ، وبمنتهى الثقة قمت بمداخلة على مائدة العشاء في بيت جدي وبحضور ضيوف ، متحدثا عن إبراهيم الذي باع الأصنام وهو يصيح أنها لا تضر ولا تنفع ، إلى أن جاءت “العاهرة” !! لكي تنقذ الآلهة. هكذا.
حصلت على ركلة تلقائية من تحت المائدة من أمي التي سارعت للترقيع والاعتذار أني لا أعرف معنى هذه الكلمة وكنت فعلا لا أعرف معناها ، لا أذكر حقيقة إذا ما كانت أمي أنبتني لاحقا أم أنها اكتفت بالركلة..، لكن كان الأمر درسا لي أن أتأكد مما سأقول قبل عمل مداخلات.
-6معاني القرآن : كتاب بسيط صغير ، بحجم الجيب ، بطريقة الكلمة ومعناها ، كان يرافقني دوما في قراءة القرآن ، لم اكن أذهب لتفسير الجلالين كما هي العادة في البيت ، كنت أذهب لهذا القاموس الصغير فقط….اعتقد أن هنا بذرة مهمة من بذور تعاملي مع القرآن…ولا يمكن هنا أن أنسى تأثيرا لا بد أن يكون قد حدث لي عبر منهج (تفسير القرآن الكريم) في المدارس الابتدائية في العراق آنذاك ، تحديدا بين الصف الرابع والسادس ، كان هذا الكتاب عادة ما يهمل في الامتحان ويقدم عليه منهج (التربية الإسلامية) ، ولا أعرف حقيقة من هي اللجنة التي أشرفت عليه ، كان مطبوعا طباعة مختلفة وأكثر فخامة من بقية الكتب المدرسية ، وكانت التفسيرات التي فيه عقلانية جدا ، عقلانية لدرجة أننا لا نستطيع أن نقولها علنا اليوم….كان يا ما كان.
-7 موسوعة الصحافة لفائق بطي ..لا أعرف كيف يمكن أن أفسر هذا الكتاب هنا ، لكنها الحقيقة..كان لدينا في السبعينات ثلاث صحف فقط ، حكومية طبعا ، الثورة والجمهورية والعراق ، كلها متشابهة لدرجة أنها فوتوكوبي من الأخرى…هذا الكتاب كان يتحدث عن عصر آخر مزدهر لحرية الرأي والصحافة ، عشرات الصحف والمجلات ، باسماء مختلفة ، وتوجهات مختلفة ،كنت أقرأ في الكتاب قبل النوم ، رغم أنه سرد لأسماء الجرائد ومؤسسيها وتوجهاتها وكم استمرت…لعله رغبة في أن يكون هناك وضع مختلف؟ هل كنت أرغب في أن أكون صحفيا؟..لا أعلم.لكن هذا الكتاب كان موجودا بالتأكيد تحت وسادتي وأنا في التاسعة من العمر.
-8 الإلياذة – لهوميروس : غالبا اعتبرتها كتاب مغامرات.لكني أغرمت بها كثيرا …سكب الماء عليها وبللت أطرافها..لكنها بقيت أثيرة.
– 9 نجيب محفوظ / إحسان عبد القدوس : قرأت أولا إحسان عبد القدوس ، ولكني مع الوقت تأثرت بنجيب محفوظ أكثر ، كانت روايات إحسان تحدث في طبقة أقرب لي اجتماعيا ، لذلك كنت أحبها أكثر ، خاصة ( لا تطفيء الشمس ، في بيتنا رجل ) ، وألهمتني رواية (الطريق المسدود) كثيرا ..كما أن الجانب الشرير في ( لا أنام) كان مبدعا وشدني كثيرا من الناحية الفنية، لإحسان تفاهات كثيرة ركزت عليها السينما المصرية ، لكن لديه أيضا أعمال مبدعة وتستحق الاهتمام ، ربما كان الحوار بالعامية المصرية سببا في عدم أخذه جديا (وهو مأخذ مهم) لكن رواياته تشبه في جانب كبير روايات سومرست موم…يخيل لي أن الوقت تجاوزه الآن ، لكن هناك بضعة أعمال له تستحق أن يعاد اكتشافها.
أما نجيب محفوظ فهو أعمق بكثير ، وأغمق أيضا ، وربما هذا ما جعلني أفضل إحسان أولا.أما ما حسم موقفي من محفوظ إيجابيا فهو – وياللعجب- رواية “أولاد حارتنا” ذاتها التي تذكر الإسلاميون لاحقا أن يناكفوه عليها مع الجدل حول رواية سلمان رشدي أواخر الثمانينات ، قرأت الرواية قبل هذا الجدل بسنوات (عام 1983 وكنت في الثاني المتوسط أي السابع) ، قرأتها في امتحانات نصف السنة وكان لدي امتحان فيزياء في اليوم التالي ، قرأتها مبهورا تماما بكل ما فيها ، الرموز التي وظفها محفوظ هائلة ومحفزة للخيال والتفكير ، وقتها فهمت معنى أن “تشغل رواية عقلك” لا أن تمتعك فحسب.كل ما قيل عن إلحاد محفوظ في الرواية لا معنى له ومن قال ذلك غالبا لم يكمل قراءة الرواية ، ومناكفة بعض الإسلاميين لأولاد حارتنا نموذج مبكر لمناكفتهم لكل شيء لاحقا ، حتى لأنفسهم. بعضهم يعيش في الغيتو ، ويريد لأولاد الحارة أن يتركوا الحارة ويسكنوا الغيتو.
أحببت لمحفوظ أيضا “ميرامار” ، التقنية الي استخدمها كانت رائعة جدا ، كل فصل تعاد فيه الأحداث ذاتها ولكن من يرويها يكون شخصا مختلفا من شخصيات الرواية ، لا تفهم الأحداث فقط من وجهة نظر أخرى ، ولكن أيضا تفهم الدوافع النفسية داخل كل شخص.
حوارات محفوظ في كل أعماله رائعة.هو أستاذ في الحوار بلا شك. لا أزال أذكر حوارات السيد أحمد عبد الجواد مع أصدقائه.أحيانا تكون الجمل حكم مقطرة في سطر مقتضب.
10-غادة السمان/ غسان كنفاني : أقر أنا الكاتب الإسلامي أعلاه ( تم سحب هذا اللقب مني بالمناسبة قبل فترة ، لكن ما علينا) أني ما كنت سأكون كما أن اليوم لولا تأثري في فترة مبكرة من حياتي بكتابات غادة السمان.ليس لدي أي مشكلة في الإقرار بهذا ، وسيكون هناك مشكلة لدي الكثيرين (في الغيتو) في هذا الإقرار ، غالبا لم يطلعوا على نتاج غادة ولكنهم شاهدوا صورها الشخصية فقط وبنوا عليها قراراتهم.
بعيدا عن صور غادة وحياتها الشخصية ، فقد قدمت غادة ، لي شخصيا ، عبر أدبها ومقالاتها جرعة مزلزلة من الوعي ، وبأسلوب أدبي مغاير تماما لكل ما كنت قرأته قبلها ، كان لقائي الأول بها عبر مقال في مجلة (الدستور) اللندنية..كان المقال عن صورة العربي في السينما الغربية ، شدني ما تقول ، وعندما اقتنت شقيقتي رواية “بيروت 75” (من مكتبة البعث في شارع السعدون) ( كان ذلك في سبتمبر 1980 ، أوائل أيام الحرب العراقية الإيرانية ، حدثت غارة أثناء تواجدنا في المكتبة وأسرعنا لأخذ سيارة أجرة والعودة إلى البيت ، كنا مع خالتي التي تعيش في الخليج وجاءت في زيارة ثم منعتها الحرب من العودة ، أثناء ركضنا لسيارة الأجرة سقط ابن خالتي وجرحت ساقه ، ثم التهب الجرح وأصابته الحمى ، سافروا برا إلى الأردن ودرجة حرارته أربعين..استشهد لاحقا على يد المليشيات في 2005) أقول عندما أشترت شقيقتي رواية (بيروت 75) تسللت لأخذها وقرأتها في ليلتها ، حدثت غارة أخرى أثناء قراءة الرواية واختلطت أجواء الرواية بصوت القصف وبصوت الغارة بالتعتيم الذي كان يفرض ايامها ، أسلوب غادة السمان في الرواية يشبه أسلوب الإخراج السينمائي ، وهو أمر راق لي كثيرا ، كلمة راق لي هنا قاصرة جدا ، فقد تفاعلت مع هذا الأسلوب بشدة وانفعلت أيضا ، ومع “كوابيس بيروت” قررت أنه أما أن يكتب المرء هكذا أو لا يكتب أبدا …
رافقت غادة طويلا ، ولا أزال أعود لأحرفها ، سلسلة الأعمال غير الكاملة التي أصدرتها مطلع الثمانينات ( 12 جزءا آنذاك) كانت جزءا مهما من تشكل وعيي وثقافتي في تلك الفترة التأسيسية مما يسمى عادة بالمراهقة ، ويمكن بسهولة أن نجد آثارا لغادة السمان في نتاجي ، خاصة (صفارة إنذار داخل رأسي) و(القبيلة تستجوب القبيلة).
فترة الستينات والسبعينات هي الأكثر غنى في نتاج غادة السمان برأيي ، لاحقا حدث شيء ما لقلمها ، لا أعرف ما هو بالضبط وأتمنى أن أكون مخطئا …لا أزال أحب نتاجها كله ، لكن تلك المرحلة كانت أكثر غنى في رأيي.هي صاحبة أجمل وأجزل قلم عربي معاصر برأيي,مع الاحترام للجميع.
وغادة تقودنا لغسان كنفاني حتى لو كنا لا تعرف شيئا عن علاقتهما ، طبعا لم تكن الرسائل التي كتبها غسان لها قد كشفت ، لكن غادة في مقالاتها ، منذ الستينات ، تتحدث عن رسائل غسان إليها (كنت أتصور أنا أنهما صديقين ، منتهى البراءة!) ، لكن الأهم هو ما كتبته هي من مقالات عند وفاته من إشارات إلى رواياته وكتبه ،ونشرت تلك المقالات لاحقا في “الأعمال غير الكاملة” مما جعلني أقرأ روايات غسان وأحبها جدا خاصة (رجال في الشمس) بنهايتها المذهلة ، و(عائد إلى حيفا) بحواراتها العميقة التي لا تنسى.
لاحقا بعد أن نشرت غادة رسائل غسان إليها ، وصدقت برأيي في أنها أجمل ما كتب بالعربية ، صرت أجد أن حرف غادة تغير منذ أن دخل غسان في حياتها ، عندما أربط تواريخ الرسائل بتواريخ نتاج غادة ، أجد أن غسان قد ترك بصمة في حرف غادة المبدع أصلا…
11 – الفوائد / إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان / مدارج السالكين هذه المؤلفات الثلاثة يجمعها رابط روحاني – أخلاقي واضح ،كنت أحفظ بعض المقاطع من الفوائد ومن مدارج السالكين أو أقرأها بصوت عال للمساكين الذين يسمعون لي.
تأثري بهذه الكتب واضح في بعض نتاجي ، خاصة سلسلة (ضوء في المجرة).
أحببت أيضا (بخلاء الجاحظ) في نسخة مختصرة منه ،..وكذلك (كليلة ودمنة).
كما كان هناك كتاب شهي جدا بعنوان (من كل واد حجر) لخير الدين العمري ( قريبي ولكنه ليس والدي وقد توفي في الخمسينات).الكتاب يضم انتقاءات جميلة جدا من التراث العربي وكنت أقرأ منه بصوت عال للمساكين من حولي.
-12-كولن ولسن : هذا الكاتب كان موضة أيام مراهقتي.اليوم تقريبا لا يعرفه أحد ، كان كتابه (اللامنتمي) علامة مهمة جدا آنذاك ، وكل مراهق يقرأ قرر انه ايضا لا منتمي بالضرورة ، كان اللا انتماء يعني التفرد والتميز والإبداع ، بكون بعض المبدعين لا منتمين ، فهمنا الأمر خطأ على ما اعتقد ، توهمنا أن كل من لا ينتمي يكون مبدعا بالضرورة ، كان كولن ولسن يقدم وجبة ثقافية دسمة لكل من يرغب في أن يبدو مثقفا ! وكانت كتبه (خاصة :اللامنتمي وما بعد اللامنتمي ، سقوط الحضارة) بمثابة دليلا ثقافيا شاملا لما يمكن أن تقرأه أو تحفظ اسمه فقط إن شئت..بسبب كولن ولسن اشتريت كتاب شبنغلر (تدهور الغرب) ، أزعم أني قرأت جزءا كبيرا منه.
بقي من كولن ولسن في بالي جملة خارقة ، لا أدري إن كانت له أو نقلها عن برنارد شو : نحتاج إلى دين واضح وضوح عناوين صحف الأحد.
وقتها قلت : لكن لدينا هذا الدين!..كنت بريئا جدا كما تلاحظون ـ ولم أكن أدرك أي جرم أحدثته المؤسسة الدينية التقليدية بالدين الواضح وضوح صحف الأحد في لندن.
-13فرجينيا وولف : كانت “السيدة دالاوي” رواية رائعة جدا ، وكانت ترجمة عطا عبد الوهاب أيضا رائعة ( وكانت هناك حركة ترجمة رائعة في العراق أيامها من خلال دار المامون الحكومية) أحببت تعبير فرجينيا وولف عن مكنونات النفس وتوتراتها وتناقضاتها كلها في ساعات قليلة تسبق إعداد السيدة دالاواي لحفل عشاء في منزلها ، لاحقا تعرفت أكثر على تيار الوعي عبر أعمال اخرى لوولف (فلاش ، حيث تقدم وولف العالم من خلال انفعالات ومشاعر كلب ، ما كنت أتخيل قبلها أن اللغة تستطيع التعبير عن هذا) وأعمال أخرى لهنري جيمس وجيمس جويس ووليم فولكنر.
14 -ماركيز : الحب في زمن الكوليرا : تلك الفانتازيا الساحرة سحرتني وأرجو أن يكون هناك أثر لهذا السحر في نتاجي..أذكر كيف كان التدافع للحصول عليها من معرض الكتاب !…لم أحب “مائة عام من العزلة” أبدا ، احببت “وقائع موت معلن” في نفس الفترة و”اختطاف ” لاحقا. أحببت ايضا “ليس لدى الكولونيل من يراسله”…ماركيز روائي مبدع ، كان يجب أن يمنعه أحد من نشر آخر رواياته (الغانيات الحزينات)…
أحببت أيضا رواية (ألف وعام من الحنين) لرشيد بوجدرة ورأيتها ماركيزية النفس ولا تقل عن أعمال ماركيز ، قرأت أعمالا أخرى لبوجدرة ولم أحبها ، لكنه فتح لي بوابة كتاب المغرب العربي وخاصة الطاهر وطار .
15 -علي الوردي : ربما كان من الصعب أن تقر بـتأثرك بشخص كان صديقا لوالدك وكان يأتي لمجلسه ، خاصة إذا كنت قد عرفته وقد تغير عن مرحلة نتاجه الأولى المهمة ، …وكان علي الوردي صديقا لوالدي ، وكتب مقدمة كتاب والدي الأول (شخصيات عراقية) ، وعندما كنت في مرحلة القراءة له ، كان علي الوردي قد اعتزل الكتابة تقريبا (غالبا كان قد حورب ، ومنعت كتبه لفترة طويلة في العراق) وعندما عاد إلى الكتابة عاد ليكتب في خوارق اللاشعور والباراسايكولوجي وهو أمر لم آخذه على نحو جاد أبدا حتى في مراهقتي.
كتاب (شخصية الفرد العراقي ) كان مهما جدا برايي ، أعتقد الآن أن كتاب (حنا بطاطو) عن العراق أفضل ، لكني لم أطلع عليه إلا لاحقا ،(مهزلة العقل البشري) و(وعاظ السلاطين) أيضا مهمان ، مع العلم أن الظرفاء الذين يصنفونه إسلاميا لم يفهموا شيئا مما قال.
16 مالك بن نبي- (شروط النهضة) : كان هذا الكتاب مثل صدمة بالنسبة لي ، أحبطت يومها لأني لم أكن أعرفه سابقا ـ وقد كتبت عن ذلك في (حدثنا مالك قال) – كان الكتاب أيضا مثل طفرة جينية في فكري ، خاصة أني اشتريته في نفس اليوم الذي اقتنيت فيه كتاب أصل الأنواع لتشارلز داروين ! (رمقني البائع يومها بنظرة ، وكان مع الكتب أيضا كتاب المسلم في عالم الاقتصاد لمالك أيضا ، البائع عراقي ولا يمررها ..قال ما هذه التناقضات..فرددت فورا أن المعرفة لا تتجزأ..فأيدني قبل أن أغير رأيي ولا اشتري منه!).
أدرك أن ثمة كتب مهمة لا بد أن تكون قد أفلتت من ذاكرتي ، بقيت بصماتها في داخلي ولكن تسربت من ذاكرتي ، هذا ما جعلني أسجل هذه الكتب أعلاه ، أخشى أن تتسرب هذه الكتب أيضا…
… لو أني أحلق الآن إلى مكتبتي في بغداد..أمسح الغبار عنها..أطوف في رفوفها لأتذكر أكثر…
كان هذا أيضا تحليقا إلى بغداد…التي كانت تقرأ يوما ما ما تكتبه القاهرة وتطبعه بيروت…